رحل الأنبا يوحنا قلته، كسحابة هائلة ظللت الكنيسة القبطية الكاثوليكية. إذ ظل أحد أشهر أعمدتها طوال حياته حاملًا لعقيدتها من ناحية ومشتبكًا مع الواقع الاجتماعي والثقافي من ناحية أخرى. وكأنه رجل يعمل برئتين؛ الأولى للكنيسة والثانية للفلسفة والثقافة ولكنهما -أي الرئتين- يمران في قصبة واحدة لرجل واحد يجمع بين خيال الرهبان وعمق الفلاسفة ومسؤولية المثقفين تجاه الحياة والمجتمع. عاش كجسر يربط بين الكنيسة الكاثوليكية والمجتمع كل لا يتجزأ. وكان كأنه يواجه ضمنًا انغلاق على الذات عاشه المسيحيون المصريون في عصور صاخبة حفلت بتحولات سياسية واجتماعية ضخمة. وقد أراد أن يؤثر فيها بشغف الفاعل لا المفعول، بعزم باحث انشغل بأسئلة كبرى في رحلة إنسانية عميقة ومؤثرة.

ليس للتاريخ معنى إلا الكشف عن الله

لم يكن لجوء الأنبا يوحنا قلته إلى الدين، راهبًا ناسكًا مبتعدًا عن صخب الحياة إلا استجابة آلية لشواغله الفكرية والفلسفية. فقد جعل المسيحية طريقًا يصل به إلى الله في رحلة تساؤلاته عن الإنسان والوجود كله. أن يربط قلته في مقال له بين الله والتاريخ قائلًا:

“التاريخ كله ليس غير تعبير عن الله بالمادة وأن هدف الفرد في أي زمان أو مكان هو أن يرى الله أو أن التاريخ محاولة الروح لقهر المادة، وليس للتاريخ إلا معنى واحد وهو الكشف عن الله”.

لعل اختيارات الأنبا يوحنا الفلسفية والفكرية تترجم مساراته المتداخلة تلك. إلا أن أبرز هذه الاختيارات هو انحيازه الواعي للثقافة العربية كوعاء فكري جعله يحصل على ليسانس الآداب في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة القاهرة عام 1965 حين كان يعمل راعيًا لكنيسة السجود الكاثوليكية بالقاهرة. وهو اختيار ينبأ عن وعي متفرد لرجل عاش حياته في المدارس الكاثوليكية التي تخرج طلابًا فرانكفونيين يملأون الدنيا بموسيقى نطق الفرنسية الأنيقة. ولكنه ورغم خلفيته الثقافية تلك قد آثر أن يذهب إلى الثقافة المنبع التي خرج من رحمها حين ولد في سوهاج عام 1937 ليفتح في رحلته نوافذ أوسع ومسارات أرحب.

يوحنا قلته وطه حسين.. من الدين إلى الفلسفة

الاختيار الثاني في رحلة كمال ثابت قلته الذي تغير اسمه إلى يوحنا بعد رهبنته، كان اختياره لرسالة الماجستير في موضوع “أثر الثقافة الفرنسية في أدب طه حسين”. وهو اختيار يعود فيه إلى مواهبه في اللغتين العربية والفرنسية. لكنه في الوقت نفسه يترجم شغفه بالثقافة العربية التي كان عميد الأدب العربي أحد أهم منقبي آثارها ومفكريها ربما في التاريخ الحديث كله.

العارف بأدب طه حسين ومعاركه الفكرية والفلسفية يدرك تمامًا أن العمل على أدبه ليس بالمهمة السهلة. إذ استطاع أن يجمع بين خلفيته الأزهرية وإيمانه الشديد بالحداثة التي شكلت رحلته الفكرية. وهو الأمر الذي اشترك فيه الأنبا يوحنا قلته مع عميد الأدب العربي. إذ كان المطران الراحل مشغولًا بسؤالي الحداثة والتنوير بشكل لم يشغل أحد من قبله بين القيادات الدينية المسيحية المعاصرة. وهو الشغف الذى بَينه مرة أخرى في رسالة الدكتوراة التي نالها عام 1981 تحت عنوان “المستشرقين الفرنسيين والأدب العربي”. وهي رحلة أخرى للتنقيب عما خلفه الاستشراق من مزايا انعكست على الأدب العربي ومن نظرة استعلائية فضحها إدوارد سعيد بكتابه العمدة “الاستشراق”.

كيف أدرك يوحنا قلته معضلات الحوار الديني في مصر؟

اختصر الكثير من المصريين رحلة يوحنا قلته في دعواه المتكررة للوحدة الوطنية كرجل أدرك مآلات الثقافة العربية حين درس القرآن وعلومه ولغته بعقل المثقف التنويري وليس كمتشدد يريد أن يخرج من النص ما يثبت له صحيح دينه. وهي الحكمة التى بلورت دوره كفيلسوف للكنيسة في علاقتها بالمجتمع الإسلامي المحيط. إلا إنه ومع احتفاظه بمناصبه الكنسية تلك وأعبائها لم يخجل أن يشير في مقالاته إلى عيوب الحوار الديني في مصر. فكتب في مقال له في الأهرام ينتقد الشكل الحالي لبيت العائلة المصرية. يقول:

“وقد يكون مشروع (بيت العائلة) آخر ما قدم الحوار من ثمرة طيبة. فقد أحدث تقاربًا ملموسًا وتسامحًا واسعًا بين فئات المجتمع التي أقيم فيها مركز (بيت العائلة). ولكن ظل الخوف من الآخر وعدم إدراك معنى التنوع والتعدد فى الأديان هاجسًا يؤرق ضمير الإنسان البسيط. فقد كانت الموضوعات التي تناقش فى اللقاءات المقفلة لا تخرج عن الفكر الديني الأسير للفكر الماضي. ولما خرج الحوار إلى المجتمعات البسيطة المفتوحة عن طريق بيت العائلة، ظل التحفظ شديدًا. ويمكن بإيجاز القول إن الحوار الديني النظري أو العملي عن طريق بيت العائلة قد أثر في أفراد قلائل من هنا وهناك. ولكنه لم يتحول إلى ظاهرة فكرية اجتماعية”.

يوحنا قلته والتنوير

لم ينس الأنبا يوحنا في كتاباته أن يعلن عن انحيازه واضحًا للتنوير كمسار لإنقاذ العقل العربي من ظلماته. كتب ينبه:

“وأزعم أن بين العقل العربى الجماعى وبين الحضارة والحداثة سوء فهم عميق ومترسب. فهو يرفض الحضارة الحديثة من جهة وما زال يرى أن عصره الذهبي حبيس الماضي والتقاليد. مع إنه من العبث البحث عن عصر ذهبي في التاريخ في مرحلة محددة أو في أمة بعينها. لأن التاريخ نهر جارف لا يتوقف ولا يتجمد يختلط فيه الصدق والكذب الذهب والنحاس. وذلك أمر أدى بالعقل العربي إلى ازدواجية مدمرة. فهو يريد أن ينهل من الحضارة الوافدة متعتها وترفها ويقطف من ثمارها وإبداعاتها من جهة، ويرفض أهم ما فيها ثمار حرية التفكير واحترام القانون وقيم العدل والمساواة”.

علاقة الدولة بالكنيسة عند يوحنا قلته

الحداثة التي آمن بها قلته شكلت نظرته للحياة. فلم يكن من هؤلاء المثقفين الذين يفصلون بين العلم والحياة. وقد كانت حياته وأفكاره انعكاسًا حيًا لكل ما آمن به من مواقف وتصورات. حتى إنني التقيته في حوار صحفي أجري عام 2016 بمقر كاتدرائية الكاثوليك في مدينة نصر للمرة الأولى. وقد دهشتني أفكاره الجريئة وتصوراته التي فكك فيها ألغاز الدين والحداثة، ومعطيات علاقة الدولة والكنيسة بشكل ربما لم يسبقه إليه أحد من معاصريه.

يقول:

“رغم أننى رجل دين مسيحي، وصاحب منصب في الكنيسة، فإن لي موقفًا خاصًا شخصيًا، هو أن مصيبة العصر هي تحول الأديان لأيديولوجيات وليس إلى إيمان. نحن ننسى أن الله سعى للإنسان، والأنبياء لم يختاروا الله. بل هو من اختارهم فى جميع الأديان. لكن في هذا الزمان صار الدين أيديولوجية عسكرية وطقسية. أفرغت الدنيا إلا قليلًا من معنى الإيمان والأخلاق. فالتدين سهل، والسارق يدخل ليسرق ويقول: (استرها يا كريم)، ويسترها معه الكريم عدة مرات. وتاجر المخدرات يقتل البشر ويبنى مسجدًا أو كنيسة، هذا تدين. أما الإيمان فشىء آخر. هو موقف أخلاقي، والعلوم الدينية التي نتعلمها، مسلمين وأقباطًا، علوم طقسية فقط”.

لم يتوقف المطران الشجاع عن تحليلاته تلك حتى أكد لي أن فصل الدين عن السياسة هو الحل. يقول: “لن نتقدم إلا بالعلمانية، لنا 1500 سنة مسلمين و2000 سنة مسيحيين في الشرق ولم نتقدم. لا بد من ثقافة علمانية. وهي ليست ضد الدين بل استخدام العلم والعقل”.

يوحنا قلته وسيرة طه حسين التي تتكرر

ككل من يؤمنون بقيمة العلم والثقافة، آثر الأنبا يوحنا قلته أن يقضي السنوات الأخيرة في حياته مشرفًا على أحد المدارس الكاثوليكية بالقاهرة. وكأنه يكرر سيرة طه حسين الذي عمل كوزير للمعارف أي التعليم، رغم ما تركه من ثروة معرفية هائلة. فقد كان طه حسين أكثر من مجرد محطة توقف عندها قلته في رحلاته الفكرية. بل ربما أراد أن يعيشه في حياة موازية. إلا أن الفرصة قد تسنح له أخيرًا أن يلتقيه في السماء فيتبادلا حوارًا واسعًا حول الدين والحداثة والحياة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مراجع:

1- من مقال ” أزمة العقل العربي” ليوحنا قلته في جريدة الأهرام

2- من مقال ” الحوار الديني أم الحوار الفلسفي المنشور في الأهرام ليوحنا قلته

3- من حوار للكاتبة مع الأنبا يوحنا قلته عام 2016