تعتبر معرفة دوافع الخصم إحدى أهم قواعد الدبلوماسية. كما يعتبر فتح باب لخروج الخصم بصورة كريمة قاعدة هامة أخرى إذا أردتَ أن تتفادى الدخول في صراع؛ إذ أن مواصلة الضغط قد تدفع الخصم إلى الانفجار للرد على ما يتعرض له من إهانة وإصابات. والقاعدة الثالثة هى أن عليك أن تتحدث بلغة يفهمها خصمك، وقد تكون تلك اللغة أحياناً نفس اللغة التى يستخدمها ذلك الخصم. يعتبر التصعيد القائم في أوروبا الشرقية مثالاً ممتازاً لتطبيق القواعد سالفة الذكر. فعلى الغرب أن يدرك دوافع روسيا لحشد أعداد ضخمة من القوات على الحدود مع أوكرانيا: وفقاً للتصريحات الرسمية الروسية، روسيا لا تريد الحرب. إنها تريد ضمانات بأن حلف شمال الأطلنطى لن يتمدد إلى الشرق. كما تريد من الحلف أن يخفف من تواجده العسكرى داخل أعضائه من دول شرق أوروبا. هذه الأهداف المعلنة تكشف عن الشعور بتهديد مزدوج.

أولاً، تشعر روسيا بأن تمدد حلف شمال الأطلنطى إلى حدودها يمكن أن يؤدى إلى ثورة ربيع أو ثورة ملونة أخرى مثلما حدث في شرق أوروبا أواخر ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضى، وفي أوكرانيا ذاتِها عام 2014. يفسِّرُ ذلك الدعمَ القوىَّ الذى قدمته روسيا مؤخراً لحكومة روسيا البيضاء الموالية لها. ثانياً، وربما أهم من ذلك، يريد رئيس روسيا فلاديمير بوتن أن يضمن تمكنه من إعادة الترشح والفوز بالرئاسة دون تحديات جدية إلى أجل غير مسمى. فهو لا يريد أن يقوم الغرب بتشجيع أو مساندة المعارضة الليبرالية لحكومته. ويحتاج بوتن إلى الحفاظ على اقتصاد مستقر وتدفق ثابت للدخل من صادرات النفط والغاز من أجل الاستمرار في السلطة بأقل قدر من المشاكل.

حلف شمال الأطلنطى لا يتطلع إلى الحرب هو الآخر؛ وإلا لكان قد عجل بقبول طلب أوكرانيا للانضمام إليه. كما أنه لا يريد أن تتمدد روسيا نحو الغرب؛ ولا أن توجه تهديداً عسكرياً لأعضاء الحلف في أوروبا. ويريد بالطبع الحفاظ على ما حققه من مكاسب سياسية وعسكرية هناك. يريد الحلف أن يحافظ على مصداقيته كذلك، وأن يمنع تكرار احتلال وضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014. ويرغب أعضاء الحلف في أوروبا في الحصول على مصدر مستقر يعتمد عليه للطاقة من روسيا. ولا تريد الولايات المتحدة، وبصفة خاصة إدارة الرئيس بايدن، أن تبدو ضعيفة في عام ستجرى فيه انتخابات نيابية من المتوقع أن تعيد تشكيل التوازنات القائمة في الكونجرس.

أوكرانيا لا تريد الحرب كذلك. فهى تريد فقط حماية استقلالها ووحدتها الإقليمية. كما أنها تريد الحفاظ على ديمقراطيتها الهشة التى نتجت عن ثورة عام 2014. وهى بالتأكيد لا تريد العودة لنظام سياسى مشابه لِلَّذِى سبق الثورة؛ ولا لحالة التبعية لروسيا.

هل يمكن التوفيق بين كل هذه الدوافع المتعارضة؟ تقديرى أن ذلك ممكن في مواضع، وصعب في مواضع أخرى. ومن حسن الطالع أن الدافع الرئيسى للأطراف الثلاثة متطابق: كُلُّها لا تريد الحرب. فالحشود العسكرية والمعارك اللفظية تهدف لتحقيق نتائج سياسية أكثر مما تهدف لتحقيق نتائج عسكرية. على الجانب الآخر، فإن حلف شمال الأطلنطى لا يمكن أن يقبل بتقييد اختياراته بشأن من ينضم للحلف في المستقبل؛ لكنه يستطيع بسهولة أن يبطئ تمدده المزعوم نحو الشرق.

كما يمكنه كذلك أن يوفر لروسيا وللعالم ضمانات أمنية وإجراءات عملية لِلتحقق من أن التواجد العسكرى للحلف في أعضائه من أوروبا الشرقية لا يمثل تهديداً وشيكاً لروسيا. ولا تستطيع الولايات المتحدة ولا أوروبا الغربية التخلى بصورة رسمية عن مساندة الديمقراطية وحقوق الإنسان في روسيا وحول العالم؛ لكنها تستطيع السعى إلى تحقيق تلك القيم السامية بوسائل مختلفة: فقد احتفظت على الدوام بعلاقات أكثر من ودية مع نظم غير ديمقراطية حول العالم -بكل ما يقتضيه ذلك من مساعدات اقتصادية وعسكرية- مع ممارسة ضغوط سياسية لتشجيع الديمقراطية ودعم حقوق الإنسان.

يمكن لروسيا بكل سهولة أن تسحب أو تعيد نشر قواتها المتواجدة أمام حدود أوكرانيا؛ لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك دون تحقيق أى أهداف. على الجانب الآخر، لا تستطيع روسيا التوقف عن مساندة الأقلية التى تتحدث اللغة الروسية في أوكرانيا؛ لكن لا يجب أن تقتصر مساندتها تلك على الجوانب العسكرية، ولا على حث تلك الأقلية على الانفصال عن أوكرانيا. إذ على روسيا أن تدرك أن أوكرانيا أصبحت دولة مستقلة، وأن عقارب الساعة لا تعود للوراء.

أمَّا أوكرانيا فعليها أن تقيِّم ما إذا كان طلبها للانضمام لحلف شمال الأطلنطى يساعد على حماية استقلالها ووحدتها الإقليمية، وعلى الحفاظ على ديمقراطيتها الناشئة؛ أم أنه على العكس يساعد على استفزاز روسيا ودفعها لاتخاذ إجراءات تهدد ذلك كله. كما أن على أوكرانيا أن تدرك بوضوح أن حلف شمال الأطلنطى ليس مستعداً لقبول عضويتها في الوقت الحالى، لأن الحلف لا يرغب في الدخول في حرب ضد روسيا من أجل أوكرانيا.

الآن بعد أن تحدث الغرب والولايات المتحدة بلغة مشابهة لتلك التى تتحدث بها روسيا، واتخذوا إجراءات تصعيدية مقابلة لما اعتبروه تصعيداً روسياً من البداية، بما في ذلك نشر قوات عسكرية في أوروبا الشرقية، والتهديد بفرض عقوبات واسعة النطاق على روسيا، والبحث عن توفير مصادر بديلة لإمداد أوروبا الغربية بالطاقة؛ فقد حان الوقت ليتخذ جميع الأطراف خطوات حقيقية لتجنب المزيد من التصعيد.

تدور الأزمة الجارية حول أوكرانيا. وستكون الأخيرة أكثر الأطراف خسارة في حالة نشوب نزاع مسلح. لذا، فإن حلحلة الأزمة قد تبدأ من هناك كذلك. فعلى أوكرانيا أن تدرس إمكانية قيامها بالمبادرة بتجميد طلبها للانضمام لحلف شمال الأطلنطى. فإذا أقدمت أوكرانيا على تلك الخطوة سيتجنب الحلف حرج الالتزام أمام روسيا بعدم قبول عضوية أوكرانيا، وسيتم تحقيق الهدف الأساسى لروسيا.

يمكن لأوكرانيا كذلك العمل على التوصل لترتيبات أمنية محددة مع روسيا في مقابل ضمانات أمنية روسية قابلة للتحقق باحترام استقلال أوكرانيا ووحدتها الإقليمية. إذ علينا أن نتذكر أن روسيا احتلت شبه جزيرة القرم فقط عندما شعرت أنها ستخسر مزايا إستراتيچية هامة كانت تتمتع بها في أوكرانيا بعد أن أطاحت الثورة في أوكرانيا بنظام كان تابعاً لروسيا عام 2014. كما أن على حكومة أوكرانيا أن تفكر في منح حوافز للأقلية الأوكرانية الروسية للتوقف عن السعى للانفصال أو الانضمام إلى روسيا. ولا شك أن تلك الحوافز يجب أن تتضمن احترام روابطها الثقافية مع روسيا، بما في ذلك استخدام اللغة الروسية، وربما تتضمن كذلك إجراءات للحكم الذاتى في تلك المناطق في مقابل التزام صارم من تلك الأقلية بالكف عن الأنشطة الهدامة واحترام الوحدة الإقليمية لأوكرانيا. وأخيراً فإن على روسيا وحلف شمال الأطلنطى أن يتفاوضا على ترتيبات أمنية متبادلة تعتمد على تقنيات التحقق المتقدمة بدلاً من نشر القوات العسكرية على الجانبين.

أُدْرِكُ تماماً أن قوْلَ ما تقدم أسهلُ من تنفيذه؛ لكن توفير المَخْرَجِ الكريمِ لجميع الأطراف دائماً ما يكون جديراً بالجهد المبذول لتحقيقه.*

*في النهاية أُضيف أن الأزمة الأوكرانية تؤكد أن العالم أصبح جسداً واحداً تتأثر دوله وشعوبه وحكوماته ومناطقه مباشرة بما ينشب من أزمات في مناطق أخرى، وإن بأشكال مختلفة. فقد أدت الأزمة الأوكرانية الروسية إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز، وهو ما يصب في صالح الدول العربية المصدرة للطاقة ويُثَبِّتُ أهميتها الاستراتيجية؛ لكنه يضيف أعباءً على الحكومات العربية المستوردة للوقود، وعلى الشعوب التى لا يسعُها إلا أن تستهلكه.

وينطبق ذلك على القمح إذ المتوقع أن تقفز أسعاره في حالة نشوب حرب بالنظر لأن أوكرانيا والولايات المتحدة وروسيا من كبار منتجيه؛ وهو ما سوف يشكل عبءاً على الحكومات العربية المستوردة له. أما من الناحية السياسية، فإنالأزمة الأوكرانية توضح أن الأمن الأوروبى يظل الأولوية الأولى للولايات المتحدة وأوروبا، وروسيا -مقارنةً بأزمات أخرى أكثر أهمية للمنطقة العربية مثل القضية الفلسطينية، والأوضاع المتدهورة في سوريا وليبيا واليمن والسودان. وتُبْرِزُ الأزمة كيف أن أطرافها الرئيسية تتعامل مع باقى مناطق العالم على هذا الأساس -ومن ذلك الاتصالات الأمريكية الأوروبية مع دول عربية منتجة للغاز لتوفير مصادر بديلة للطاقة لأوروبا في حالة تفاقم الأزمة من جهة؛ وحرص الرئيس الروسى على المشاركة في افتتاح الدورة الأولمبية الشتوية في الصين وإصدار بيان مشترك مطول مع نظيره الصينى يشير إلى الدعم المتبادل بين البلدين، وتحفظهما على تمدد حلف شمال الأطلنطى، ومعارضتهما للثورات الملونة، واشتراكهما في التحفظ على مساندة الولايات المتحدة والغرب للديمقراطية وحقوق الإنسان بالمفهوم الغربى، من الجهة الأخرى.**

معتز أحمدين
معتز أحمدين

سفير مصر السابق في الأمم المتحدة (25 مايو 2012 حتى نهاية سبتمبر ٢٠١٤)
—————
*هذا المقال ترجمة من كاتبه لمقاله الأصلى بنفس العنوان المنشور في مجلة “أميركا تايمز” بنيويورك باللغة الإنجليزية يوم ٤ فبراير الجاري.
**تم إضافة الفقرة الأخيرة على المقال الأصلي لتوضيح التداعيات البارزة للأزمة على المنطقة العربية. ويرجع الفضل في ذلك إلى الصديق العزيز الباحث المحترم هشام جعفر.