الانتحار مشكلة عالمية فهو السبب الرابع للوفاة بين اليافعين (الفئة العمرية بين 15 – 19 عاما)، وتحل مصر في المرتبة الأولى عربيا من ناحية معدلات الانتحار. متفوقة في ذلك على دول تشهد نزاعات مسلحة وحروبا أهلية. ففي عام 2019. انتحر في مصر وحدها 3022 شخصا، بحسب إحصاءات المنظمة.

وضحايا الانتحار يقدرون بنحو 700 ألف شخص حول العالم كل عام، وشخص واحد يفقد حياته. بسببه كل 40 ثانية، وذلك بحسب منظمة الصحة العالمية.

تطالعنا الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي عن تزايد الظاهرة بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة. ففي الشهور القليلة الماضية شاهدنا مقطعا مصورا لطالبة في كلية طب الأسنان تنتحر داخل مركز تجاري بمصر. ثم قرأنا عن شابين جامعيين ينتحران داخل فندق في الإسكندرية شمال البلاد. كذلك تابعنا أخبار من ألقى بنفسه في النيل بعد ترك رسالة غامضة لأبيه، فضلا عن من ألقى بنفسه تحت عجلات القطار.

ترتبط مشكلة الانتحار ارتباط وثيق بحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. وكثير من الحالات تكون نتيجة ضغوط نفسية واجتماعية واقتصادية، لذلك تدفع الظروف الأفراد إلى إنهاء حياتهم، تلك الضغوط التي تؤثر على حق أساسي من حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة. كما تتقاطع مشكلة الانتحار مع الحق في الصحة. حيث أكد مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة بأن “لا  صحة من دون صحة عقلية وسلامة عقلية، ولا صحة عقلية من دون الأخذ بنهج قائم على حقوق الإنسان”.

ولمواجهة خطر الانتحار، صدر عن مركز التنمية والدعم والإعلام ورقة سياسات جديدة. بعنوان “نحو مقاربة جديدة لمنع الانتحار: الانتحار بين الصحة النفسية والعدالة الاجتماعية”. يناقش فيها الباحث ماريو ميخائيل سياسات واستراتيجيات منع الانتحار في سبيل مواجهة أخطاره المتعددة على الأفراد والصحة العامة والمجتمع.

للاطلاع على الورقة كاملة..

أدوات فعالة لمواجهة الانتحار

تعتمد ورقة السياسات على طرح مجموعة من الأدوات التي ثبت فعاليتها في مواجهة الانتحار مثل الاهتمام بالصحة النفسية للمواطنين. لذلك ناقشت الورقة المشكلات التي تواجه الصحة النفسية والعقلية في مصر مثل ضعف الخدمات المقدمة، وارتفاع تكاليف العلاج في المؤسسات الخاصة. فضلا عن مشكلة الوصم المجتمعي فيما يتعلق بالأمراض والاضطرابات النفسية. فيما ناقشت الورقة أهمية التصدي للظاهرة في الأماكن التي تتركز فيها حالات الانتحار وتشديد الرقابة على المواد الخطرة.

كما أشارت الورقة أيضا إلى سياسة التجريم التي جرى اقتراحها مؤخرا في البرلمان. موضحة عدم فاعلية هذه الاستراتيجية في منع الظاهرة. بل إن سياسات التجريم ستؤدي حتما إلى تفاقم الظاهرة. لأن المقبل على الانتحار سيسعى بكل الطرق لإنجاح محاولته دون طلب للمساعدة أو الاستشارة النفسية والحديث عن الأمر في ظل الخوف من التجريم مما سيؤدي إلى اتخاذ القرار وقيام الشخص بالانتحار.

عدم تجريم الانتحار يساعد على وضع استراتيجيات فعالة لمواجهته عن طريق تجميع البيانات حول التصرفات الانتحارية ودوافع الانتحار. كما أن عدم التجريم يوفر المساعدة اللازمة للضحايا فضلا على إنهم لن يتعرضون للآثار النفسية السلبية التي قد تسببها المحاكمات والإجراءات القانونية. وبالفعل تم إلغاء القوانين التي تجرم الانتحار في العديد من الدول ولم يتبق إلا عدد قليل من الدول في العالم تجرم الانتحار.

مركزية العدالة الاجتماعية

بجانب الإشارة إلى أهمية المقاربات التقليدية والفردية، تطرقت الورقة إلى أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية كاستراتيجية جديدة لمنع الانتحار.

هناك فئات أكثر تعرضا للضغوط النفسية التي تنتجها النظم الاجتماعية والاقتصادية المهيمنة. فحالة عدم المساواة الاقتصادية. والآثار السلبية للنظام البطريركي على الفئات المستضعفة، والتهميش والإقصاء الاجتماعي. على أساس الطبقة والجندر والعرق والميول والهوية الجنسية والمستوى التعليمي والمعتقدات الدينية ومستوى الدخل. وغيرها من العوامل تجعل تلك الفئات المستضعفة أكثر تعرضا للاضطرابات النفسية مما قد يؤدي في النهاية إلى تزايد الأفكار الانتحارية عند تلك الفئات.

وأشارت الورقة إلى عدة حالات ووقائع حيث تعرضت الفئات المهمشة والمستضعفة في المجتمع المصري إلى ضغوط نفسية متراكمة. نتيجة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تجعلهم في وضع أكثر ضعفا من غيرهم بسبب  الطبقة الاجتماعية أو الوضع الاقتصادي او الجندر أو الميل الجنسي. وتزداد تلك الضعوط مع تقاطع درجات التهميش. على سبيل المثال، هايدي وبسنت اللتان انتحرتا بسبب تسريب صور خاصة بهن وابتزازهن، هن فتاتان من مناطق مهمشة خارج العاصمة. تشير تلك الوقائع إلى تقاطع العنف والتهميش على أساس الجندر مع الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الصعبة. ما يزيد الضغوضات والصعوبات النفسية على تلك الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع.

لذلك فإن إدماج مبدأ العدالة الاجتماعية في سياسات منع الانتحار يصبح ضرورة لمواجهة العوامل الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع وتغذي الأفكار الانتحارية عند الكثير.

يجب الإشارة أيضا إلى أن مركز دام أصدر منذ فترة ورقة  بعنوان “الحياة الخاصة تحت التهديد” التي ناقشت سبل حماية الفئات المهمشة من أحد عوامل الخطر الرئيسية التي قد تدفع الأفراد إلى الانتحار. لتمثل الورقتان دليلا في سبيل حماية حق المصريين في الحياة وبشكل خاص الفئات المهمشة والمستضعفة في المجتمع.

توصيات:

ولمواجهة خطر الانتحار، طرحت ورقة دام عددا من التوصيات والاستراتيجيات التي يمكن تطبيقها على المدى القصير والمدى الطويل ومنها:

-وضع استراتيجية وطنية متكاملة لمنع الانتحار تراعي الأبعاد الفردية والاجتماعية للظاهرة.

-زيادة الإنفاق والاهتمام بمؤسسات الصحة النفسية والعقلية في مصر.

-الاستثمار في الخط الهاتفي للدعم النفسي والقيام بحملات دعائية موسعة لتعريف المصريين بهذا الخط.

-إدراج خدمات الصحة النفسية والعقلية في برامج الحماية الاجتماعية والتوسع في هذا الأمر.

-توفير الرعاية النفسية في المدارس والمؤسسات التعليمية المختلفة.

-الاستثمار في إنشاء مراكز إضافية لخدمات الصحة النفسية والعقلية، وبشكل خاص في المناطق المهمشة.

-إنشاء برامج مخصصة لتقديم الدعم والعلاج النفسي للفئات المهمشة والمستضعفة مثل النساء من الطبقات الفقيرة.

-إقامة حملات توعية في جميع وسائل الإعلام وحملات توعوية في المناطق الريفية لرفع الوعي بخصوص طبيعة الأمراض والاضطرابات النفسية والعقلية لإزالة الوصم المجتمعي عنها.

-دعم مؤسسات المجتمع المدني التي تقدم خدمات الدعم والعلاج النفسي والعقلي.

-التوقف عن ربط الانتحار بمصطلحات مثل “جريمة” أو “مجرم” من قبل الشخصيات العامة في الإعلام أو على مستوى التشريعات المستقبلية ومشاريع القوانين في البرلمان.

-معاملة المنتحر أو الذي يشرع في الانتحار كضحية لضغوطات نفسية وظروف اجتماعية واقتصادية، وليس كمجرم.

-تشجيع الأشخاص الذين لديهم الأفكار الانتحارية على طلب المساعدة. وتقديم العلاج النفسي لهم بشكل سريع.

-إنشاء قاعدة بيانات دقيقة وموسعة تشمل حالات الانتحار وأسبابها وأماكن تركزها على مستوى مصر. واستخدام تلك البيانات لدراسة وتحسين إجراءات منع الانتحار.

-تشريع قوانين تضع قيود مشددة على بيع المواد شديدة الخطورة المستخدمة في الانتحار وبشكل خاص حبوب الغلة. وتشديد الرقابة على البائعين والتجار.

-تحديد الأماكن التي يكثر بها حوادث الانتحار وتجهيزها بالوسائل اللازمة لمنع الأفراد من القفز أو تعرضهم للخطر مثل إنشاء حواجز وأبواب في المترو بين المنصة والقضبان. ووضع حواجز في البنايات المرتفعة التي تتكرر فيها الحوادث لمنع القفز. إذا سمح البناء بذلك.

-تضمين موانع للانتحار في تصميم البنايات المرتفعة والتي يسهل الوصول إليها والتي قد تستخدم للشروع في الانتحار.

للاطلاع على الورقة كاملة.. اضغط هنا

تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية

أما فيما يتعلق بتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق العدالة الاجتماعية كاستراتيجية لمنع الانتحار عن طريق القضاء على ظروف عدم المساواة والتهميش توصي الورقة بالآتي:

-حماية الأقليات والفئات المهمشة والمستضعفة من الظروف التي تدفعهم للانتحار.

-حماية النساء والفئات المهمشة والمستضعفة الأخرى من جميع أشكال العنف والتهميش. والقضاء على كافة أشكال العنف والإقصاء على جميع المستويات.

-تحسين أوضاع العمل والحالة المادية للمصريين بشكل عام عن طريق توفير بيئة عمل آمنه وتحسين الأجور والتوسع في شبكات الحماية الاجتماعية.