بعد الإطاحة بنظام سياد بري عام 1991 انهارت سلطة الدولة المركزية في مقديشيو واختارت صوماليلاند أن تنجو بنفسها وتعود إلى سالف عهدها القصير دولة مستقلة، ولو من طرف واحد. أضحت مسيرة بناء الدولة الصومالية منذ ذلك الوقت تحكي لنا قصة التدمير الذاتي من جهة وتبعات التكالب الدولي من أجل السيطرة والنفوذ من جهة أخرى. أذكر أنني في أوائل التسعينيات من القرن الماضي قابلت الراحل السفير محمد عثمان عمر في نيودلهي حيث كان آنذاك سفيرا للصومال لدى الهند. قال الرجل مازحا إنه لا يمثل أحدا من لوردات الحرب في بلاده، ويالها من مفارقة عجيبة أن تجد سفيرا ولا تجد الحكومة التي قامت بتعينه وإرسال أوراق اعتماده. كان هذا الدبلوماسي القدير الذي عاصر بدايات تحقيق حلم الصومال الكبير عام 1960 قد فرغ من كتابة سيرته الذاتية التي تحاكي البدايات والأفول لحلم الصومال الكبير. إنها قصة الصومال ورحلة التدمير الذاتي كما أطلق عليها.
البدايات الأولى والحلم الكبير
في بواكير الأول من يوليو 1960 دقت ساعة الحرية في البرلمان الصومالي حيث تم تسليم السلطة من المستعمر الإيطالي إلى قادة البلاد المنتخبين بحضور أعضاء المجلس الاستشاري للأمم المتحدة. تم رفع العلم الصومالي حيث وُلدت جمهورية الصومال الجديدة، وكان الجميع يهتفون وتخالطهم دموع الفرح: تحيا الصومال. شخص واحد غاب عن هذا الاحتفال رغم دوره الكبير في الوصول إليه، إنه الدبلوماسي المصري الشهيد كمال الدين صلاح، أحد اعضاء المجلس الاستشاري للأمم المتحدة، والذي اغتيل من قبل أعوان الاستعمار في مقديشو عام 1957. سرعان ما أقر البرلمان في جلسته الأولى أول دستور للصومال، كما انتخب عدن عبد الله عثمان أول رئيس للجمهورية. وللتوكيد على سيادة الدولة الوليدة انتقل الرئيس على الفور إلى المقر الرئاسي الرسمي، فيلا الصومال، التي كانت تعرف باسم فيلا إيطاليا عندما كانت مقر الحاكم الإيطالي.
كان الصومال، على عكس البلدان الأفريقية الأخرى، يتميز بكونه مجتمعًا متجانسًا. الصوماليون يتحدثون لغة واحدة ويدينون بالإسلام السني ويمارسون أنشطة اقتصادية واحدة. وبالتالي ربما يكون من الأسهل بالنسبة للقادة الجدد تعزيز حريتهم التي حصلوا عليها بشق الأنفس والعمل من أجل تحقيق حلم الصومال الكبير. لذلك اتخذ العلم الوطني الجديد، أهمية رمزية خاصة للأمة الصومالية. فاللون الأزرق الفاتح يرمز إلى الأمم المتحدة التي أسهمت بدور كبير في تحقيق استقلال الصومال. يتوسط العلم نجمة بيضاء خماسية، ترمز للأراضي الصومالية الخمس المقتطعة: الصومال الإيطالي، والصومال البريطاني، والساحل الصومالي الفرنسي (جيبوتي)، ومنطقة الحدود الشمالية (نفد) في كينيا، وأوغادين في أثيوبيا. بعد خمسة أيام فقط على مولد الجمهورية الجديدة انضم إليها طوعا الضلع الأول من النجمة وهو صوماليلاند. أما باقي الأراضي الصومالية المفقودة التي كانت لا تزال خاضعة للحكم الأجنبي فقد نص الدستور الجديد على تحقيق اتحاد الأراضي الصومالية بالوسائل القانونية والسلمية
يذكر الراحل محمد عثمان عمر في شهادته أن هذا النص الدستوري معيب ويعبر عن قصور في الرؤية السياسية حيث لم يكن من المحتمل أن تدعم بريطانيا مرة أخرى توحيد الأراضي الصومالية، كما أن أسد يهوذا، أو “ملك الملوك” هيلا سلاسي لن يتخلى عن الأراضي الصومالية الواقعة تحت سيطرته بالوسائل القانونية والسلمية. خلال زيارة هيلاسلاسي إلى أوجادين في 25 أغسطس 1956، خاطب الصوماليين قائلا: “نذكركم، أخيرًا، بأنكم جميعًا حسب العرق واللون والدم والعادات، أفراد من العائلة الإثيوبية العظيمة. على الرغم من أنه قد تكون هناك لهجات محلية، إلا أنه يجب أن نسعى دائمًا للحفاظ على وحدتنا وحريتنا”. وفي حديثه عن وحدة جميع الأراضي الصومالية، قال: “أما بالنسبة للإشاعات عن الصومال الكبير، فنحن نعتبر أن جميع الشعوب الصومالية مرتبطة اقتصاديًا بإثيوبيا، وبالتالي، لا نعتقد أن مثل هذه الدولة يمكن أن تكون قابلة للحياة وحدها، ومنفصلة عن إثيوبيا “. وعليه كان التحدي الأكبر أمام الدولة الصومالية الجديدة هو التعامل مع هذا الرجل الذي حافظ على إرث منليك، بل وضم إريتريا بالفعل. لقد أحسن هيلا سيلاسي التعامل بمهارة مع القوى الاستعمارية الغربية.
الخداع الكبير وهيمنة القبيلة
على الرغم من أن الزواج الجماعي بين صوماليلاند والصومال الإيطالي كان سريعًا دون شروط أو ضمانات فإنه سرعان ما ظهرت بوادر السخط العام مباشرة بعد الوحدة. سرعان ما تم تهميش الشمال وهيمنت القبلية والمحسوبية على توزيع المناصب مما جعل البعض يصف الحكومة بأنها عوراء بعين واحدة. وعادة ما كانت المحاصصة تتم بين قبيلتي الهوية والدارود في الجنوب مع إهمال تام لأبناء الشمال. لم يكن مستغربا أن يتمرد مجموعة من صغار الضباط الشمالين في ديسمبر 1961 من أجل العودة إلى صوماليلاند المستقلة. لم ينجح الانقلاب وتم اعتقال المشاركين فيه. بيد أن ما يثير الدهشة والاستغراب أن المحكمة التي كان يرأسها قاضي بريطاني برأت جميع المتهمين بسبب عدم وجود قانون اتحادي ملزم. لقد أثبتت الدعوى القضائية أن الاتحاد مع الجنوب تم بشكل متسرع وعاطفي ولم يكن هناك قانون اتحادي تم التصديق عليه من قبل الطرفين. لم تكن هذه المحاولة الانقلابية هي المظهر الوحيد لاستياء أبناء الشمال فقد قاطعوا الاستفتاء على الدستور الاتحادي في نفس العام. ورغم حملة المقاطعة الشعبية فقد كانت نسبة الرفض للدستور 60% من جانب مواطني الشمال الصومالي. ولعل ذلك يعني عدم وجود تفويض شعبي لنظام الحكم من قبل أبناء صوماليلاند.
سرعان ما دخلت الصومال في دوامة عدم الاستقرار والحكم العسكري بعد اغتيال الرئيس عبد الرشيد شارمركي على يد حراسه الشخصيين عام 1969 وقيام الجنرال سياد برى بانقلاب عسكري أطاح بالحكومة المدنية في مقديشيو. أسس سياد بري نظاما تسلطيا حيث أعلن تبني الاشتراكية العلمية ودار في فلك الاتحاد السوفيتي تارة وخاض حربا خاسرة مع أثيوبيا عامي 1977- 1978 تارة أخرى. كانت هزيمة قواته في الحرب أحد العوامل المحفزة الرئيسية التي شجعت وسرعت صعود المعارضة المسلحة من قبل الجماعات المنشقة المنظمة، أولا من قبل الجبهة الديمقراطية الصومالية للإنقاذ وبعد ذلك بوقت قصير من قبل الحركة الوطنية الصومالية في الشمال. وعلى الرغم من الفساد الكبير الذي اتسم به نظام حكمه فإنه فشل في تقديم أبسط الخدمات الأساسية لشعبه. في عام 1986 تعرض الرئيس لحادث سير خطير أفقده الوعي وعندما نقل إلى المستشفى في مقديشيو لم يجدوا فيه الإسعافات الأولية. وفي النهاية تم إرسال طائرة طبية مجهزة من قبل المملكة العربية السعودية لإسعاف الرئيس. إذا كان هذا هو حال الخدمة الطبية في مقديشيو فما بالنا بالمناطق الريفية النائية.
حلاق الرئيس
في عام 1988، أمر سياد برى القوات الجوية وسلاح المدفعية بقصف مدينة هرجيسا – العاصمة الثانية للبلاد – ومدينة بورعو، في الشمال، مما أجبر السكان على الفرار إلى المناطق الريفية أو عبر إثيوبيا. كانت هناك شائعات تفيد بأن الرئيس استأجر مرتزقة من جنوب أفريقيا لقيادة طائرات الميج النفاثة التي قصفت هاتين المدينتين بلا رحمة. ربما تحمل هذه الرواية بعض المصداقية، لأن فريقًا من الطيارين والفنيين البيض من جنوب أفريقيا كان يعمل مع الطيارين الصوماليين المتمركزين في بيدوه. لم تترك القوات الجوية والمدفعية أي مبنى، ولا حتى مسجدًا، على حاله حيث عم الخراب كل مكان. والأكثر من ذلك قامت القوات الحكومية بتلغيم المدينة بأكملها ومحيطها للحيلولة دون عودة المواطنين. ومع ذلك، واصلت الحركة الوطنية الصومالية قتالها ضد النظام. كان غضب الناس في الشمال لا يمكن وصفه حيث تركت فيهم وحشية نظام سياد بري جرحا لم يندمل أبدا.
عندما يشتد بطش الحاكم ويقوم بمصادرة الفضاء العام يلجأ الناس للمقاومة بالحيلة وإحدى أدواتهم المعهودة هي النكتة السياسية. تداول سكان مقديشيو فيما بينهم همسا نكتة شعبية عكست الوضع البائس في البلاد. تحكي النكتة أن الرئيس سياد بري دعا حلاقه، وهو من قبيلة الرير حمر ذات الأصول العربية، لتصفيف شعره. بينما كان الحلاق يقوم بعمله، دارت المحادثة التالية بينهما. الحلاق: آبي سياد هل لي أن أطرح عليك سؤالاً يا سيدي؟ الرئيس: نعم ما هو؟ الحلاق: ما الذي يحدث في الأقاليم؟ (يقصد الحملات العسكرية التي تستهدف المعارضة) الرئيس: أنتم أبناء حمر لا تفهمون شيئا. إنها مجرد ألعاب إقليمية. ماذا تعتقد أيضا؟ الحلاق: أوه، مثير جدا للاهتمام. إذن، ألن تقام النهائيات في العاصمة؟
مع ضعف مركزه، أحاط سياد بري نفسه بأقاربه الثقاة، وعينهم في جميع المناصب المهمة. تمسك الرجل بأهداب السلطة حتى آخر لحظة ورفض بعناد الاستجابة المطالب الشعبية ونداءات كبار السن للتخلي عن السلطة. بيد أن تمكن المعارضة المسلحة من الدخول للعاصمة وتهديد مقر إقامته دفعه في مساء يوم 27 يناير 1991 إلى الهروب مختبئًا في دبابة عسكرية. وعليه صدقت نبوءة حلاق الرئيس حيث كانت نهائيات الألعاب الإقليمية في العاصمة والتي شهدت خسارة مهينة لفريق سياد بري.
وعلى أية حال بعد أكثر من ثلاثة عقود لا يزال صراع الأشقاء هو السائد في الصومال مع غياب سلطة الدولة المركزية في الوسط والجنوب والذي تكاد تسيطر عليه جماعة الشباب المجاهدين المتطرفة. يطالب المسؤولون الدوليون والإقليميون بتغييرات جذرية في هيكل وتفويض بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (أميصوم) التي تأسست في عام 2007 لمحاربة حركة الشباب. وبينما يريد الاتحاد الأوروبي، الممول الرئيسي للبعثة، إدخال إصلاحات هيكلية كبيرة فإن الاتحاد الأفريقي يطالب بتوسيع نطاق الدول المشاركة في المهمة لتضم مصر ورواندا وتونس. ومع ذلك هناك العديد من التساؤلات حول فعالية مهمة أميصوم في قتال الشباب، لا سيما في جنوب وسط الصومال. غالبًا ما يتم استهداف المواطنين المتهمين بالتعاون مع أميصوم بشكل مباشر.
إنه بعد عقد ونصف، لم تُظهر أميصوم دلائل حقيقية على كونها عملية فعالة لمكافحة التمرد. وتُظهر التداعيات الأخيرة لتولي طالبان زمام الأمور في أفغانستان أن الحرب الأهلية والصراعات المسلحة لا يمكن كسبها بتدخل عسكري أجنبي، أي من قبل طرف ثالث. علاوة على ذلك سيكون الوضع دائمًا أكثر إشكالية وتعقيدًا عندما تفتقر الحكومة الوطنية إلى الشرعية وتعاني من أوجه قصور أخرى. في حالة سحب الدعم الدولي تكون الفرصة سانحة لعناصر المتطرفين لملء الفراغ. يعني ذلك أن الدعم الأجنبي لا يمكن أن يكون بديلا فعالا لبناء القدرات وتطوير المؤسسات المحلية والأجهزة الأمنية. وكما يقول السفير محمد عثمان في سيرته مالم تتمكن الجماعات المتصارعة في الصومال من تعلم دروس الماضي والاتفاق على ضرورة مشاركة الجميع في تقاسم السلطة بطريقة ديمقراطية، فلا يمكن أن يكون هناك أي سلام. قد يكون السيناريو الكارثي في حالة سحب التمويل الدولي عن أميصوم هو تكرار النموذج الأفغاني مرة أخرى في الصومال، بل وتحقيق نبوءة حلاق الرئيس للمرة الثانية بوصول جماعات الشباب المجاهدين المتطرفة إلى قلب فيلا الصومال .