عانت أمي من أمراض الجهاز التنفسي لثلاثين عاما تقريبا قبل أن تموت في العقد التاسع من عمرها. ودخلت ابنة صديق عزيز المستشفى بسبب الربو سبع مرات في العام الماضي قبل أن تموت في التاسعة من عمرها. وأعرف شابا مات بسبب مرض السل في العشرين من عمره. وأعاني شخصيا منذ سنوات من التهابات مزمنة في الجيوب الأنفية. فلماذا يموت الكثيرون قبل الأوان؟
تلوث الهواء ليس ممرضا فحسب. بل قاتل خطير أيضا. ويسبب خسائر اقتصادية واجتماعية فادحة. فوفقا لبيانات منظمة الصحة العالمية يتنفس أكثر من 90% من سكان العالم هواء يتجاوز الحدود الآمنة التي أقرتها المنظمة. وتلوث الهواء هو رابع سبب للوفيات السنوية في العالم. وتقدر المنظمة أعداد الوفيات المبكرة بسبب تلوث الهواء بأكثر من 7 ملايين سنويا. أي بمعدل وفاة 800 شخص كل ساعة.
تلوث الهواء أخطر من كوفيد-19. قتل كوفيد منذ ظهوره قبل أكثر من عامين نحو 5.6 مليون. في حين تقدر دراسة نشرتها دورية “البحوث البيئية” في أبريل الماضي أعداد الوفيات الناجمة عن تلوث الهواء الناتج عن حرق الوقود الأحفوري وحده بنحو 10 ملايين شخص سنويا.
وبينما تحتل أخبار “كوفيد” عناوين الأخبار يتم تجاهل تلوث الهواء واعتباره مشكلة هامشية.
ومع أن الأمراض الناتجة عن تلوث الهواء تصيب جميع الأعمار لكن الأطفال والنساء وأصحاب الأمراض المزمنة هم الأكثر عرضة للمرض والموت المبكر.
بحسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة يموت 600 ألف طفل بوفاة مبكرة بسبب تلوث الهواء. ويقدر البرنامج أن نحو 60% من الوفيات المرتبطة بتلوث الهواء الداخلي على مستوى العالم تحدث بين النساء والأطفال. وأن أكثر من نصف الوفيات الناجمة عن الإلتهاب الرئوي لدى الأطفال دون سن الخامسة تعزى إلى تلوث الهواء الداخلي.
ولا يتوقف أثر تلوث الهواء على الأطفال عند هذه الحد. بل تمتد آثاره لتضر بتطور الدماغ. مما يؤدي إلى أعاقات معرفية وحركية. وفي الوقت نفسه يعرض الأطفال لخطر أكبر للإصابة بأمراض مزمنة في وقت لاحق من حياتهم.
وأمس نشرت دورية “الصحة والبيئة” دراسة توصلت إلى أن تعرض الأطفال لتلوث الهواء يؤثر على جودة وحياة الحيوانات المنوية والخصوبة المتوقعة.
الآثار الاقتصادية الكبيرة لتلوث الهواء تمثل مشكلة عالمية. وبحسب موقع “إنتربرايز-برس” قدرت التكلفة العالمية الإجمالية للوفيات المبكرة والإعاقات والأمراض المزمنة والإجازات المرضية الناجمة عن تلوث الهواء بالوقود الأحفوري وحده بنحو 2.9 تريليون دولار أمريكي. تمثل نحو 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
ووفقا لتقرير صادر عن “مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف” يقدر أن تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة العالقة الناتجة عن الوقود الأحفوري كان مسؤولا عن 1.8 مليار يوم من الغياب عن العمل على مستوى العالم في عام 2018.
وفي مصر تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن عام 2017 شهد ما يقدر بنحو 12600 حالة وفاة مبكرة بسبب تلوث الهواء في القاهرة الكبرى ومرض جماعي بلغ 3 مليارات يوم بسبب تلوث الهواء الخارجي وعدم كفاية المياه والصرف الصحي والنظافة. وأن هواء القاهرة يحتوي في المتوسط على مستويات أعلى 11.7 مرة من المستوى الآمن من الجسيمات الدقيقة الذي توصي به منظمة الصحة العالمية. وأنه من بين هذه الآلاف من الوفيات بسبب التعرض للجسيمات الدقيقة كان 59% منها بأمراض القلب وتضيق الشرايين. و14% بسبب التهابات الجهاز التنفسي السفلي الحادة. و13% من السكتة الدماغية. و14% من أمراض الرئة وسرطان الرئة والسكري من النوع الثاني.
ويقدر البنك الدولي -وفقا لحسابات عام 2016- أن الخسائر الاقتصادية لتلوث الهواء في مصر تقدر بنحو 47 مليار جنيه.
تركز مؤشرات جودة الهواء في العالم على رصد وقياس تركيز عدد من الملوثات الرئيسية للهواء: الجسيمات العالقة-الأوزون عند مستوى الأرض-ثاني أكسيد الكبريت-ثاني أكسيد النيتروجين-وأول أكسيد الكربون-والرصاص.
كل نوع من هذه الملوثات يتسبب في أمراض مختلفة. وتشمل قائمة الأمراض: الربو والتهابات الجهاز التنفسي الحادة والمزمنة وأمراض الرئتين وسرطان الرئة وأمراض الأنف والأذن والحنجرة وأمراض القلب والسكتة الدماغية.
ومن بين هذه الملوثات تعد الجسيمات العالقة في الهواء في الأماكن المفتوحة هي الملوث الأكثر خطرا. وتعتبر مؤشرا -في حد ذاتها- على جودة الهواء.
ويمكن تصنيف الجسيمات العالقة وفقا لتركيبها الكيميائي. كبريتات أو نترات أو كلوريدات أو غيرها. لكن معظم الأدبيات تصنف هذه الجسيمات بحسب حجمها. وذلك إلى فئتين: الجسيمات الأكبر. وهي الجسيمات التي يقل قطرها عن 10 ميكرومتر. وتسمى PM10. والجسيمات الأصغر. وهي الجسيمات الدقيقة التي يقل قطرها عن 2.5 ميكرومتر. وتسمى اختصارا PM2.5.
ومن البديهي أن تكون الجسيمات الأصغر أخطر على الصحة من الجسيمات الأكبر. وذلك بسبب قدرتها الأكبر على اختراق أنسجة الجهاز التنفسي والنفاذ إلى الرئتين والأوعية االدموية. وتصنف “الوكالة الدولية لأبحاث السرطان” تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة العالقة -دون 2.5 ميكرون- كسبب رئيسي للسرطان.
مصادر تلوث الهواء يمكن أن تكون مصادر طبيعية. مثل الرياح والعواصف والبراكين وحبوب اللقاح وعوامل الطقس المختلفة. أو مصادر بشرية كحرق الوقود والصناعة والنقل. إلا أن دراسة حديثة -نشرت مؤخرا في دورية “العلوم البيئية- أوروبا”- توصلت إلى أن الأسباب الطبيعية لا تسهم بأكثر من 9% من مصادر التلوث في العالم على مدار العام. وأن الأنشطة البشرية -حرق الوقود الأحفوري وتوليد الطاقة والصناعة والزراعة وحركة النقل والحرق المكشوف للنفايات والأخشاب- هي الأسباب الرئيسية. وأن حرق الوقود الأحفوري هو السبب الرئيسي لتلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة. خصوصا في المدن الكبرى.
للحد من الأمراض والوفيات المرتبطة بتلوث الهواء وضعت منظمة الصحة العالمية في عام 2005 دليلا إرشاديا بالحدود القصوى المسموح بها للتعرض اليومي والسنوي لهذه الملوثات في الهواء في الأماكن المفتوحة والمغلقة.
للجسيمات العالقة دون 10 ميكرون -(PM10)- وضعت المنظمة الحد الأقصى للتعرض اليومي بما لا يزيد على 50 ميكروجراما لكل متر مكعب. والحد الأقصى للتعرض السنوي عند 20 ميكروجراما لكل متر مكعب.
وللجسيمات العالقة الدقيقة -دون 2.5 ميكرون- (PM2.5) وضعت المنظمة الحد الأقصى للتعرض اليومي 25 ميكروجراما لكل متر مكعب. والحد الأقصى للتعرض السنوي عند 10 ميكروجرامات لكل متر مكعب من الهواء.
وبعد أكثر من 15 عاما من الدراسات والتجارب وتراكم الأدلة على خطورة الجسيمات العالقة في الهواء. وآثارها المرضية والقاتلة والخسائر الاقتصادية والاجتماعية التي تترتب عليها. قررت منظمة الصحة العالمية في سبتمبر الماضي إعادة النظر في الحدود القصوى السابقة. فخفضت الحد الأقصى للتعرض اليومي للجسيمات دون 10 ميكرون من 50 إلى 45 ميكروجراما لكل متر مكعب. وخفضت الحد الأقصى للتعرض السنوي من 20 إلى 15 ميكروجراما لكل متر مكعب.
كما خفضت الحد الأقصى للتعرض اليومي للجسيمات دون 2.5 ميكرون من 25 إلى 15 ميكروجراما لكل متر مكعب. وخفضت الحد الأقصى للتعرض السنوي من 10 إلى 5 ميكروجرام لكل متر مكعب من الهواء.
في مصر ينص الملحق رقم (5) من اللائحة التنفيذية لقانون البيئة رقم (4) لسنة 1994 وتعديلاته -على معايير قصوى مختلفة- إذ يبلغ الحد الأقصى المصري للتعرض اليومي للجسيمات دون 10 ميكرون. 150 ميكروجراما لكل متر مكعب. ويبلغ الحد الأقصى للتعرض السنوي 70 ميكروجراما لكل متر مكعب.
وللجسيمات دون 2.5 ميكرون يبلغ الحد الأقصى المصري للتعرض اليومي 80 ميكروجراما لكل متر مكعب. والحد الأقصى للتعرض السنوي 50 ميكروجراما لكل متر مكعب. ويتضمن الملحق أيضا ألا يزيد تركيز الجسيمات العالقة الكلية بنوعيها في الهواء الذي نتنفسه كمتوسط يومي عن 230 ميكروجراما لكل متر مكعب. وألا يزيد تركيزها كمتوسط سنوي على 125 ميكروجراما لكل متر مكعب.
بمقارنة الحدود القصوى المصرية بالحدود القصوى التي توصي بها منظمة الصحة العالمية. نرى أن الحد الأقصى للتعرض اليومي للجسيمات دون 10 ميكرون يبلغ 10 أضعاف الحد الأقصى للمنظمة. والحد الأقصى للتعرض السنوي يبلغ أكثر من 4 أضعاف الحد الأقصى الذي توصي به المنظمة. وللجسيمات الدقيقة العالقة دون 2.5 ميكرون يبلغ الحد الأقصى المصري للتعرض اليومي 16 ضعف الحد الأقصى للمنظمة. ويبلغ الحد الأقصى للتعرض السنوي 10 أضعاف الحد الأقصى الذي توصي به المنظمة.
والأرقام هنا تعني الكثير والفوارق البسيطة تعني الحياة أو الموت للآلاف وربما الملايين من الناس.
بحسب تقرير “تلوث الهواء.. عبء صحي متزايد على المصريين-الجسيمات الدقيقة PM2.5 كمؤشر” الصادر في فبراير 2020 عن “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية”: “تصنف مصر ضمن أكثر الدول التي يتعرض سكانها لاستنشاق الجسيمات الدقيقة 2.5 ميكرون”.
ويشير التقرير إلى بحث مشترك لمعهد القياسات والتقييم الصحي بواشنطون. جاء فيه أن مصر احتلت المركز الثالث عالميا عام 2015 في متوسط تركيز تلك الجسيمات. والذي بلغ آنذاك 104.7 ميكروجرام لكل متر مكعب من الهواء.
ويعلق التقرير على نتائج رصد تركيز الجسيمات الدقيقة التي تمت في 13 محافظة من محافظات مصر عام 2016. يقول إن التركيزات قد تجاوزت الحد الأقصى المقرر وفقا لقانون البيئة في 11 محافظة من المحافظات الثلاث عشرة. وأن التركيزات في جميع المحافظات الثلاث عشرة تجاوزت الحد الأقصى الموصى به من المنظمة. وكانت أعلى التركيزات في أسوان وأسيوط وسوهاج وبني سويف والقاهرة والمنوفية.
وبينما تشير بيانات منظمة الصحة العالمية أن المتوسط الكلي لتركيز الجسيمات الدقيقة دون 2.5 ميكرون في مصر عام 2016 كان 79.3 ميكروجرام لكل متر مكعب. يقدر التقرير أن المتوسط الكلي لتركيز الجسيمات الدقيقة في المحافظات الثلاث عشرة قد بلغ 144 ميكروجراما لكل متر مكعب. وهو رقم – يقول التقرير- إنه أعلى من أي رقم منشور عن الجهات الدولية عن الفترة نفسها.
بحسب بيانات البنك الدولي للعام 2017 كان المتوسط الكلي لتركيز الجسيمات الدقيقة العالقة في مصر 87 ميكروجراما/متر مكعب. وأن المتوسط الكلي كان 84 ميكروجراما لكل متر مكعب خلال الفترة من 1999-2016. ويقدر البنك الدولي -ومؤشر جودة الهواء التابع لمنظمة الصحة العالمية- أن تركيز الجسيمات الدقيقة العالقة قد انخفض إلى 68 ميكروجراما/متر مكعب خلال عام 2020. والسبب المحتمل هو فترات الإغلاق التي فرضتها ذروة انتشار جائحة كوفيد.
بحسب تقرير “حالة هواء الكوكب-2020” الصادر عن معهد التأثيرات الصحية ومعهد واشنطون للقياسات الصحية والتقييم ومشروع العبء العالمي للمرض. والذي يتضمن معلومات من 196 دولة في العالم. كانت أعلى التركيزات في دول: الهند 83.2-نيبال 83-النيجر 80- قطر 76-نيجيريا 70.4.
واحتلت مصر المركز السادس بين الدول العشرة الأسوأ بمتوسط سنوي بلغ 67.9 ميكروجرام لكل متر مكعب. وبعد مصر موريتانيا والكاميرون وبنجلاديش وباكستان.
ووفقا لأحدث تقرير صادر عن “وكالة حماية البيئة” الأمريكية عن تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة دون 2.5 ميكرون للعام 2020. كانت القائمة السوداء للدول العشرة الأعلى في تركيز الجسيمات الدقيقة في الهواء الخارجي تتضمن كلا من: بنجلاديش-باكستان-الهند-منغوليا-أفغانستان-عمان-قطر- قيرغيزستان ثم إندونيسيا.
تخلو هذه القائمة من اسم مصر. فهل تحسنت جودة الهواء في مصر بسبب فترات الإغلاق خلال ذروة انتشار جائحة كوفيد؟ وكيف نفسر اختلاف ترتيب الدول بين الأسوأ بين المصادر المختلفة؟
الاختلاف في ترتيب الدول بين القائمتين سببه أن كل مؤسسة تستخدم بيانات وطرقا ووسائل مختلفة في تقدير تركيزات الملوثات وحساب مؤشرات جودة الهواء. فضلا عن الأسباب السياسية والدعائية التي يمكن أن تفسر جزءا من القصة. وبالتأكيد تحسنت جودة الهواء في مصر -والعالم عموما- بسبب الإغلاق خلال ذروة انتشار الجائحة. لكنه كان تحسنا طفيفا محدودا وقصير الأمد.
ففي 5 ديسمبر الماضي نشرت دورية “العلوم البيئة-أوروبا” ورقة بحثية درست التغيرات التي طرأت على مؤشرات جودة الهواء قبل وبعد كوفيد في 87 عاصمة صناعية ملوثة في العالم.
وخلصت الورقة إلى أن فترات الإغلاق قد قللت بالفعل من تركيزات ملوثات الهواء -باستثناء أول أكسيد الكربون والأوزون الأرضي- لكنها جميعا عاودت الارتفاع بعد العودة للحياة المعتادة في العام الماضي.
إذا كنت تعتقد أن التدخين ضار بالصحة وقاتل أحيانا. وهي حقيقة مؤكدة. فتلوث الهواء -أيضا- ضار جدا وقاتل وأخطر من كوفيد. لذلك يستحق أن يكون على رأس اهتمامات الحكومة المصرية التي ننتظر منها أن تعيد النظر في الحدود القصوى لملوثات الهواء. ودمتم سالمين.