شهدت الأيام الماضية حالة من القلق والتوتر سيطرت على قطاع الاستيراد في مصر، في أعقاب إصدار البنك المركزي قرارًا بوقف التعامل بمستندات التحصيل. إلى جانب قصر العمل على الاعتمادات البنكية فقط للمستوردين. وذلك بدءًا من مارس المقبل. ورغم أن أغلب الناس لا تفهم بدقة ماهية هذا القرار، ولا الفرق بين مستندات التحصيل والاعتمادات البنكية. إلا أن موجة القلق تنامت على صفحات التواصل الاجتماعي. وقد امتزجت بالصيحات المحذرة من خطورة تلك الخطوة على الصناعة المصرية. ومن ثم على جيب المواطن.
الفرق بين “مستندات التحصيل” و”الاعتمادات البنكية”
قبل مناقشة تأثير القرار ومغزى توقيته، من المهم أولًا أن نفهم معنى المفردات المستخدمة في ذلك الموضوع. وهي “مستندات التحصيل” و”الاعتمادات البنكية”، والفرق بينهما.
أولًا- الاعتماد البنكي:
ببساطة شديدة الاعتماد البنكي فكرته أن يذهب “المستورد” إلى البنك الخاص به، ويودع قيمة الصفقة بالكامل، فيخاطب البنك الخاص به البنك الخاص بـ “المورد” في الخارج بأن له لدينا أوراق تضمن حقك، وبمجرد إرسالك للبضاعة سنفرج لك عن تلك الأموال.
بتعبير آخر البنك هنا يلعب دور الضامن المزدوج. فمن جانب هو يضمن للمورد بالخارج حقوقه المالية. ومن جانب آخر يضمن للمستورد عملية فحص دقيق للبضائع المستوردة. ومن ثم ضمان دقتها ومطابقتها للمواصفات المتفق عليها.
والاعتمادات البنكية بشكل عام يتم التعامل بها بين الجهات الحكومية والمنظمات الدولية التي لديها قوانين صارمة حيال تحويل الأموال. كما يلجأ إليها التجار الذين لا يوجد تعامل مستمر وطويل بينهم. على اعتبار أنها أفضل وسيلة لضمان حقوق الطرفين المالية والفنية.
ثانيًا- مستندات التحصيل:
تستخدم “مستندات التحصيل” بين المورد والمستورد المتوافر بينهما مستوى مقبول من الثقة أو العلاقات الممتدة. وفي أغلب الأحيان يكون السداد على دفعات. فالشائع في حالة مستندات التحصيل أن المستورد يتفق مع المورد في الخارج، على سداد نسبة محددة كمقدم 15% مثلًا. ثم يرسل المورد البضائع، وعند تحركها يحصل على دفعة ثانية من المستورد. وبعد وصول البضاعة يصبر قليلًا حتى يباع جزء منها فيحصل على الباقي.
باختصار مستندات التحصيل أيسر في التعامل وبعيدة عن الرقابة اللصيقة من البنك المركزي. فضلًا عن أنها أقل تكلفة وأسرع في التنفيذ. وغالبًا ما يكون السداد في حالات مستندات التحصيل على أقساط متفق عليها بين الطرفين. والبنك هنا دوره تنفيذ الاتفاق وتوفير ضمانات للسداد.
وقد ظلت العملية الاستيرادية لعقود تتم بهدوء ودون ظهور شكاوى عامة أو منغصات حقيقة. لكن فجأة أصدر البنك المركزي قرارًا بوقف التعامل بـ”مستندات التحصيل”. رغم كونها وسيلة ضمان مالية معترف بها دوليًا. بينما أجبر جميع المستوردين المصريين على التعامل بالاعتمادات البنكية فقط.
هنا، بدأت العواصف تلوح في الأفق، وعبر قطاع المستوردين عن غضبهم من ذلك القرار. وقد استثنى الشركات الأجنبية، واتفق الجميع على أن أكثر المتضررين من ذلك القرار هم صغار ومتوسطي المستوردين الذين يمثلون ما يقرب من 70% من السوق.
وسرعان ما تسربت شكوى المستوردين لآذان المستهلكين. فدخل الجميع في دوامة القلق من ارتفاع الأسعار وشبح اختفاء الأدوية والمستلزمات الطبية!
لماذا قررت الدولة وقف التعامل بـ”مستندات التحصيل”؟
كعادة الحكومة المصرية تصدر القرارات بشكل فوقي دون تفسير واضح لأسباب اتخاذها (التي قد تكون أسبابًا منطقية بالمناسبة). لكن التعتيم وسياسية “هو كده وإذا كان عاجبك” تخلق مساحة شاغرة تتحرك فيها الشائعات وتكثر التأويلات.
وبالنظر لقرار البنك المركزي الخاص بإيقاف التعامل بـ”مستندات التحصيل”، فإننا نجد أمامنا عدة تفسيرات، يمكن الاشتباك معها ومنطقتها.
التفسير الأول: يرى أصحابه أن الهدف الأساسي من ذلك القرار هو إخراج صغار ومتوسطي المستوردين من السوق، الذين تراهم الدولة أحد أسباب تبديد مخزون النقد الأجنبي لدينا في استيراد سلع تافهة مثل (البطة اللي بتنور والصبارة اللي بترقص). ومن ثم، فإن إجبارهم على السير في مسار “الاعتماد البنكي” يعني تعجيزهم والخلاص منهم. وبذلك يسد ثقب يتسرب منه الدولار “على الفاضي”.
يتقاطع هذا التفسير مع تصور عام سيطر علي الدولة المصرية لعقود، أنه بإمكانها تقليل حجم الاستيراد للحفاظ على النقد الأجنبي في البلاد. ذلك رغم أن هذا التصور عمليًا غير ممكن الآن، وخاصةً في ظل شبكات تهريب واسعة قادرة على إدخال أي شئ للبلاد. إلا أن تلك القناعة ما تزال حاضرة في مخيلة متخذي القرار.
التفسير الثاني: وهو الأكثر عقلانية وبعدًا عن نظرية المؤامرة، فيرى أصحابه أن الدولة تعتمد بنسبة ليست بالقليلة على استثمارات “أدوات الدين” (مستثمرين أجانب يشترون أذون وسندات الحكومة المصرية ويستثمرون فيها).
وتخشى الدولة من ذلك الرافد أن يتأثر بقرار الحكومة الأمريكية الأخير برفع سعر الفائدة لديها. وعليه فهناك احتمالية ليست بالقليلة أن يغير المستثمرون في أدوات الدين المصري بصلتهم، ويولوا دولاراتهم شطر بلاد العم سام، فتحدث أزمة دولارية في القاهرة.
وعليه قرر البنك المركزي المصري اتخاذ ذلك القرار الأخير الخاص بوقف التعامل بمستندات التحصيل. ذلك من أجل “فرملة” السوق قليلًا لحين وضوح الرؤية. وبعدها “ربنا يسهل”.
غضب المستوردين
هذه ليست المرة الأولى الذي تسعي فيها الدولة لوقف التعامل بمستندات التحصيل. فقد سبق أن اتخذ محمود أبو العيون محافظ البنك المركزي السابق قرارًا شبيهًا في 2001. لكن قراره لم يصمد سوى بضعة ساعات، وتم التراجع عنه لتلافي غضب المستوردين حينها.
ربما هذا هو ما دفع طارق عامر محافظ البنك المركزي الحالي إلى التصريح بوضوح أنه لا رجعة في القرار. وقد نصح رجال الأعمال بالإسراع في توفيق أوضاعهم، وعدم إهدار الوقت في جدال لا طائل منه، على حد تعبيره.
على الجانب الآخر، هناك أسباب منطقية لغضب المستوردين وصغار رجال الأعمال وتخوفهم من ذلك القرار الذي سيؤدي إلى أزمة سيولة خانقة لهم. لأنه في حالة التحول إلى الاعتمادات البنكية كما قرر البنك المركزي، فإنه بمجرد اتفاقك على الصفقة مع المورد بالخارج، ستجمد ثمنها بالكامل في البنك، عكس مستندات التحصيل التي كانت تعطيك فرصة للسداد علي دفعات متفق عليها مع المورد. وهو ما كان يمنح التاجر سيولة تمكنه من تدوير أمواله دون اللجوء للقروض.
لكن ما تعتزم الدولة فرضه، سيحجم من نشاط التاجر؛ لأن الفلوس تجمدت في البنك من أول لحظة. والسؤال الأبرز بين التجار اليوم هو: المستورد والمورد كانا سعداء ببراح الحركة والتقسيط، فليه يا حكومة تخنقيهم؟!
سبب آخر للغضب هو معامل الوقت، ودون الدخول في تفاصيل لوجستية معقدة، لكن هناك فارق كبير في الوقت والتكلفة بين مسار “الاعتماد النقدي” و”مستندات التحصيل”. وهذا الفارق سينعكس ليس فقط على المنتجات المستوردة. بل سيطول الصناعة المحلية التي يدخل فيها مكون مستورد. وهو ما سيقود في النهاية إلى ارتفاع في الأسعار.
تتفق مع الحكومة في مخاوفها من انعكاسات التغيرات العالمية على الوضع الاقتصادي المصري أو تختلف، تقتنع بخطتها للمواجهة أو ترفضها، هذا طبيعي ومنطقي. لكن المؤكد والذي لا خلاف عليه هو أن أقسى القرارات أو أرحمها، يحتاج إلى شرح بسيط وتفسير واضح لأسبابها وسُبل التعامل مع نتائجها، حتى لا نترك مساحة للشائعات والقلق المدمر…. وفي الأخير مصر دولة مش معسكر.