عند خروجي من السجن -مارس 2019- التقيت أحد شباب الإخوان النابهين في حبسخانة الجيزة؛ فسألته عن مواقف شبابهم بعد ست سنوات من أزمتهم الكبرى، فأجابني: بأن الثلث علي قديمه؛ بمعنى أن القيادة لو دعتهم للعمل وفق ما كانوا عليه فسيعودون إلى التنظيم سريعا، وهناك ثلث يبحث عن صيغة جديدة مختلفة -وإن لم يهتدوا إليها- كما لا يوجد اتفاق فيما بينهم حولها، والثلث الأخير ترك التنظيم بالكلية وانشغل بشأنه.
وبغض النظر عن النسب والتوزع فيما بينها، إلا أن مسألة التشكل التنظيمي للإخوان في علاقتها بمستقبلهم السياسي تثير عددا من النقاط:
أولا: قوة التشكل التنظيمي وضعفه في نفس الوقت، وهو ما لمسه الهواري في أحد مقالاته الأربع حين أشار لدورة البناء والتشكل ثم الصدام والانهيار، لكن يحسن أن نشير إلى أن أهم منجز للإخوان برغم الثمن الذي تحملوه -في هذا النطاق- وعلى مدار تاريخهم هو قدرتهم على الاستمرار نتاج التشكل التنظيمي في ظل توجه عام للدولة المصرية -منذ محمد علي- للقضاء على جميع الأشكال الوسيطة التي يمكن أن ينتجها المجتمع لتملأ الفراغ بينه وبين السلطة العامة، ومن ثم، فإن لم تتخل الدولة عن هذا المسلك وتسمح بالمؤسسات الوسيطة فسنظل نعاني من المعضلة التاريخية التي تواجهها مصر -بعد يوليو 52- وهي الصراع بين الإخوان والدولة، والذي أعادت ثورة يناير إنتاجه مرة أخرى بعد صدامهم الشهير في 1954.
ثانيا: طبيعة التشكل التنظيمي، وقد اتسم بسمات ثماني:
1- أنه مفارق لعضويته ومتجاوز لها حين تصادر الأيديولوجيا الإخوانية مصالح أعضائه الاجتماعية/الاقتصادية.
2- والفرد فيه -وإن مثل اللبنة الأولى في بنائه وتحقيق أهدافه (الفرد المسلم)- يتلقى “التربية” داخل التنظيم بما يجعله متماهيا معه إلى حد كبير؛ خاصة أنه يجري اختزال التنظيم في:
3- القيادة الملهمة التي تتمتع بالثقة -التي هي أحد أركان البيعة- والتي تجسد هي وحدها مصلحة التنظيم.
4- الذي يحتل الحفاظ عليه الأولوية الأولى، فالتنظيم -عند الإخوان-هو أداة تحقيق مشروعهم المقدس، ومن ثم فإن مصلحته هي مصلحة “الدعوة”.
5- وقد افتقد إلى التخصص؛ في خلط واضح بين شمولية الإسلام -تلك الفكرة المركزية في أيديولوجيا الإخوان- وبين شمولية التنظيم.
6- وقد تحول إلى أمة موازية.
7- والنساء فيه لا تحتل موقعا أساسيا، بل تحضر من خلال الذكر، زوجا أو أخا أو أبا، وليس باعتبارها كيانا مستقلا يتمتع بالأهلية الكاملة والمساواة التامة.
8- وأخير -وهو الأهم- امتزاج للديني بالإداري، بما يجعل الحوكمة الداخلية غائبة، أو على أقل تقدير ملتبسة وغير واضحة وإن توفرت اللوائح.
وقد تركت هذه الطبيعة آثارها البعيدة على الإخوان؛ خاصة في علاقتهم مع المجتمع والقوى السياسية الأخرى، فقد أدت إلى:
1- اغترابهم الجذري الذي بلغ عند الإخوان ليس فقط رفض الدولة الوطنية والسمو فوقها، بل محاولة إعادة بناء الأمة المصرية نفسها على أساس هوية وشرعية جديدة -على حد قول محمود هدهود في فصله المتميز الذي حمل عنوان: لا ثورية ولا إصلاحية٠٠ الأيديولجيا الإخوانية في اختيار[ات] الثورة، الذي نشر ضمن كتاب: ثورة يناير- رؤية نقدية.
2- وأدت ثانيا: إلى غياب بناء تحالفات وطنية متسعة وليست أيديولوجية ضيقة (الإسلاميون) لتمرير الفترة الانتقالية في يناير.
3- بالإضافة إلى فرض هيمنتها على الجماهير واستعلائها عليهم من خلال تقديمهم نموذجا أخلاقيا للمجتمع، مع غياب تمثيل تلك الجماهير بدمج مطالبها في خطاب الجماعة… إلخ، ما هناك من مظاهر لا مجال لتفصيلها الآن.
تحولات التنظيم
أنا أدرك أن هذه السمات الثماني قد شهدت تحولات هامة بعد 2013 لعل أبرزها:
-التشظي- الذي أشار إليه الزميل سعد عبدالحفيظ في مقاله، إلا أني أحب أن ألفت النظر إلى أن هذا الانقسام يجري في غياب قيادات السجون التي لايزال قطاع منها يتمتع بالثقة والمصداقية لما دفعه من ثمن باهظ مع عدم تقديمه لأية تنازلات -حتى الآن- لنظام مابعد 2013، بالإضافة إلى عدم تورطها في هذه الخلافات، وهنا يصبح السؤال مطروحًا: هل يمكن لهذه القيادات -في غياب التواصل فيما بينها- أن تلعب دورا في التئام التنظيم مرة أخرى، ووفق أي شروط، وهل تملك مشروعا لتحقيق ذلك، أم أن المطروح منها سيكون العودة إلى نفس السمات الثماني التي أشرت إليها عاليه؟ ومدى مسؤولية بعضها عن الإخفاق الذي منيت به الجماعة بعد يناير؟
وأخيرًا؛ هل يملك أحد الفريقين المتصارعين الآن- إبراهيم منير ومحمود حسين- مشروعا فارقا لإعادة ترميم ما انهار أم مجرد رطانات حول الإصلاح والتغيير يقدمها منير -في مقابل اللائحة التي يتمسك بها حسين- ليبني بها شرعية مختلفة عن الأخير وفريقه ويستطيع بها أن يجذب العناصر التي ابتعدت عن التنظيم خارج مصر؟
-تراجع الثقة في القيادة الملهمة التي يحملها قطاع من الإخوان المسئولية عما جرى نتاج أخطائها في إدارة الفترة الانتقالية وما أعقب يوليو 2013، بالاضافة إلى ما أشار إليه عبدالحفيظ في مقاله.
-يلفت نظرنا شفيق شقير في بحثه عن الأيديولوجيا الناعمة للإخوان أنه على الرغم من حاجة الحركة المرحلية إلى الفصل التام بين “الدعوي والسياسي” لصالح الأخير، وعلى الرغم من قوة مؤيدي هذا التوجه، إلا أنه يبدو من الصعب أن تلجأ إلى هذا الخيار، لأن التخلي عن “الدعوة” كأساس لأيديولوجيتها يعني التخلي عن أساس قوتها الناعمة والتخلي عن تأييد أصل ديني “لدعوتها” فضلا عما يعنيه ذلك من التخلي عن الإرث والتكيف التاريخي للحركة مع هذا الأصل الذي يكاد يساوي جوهر وجودها.
ويضيف، أن الاتجاه نحو مزيد من التمييز ما بين “الدعوي” والسياسي” سيعيد الحركة إلى مناقشة علاقة الديني بالسياسي مرة أخرى.
-زيادة حضور أصوات النساء التي شاركت في التظاهر والاحتجاج بعد ما جرى في 30 يونيو 2013، بالإضافة إلى ما تحملوه من أعباء في إدارة شؤون أسرهم بعد غياب عائلها إما بالسجن أو بالهجرة.
وهنا ملمح يجب الإشارة إليه سريعا -وإن استحق الاهتمام مستقبلا- وهو دخول أعداد كبيرة من “الأخوات” -مقارنة بفترة عبدالناصر- إلى السجون وتعرضهم للمضايقات الأمنية مثل إخوانهم من الذكور، تلك الحجة التي استخدمت لتهميشهم داخل التنظيم فيما مضي، فهل يعني هذا مزيدا من حضور أصوات النساء داخل التنظيم، أو على حد قولي ممازحا إياهم في السجن أن يتولي منصب المرشد امرأة بعد ربع قرن، على أن يكون نصف أعضاء مكتب الإرشاد من النساء بعد انقضاء السجن.
أسئلة كثيرة تحتاج إلى متابعة دقيقة.
ثالثا: في حديث المظلومية التاريخية وتوظيفها لاسترداد بعض جماهيريتهم، يحسن أن نتحدث عن المستجدات التالية:
1- حديث المحنة -وإن صادر النقد الذاتي ومسئولية البعض عما جرى من أخطاء، إلا إنه يؤدي إلى التماسك التنظيمي واستمرار ارتباط الفرد بايديولوجية الإخوان خاصة في شقها الديني- كما فصلنا بعض ملامحها في مقالنا السابق.
2- جزء من المظلومية يتحرك الآن على أرضية حقوق الإنسان، حين انخرط بعض الفاعلين من الإخوان في حركة حقوق الإنسان الوطنية والدولية مما أتاح لهم أن يكونوا جزءا منها ويستفيدوا من إمكانياتها، لكن هذا الوعي لن يكتمل إلا بحل الإشكالات النظرية الكثيرة التي يطرحها خطاب حقوق الإنسان عليهم والتي منها مسألة المثلية الجنسية على سبيل المثال، وإلا تحول هذا الاهتمام إلى براجماتية واهتمام مؤقت.
3- انفتح التنظيم وبشكل متصاعد منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي -لحظة الدخول إلى ساحات العمل العام- على مفاهيم الحريات والديموقراطية، وقبلت الاحتكام المطلق وبلا شروط تقريبا للصناديق والرهان على الديمقراطية كسبيل للإصلاح السياسي، بالاضافة إلى الاحتجاج الجماهيري في الشارع -مع الربيع العربي- كطريق للتغيير.
فهل يكون لهذه المفاهيم انعكاس على البناء التنظيمي الداخلي في ظل ما أشرنا إليه في دراسات سابقة من أن الإخوان تتغير بالممارسة أكثر من الفكر النظري.
لقد استقر في وجداني أنه لا ديموقراطية بلا ديموقراطيين، ومصداقية الكيانات هي قدرتها علي ممارسة الديموقراطية داخلها أولا قبل أن تطل علينا بحديث عنها.
4- من المؤكد أن الإخوان سيواصلون تعزيز شرعية وجودهم السياسي من خلال التأكيد علي فكرة “الانقلاب” على أول رئيس مدني منتخب في أول انتخابات حرة ونزيهة، والذي لا يساورني شك في حريتها ونزاهتها -على الرغم من محاولة البعض أن يشككنا في ذلك -كما فعل الهواري في أحد مقالاته- غافلا عن أن التشكيك في هذه الانتخابات -بغض النظر عمن فاز بها- هي تشكيك في يناير باعتبار أن إجراء انتخابات رئاسية تعددية حرة ونزيهة من أهم منجزاتها التي لم تتحقق لنا منذ ٥٢.
كما يستخدم الإخوان مسألة التواطء عليهم -محليا وإقليميًا ودوليا- بما حال بينهم وبين تحقيق برنامجهم السياسي، وهي فكرة موجودة لدى قطاع من أعضائهم، والأهم أنه يمكن استخدامها لدى قطاع من الجمهور المصري، ويساعدهم في ذلك استنفاد بعض من خطاب نظام ما بعد يوليو ٢٠١٣ لأغراضه في ظل معاناة معيشية للمصريين الآن.
إلا أن السؤال الأهم الذي طرحه البعض ويحتاج متابعة هو: هل تحتل المطالبة باستعادة المسار الديموقراطي الأولوية لدى الإخوان باعتبار أن أزمتنا ذات طبيعة سياسية وليست من طبيعة هوياتية؟
رابعا: في دراسة مصطفي المنشاوي الرائدة عن ظاهرة ترك الإخوان فيما بعد يناير 2011؛ يلفت النظر إلى عدد من السمات التي ستحكم علاقة الشباب في المستقبل بفكرة التنظيم من حيث كونه تنظيما:
1- فقد وجد التحليل لهذه الظاهرة التي تنامت بعد يناير أن الأعضاء الخارجين يسعون إلى أن يستبدلوا بالهوية جماعية -إلى حد كبير- هوية أكثر فردية، في حين يميل الإخوان -بشكل عام- إلى العمل في الاتجاه المعاكس؛ أي تضمين الهوية الشخصية داخل هوية جماعية إلى حد كبير.
ولا يعني هذا عدم بحث الشباب عن هوية جماعية في ظل أزمات مجتمعية معقدة، ولكن انتماءهم لهويات جماعية لن يكتمل إلا بالحفاظ علي هويتهم الذاتية.
2- الحرية الفردية في الاختيار- “أريد أن أكون أنا”- وهو ما يدفع إلى ضعف التشكل التنظيمي الهرمي الذي يرتب التزاما كبيرا على الفرد.
3- فك الارتباط الأيديولوجي؛ فعندما يفكر من ترك الإخوان في “عقل” الجماعة؛ فإن الأعضاء السابقين لا يفكرون فيه، في حد ذاته، إنهم يفكرون في ذلك من حيث علاقته بقدرة المجموعة على التخيل، والقدرة على معالجة وجهات نظر مختلفة أو أفكار جديدة.
فالثبات وعدم المرونة المعرفية؛ يُعرَّف بأنه نقص الوعي بالخيارات والبدائل في موقف ما، أو الرغبة والإمكانية للتكيف لتكون مرنا.
لقد وجد الأعضاء الذين غادروا الإخوان أن الجماعة أقل مرونة وعدم مراعاة للخيارات والبدائل، وبالتالي فإن التعاليم والمعاني ترسم أيديولوجيتها باعتبارها مناهضة للتفكير المستقل المتجدد.
4- أزمة في الهوية الوطنية؛ فقد ظهر في يناير التعبير عن هوية وطنية – من التي يمكن تمييز الإسلامي عنها، وفي نفس الوقت يمكن أن يندمج معها أيضًا.
ففي يناير كرر المتظاهرون شعارات تحتوي على كلمات مثل “مصر” و”الشعب” و”الأمة”، كما امتلك البشر/المصريون القدرة على شكل فريد من أشكال “القصد” المشترك أو الجماعي الذي يسمح لهم ببناء أشكال مختلفة من الواقع.
وبعد، يستطيع الهيكل التنظيمي للإخوان أن يلتئم في خلال شهر -وفق أحد أعضائه- ولكن هل يستطيع أن يسترد فاعليته دون معالجة ما لفتنا النظر إليه في هذا المقال؟