كان “الأستاذ” يرى أن العام 1946 هو الأهم في الحركة الأدبية المصرية المعاصرة عندما نشأت “اللجنة الوطنية للطلبة والعمال” واعتبرها أهم قيادة شعبية في تاريخ مصر حيث كانت تنظم المظاهرات للمطالبة بالاستقلال وبالديمقراطية، كما أنها كانت المحرك الرئيسي لتطويق معسكرات الإنجليز، بالإضافة -وهو المهم في حديث الثقافة- أنه قد تم من خلال هذه اللجنة “تعميد” شعراء وأدباء ومفكرين بالدم والنار حسب تعبير “الأستاذ”.

كان العام 1946 بمثابة الخط الفاصل بين حالة ثقافية فرضتها تركيبة اجتماعية سياسية ظهرت بعد ثورة 1919 لتشيخ ويتدهور حالها بسبب انعزالها عن الجماهير وارتباط “أغلبها” بالقصر وبالإحتلال الإنجليزي وتأسيسها لنمط اقتصادي مُتَخِلف، وبين حالة ثقافية شابة متمردة تحمل رؤى وأفكار اجتماعية سياسية جديدة كانت “اللجنة الوطنية للطلبة والعمال” بمثابة الترجمة التنظيمية لها على أرض الواقع، لكن الطغمة الاجتماعية السياسية العجوز التي زادتها الحرب الكونية ثراءً على ثراء -دون تراكم رأسمالي حقيقي- تحارب في سبيل الحفاظ على مصالحها بأقصى وأقسى ما تستطيع، فدفعت بواحد من أهم رموزها وهو “إسماعيل صدقي باشا” في العام 1946 لسدة الحكم ليدخل في مفاوضات مع الإنجليز نتج عنها في أكتوبر من هذا العام مشروع “صدقي-بيفن” الشهير الذي انقسم إلي ثلاثة أجزاء: 1- مشروع معاهدة بين مصر و إنجلترا، 2- مشروع بروتوكول السودان، 3- مشروع بروتوكول الجلاء. (خروج جديد عن النص ربما يطول بعض الشيئ بداعي أمانة البحث العلمي لإماطة اللثام عن أكذوبة تاريخية تتداولها الأجيال ببراءة لا تستند إلا لمرسَلِ الكلام دون سند أو وثيقة من أن ضباط يوليو 1952 هم من فَرَّطوا في السودان بعدما كانت مصر والسودان دولة واحدة!

في البدء تجدر الإشارة سريعًا إلى أن دخول مصر للسودان لأول مرة كان قد تم بناءً على أمر من الخليفة العثماني لوالي مصر “الألباني” التابع إداريًا له محمد على باشا ليستمر بقاء كل من السودان ومصر تحت الولاية العثمانية. مرت بعد ذلك أحداث جسام اختلف فيها الوالي مع الخليفة لدرجة المواجهة العسكرية التي انتهت بهزيمة الخليفة ثم تدخل الأوروبيون فهزموا جيش الوالي ليتوصلوا بعد ذلك معه لاتفاق وضعوا بموجبه السودان تحت الولاية المصرية مقابل تفكيك جيشه وهذا أمرٌ لايُرَتِبُ أبدًا أي حق تاريخي لمصر في السودان. ترسخت تلك المسألة بموجب معاهدة 1936 التي كانت قد نصت على بقاء جنود مصر في السودان لحراستها “كمستعمرة بريطانية”.

نعود لما يتعلق ببروتوكول السودان الذي اتفق فيه صدقي باشا مع إرنست بيفن وزير الدولة البريطاني للشئون الخارجية وشئون الكومنولث في مشروع اتفاقية “صدقي-بيفن” المشار إليه أعلاه، فقد ورد فيه ما يلي بالنص: “إن السياسة التي يتعهد الطرفان الساميان المتعاقدان باتباعها في السودان في نطاق وحدة مصر والسودان تحت تاج مصر المشترك، ستكون أهدافها الأساسية تحقيق رفاهية السودانيين وتنمية مصالحهم وإعدادهم إعدادا فعليا للحكم الذاتي، وتبعا لذلك ممارسة حق اختيار النظام المستقبلي للسودان”، ليأتي من بعده محمود فهمي النقراشي باشا فيقول في أغسطس 1947 في إطار شكوى مصر أمام مجلس الأمن بنيويورك “إن السودانيين سيتحدثون عن أنفسهم ومستقبل السودان سيقرر بالتشاور مع السودانيين وأن الشعب السوداني حر في بلاده.”، ثم يأتي وزيره أحمد باشا خشبة في  مايو 1948 ليوافق على إنشاء المجلس التنفيذي السوداني والجمعية التشريعية بمشاركة مصرية-إنجليزية للمساهمة في إعداد السودانيين للحكم الذاتي وتقرير المصير.

في أغسطس 1950 اقترح محمد صلاح الدين باشا وزير الخارجية الوفدي إقامة فترة حكم انتقالية بالسودان تمتد إلى 1953 لتأهيل السودانيين للحكم الذاتي وبعدها يكون لهم حق تقرير مصيرهم، ثم يأتي محمد صلاح الدين باشا مرة أخرى ليُقِرَ مشروع “سَودَنة” السودان بتحويل كل الوظائف للسودانيين وسحب كل الموظفين المصريين من البلاد، ثم يعود فيوافق في نوفمبر 1951 بالأمم المتحدة على سحب كل موظفي وقوات مصر بشرط ترافقها مع سحب قوات وموظفي إنجلترا وبعدها فترة انتقالية للسودنة ثم الحكم الذاتي ولاحقا حق تقرير المصير، ليصدر مصطفى النحاس باشا في أكتوبر 1951 مرسومًا أقر فيه بأن يكون للسودان دستور منفصل عن دستور مصر وتضعه جمعية منتخبة سودانية دون تدخل مصري. في العام 1953 وقعت مصر وبريطانيا اتفاقًا يتم بمقتضاه منح السودانيين حق تقرير المصير خلال فترة انتقالية قُدِرَت حينها بثلاث سنوات، وانسحبت بريطانيا من السودان في نوفمبر 1955 ليتم إعلان السودان كدولة مستقلة في يناير 1956 حسبما قرر شعب السودان “وحده” بإرادته الحرة بعد نضالاته العظيمة لنيل استقلاله).

للحديث بقية، إن كان في العُمر بقية.

اقرأ أيضًا: 

الجزء الأول: “العَالِم”

محمود أمين العَالِم “2-5”