قدم شريف العصفوري، الكاتب والروائي المصري، في مقال عبر حسابه الرسمي بـ”فيسبوك”، قراءة في اقتصاد الدولة المصرية بعد أحداث 30 يونيو 2013. وقد استعرض سمات هذا الاقتصاد وحجم النمو مقارنة بالإنفاق وما حققته مصر وما لا تستطيع تحقيقه.

قال:

400 مليار دولار هو رقم ذكره الرئيس السيسي عما أنفق في مصر في البنية التحتية. وللدقة القصوى، فإن هذا الرقم هو قيمة الدين العام اليوم. إذ أن الدين الداخلي عند 5 تريليونات من الجنيهات، و الخارجي عند 140 مليار دولار. فعلا تم عمل مشروعات كثيرة كلها تقريبًا بواسطة الدولة أو أذرعها “الجديدة”.

بعد ما يقارب تسع سنوات من اقتصاد 30 يونيو 2013، يا ترى ما هي سمات هذا الاقتصاد؟ الإنفاق الرأسمالي للدولة كان في شكل تجديد شبكة الطرق، محاولات إصلاح شبكة السكك الحديد، إقامة عاصمة إدارية جديدة، مصانع كبرى للأسمنت وللأسمدة، صوب زراعية كبرى، مزارع سمكية عظيمة، استصلاح زراعي في مشروعات قديمة أو جديدة. ذلك إلى جانب محاولة القضاء على عشوائيات السكن، بإقامة مشروعات إسكان بديلة ومشروعات إسكان متوسط. بل وإقامة مشروعات إسكان فاخرة في العلمين الجديدة أو الجلالة وغيرها من المناطق.

هناك سمات أخرى مثل توسع شبكة مشروعات شركة الخدمات الوطنية (مملوكة بالكامل للقوات المسلحة) في شكل محطات تموين بنزين أو ميني-مولات أو فنادق سياحية أو مشروعات شبيهة بطول البلاد و عرضها.

مع كل هذا الإنفاق، النمو الاقتصادي كان متوسطًا وليس عظيمًا في منطقة 3-5% طيلة تلك السنوات. بينما كان الإنجاز البارز هو تحقيق رقم نمو موجب مهما كان صغره في سنة 2020 و2021. وهو انتصار للاختيارات السياسية مقارنة ببقية دول العالم.

المقارنة بالتاريخ الاقتصادي لمصر ضرورية، مشروعات الدولة الاقتصادية بهذا الحجم من “الإقدام” كانت سنوات ما بين 1960-1974، وجل تلك المشروعات عانت من سوء الإدارة وتكبيلها بسياسات الحكومة المتضاربة. ما أدى إلى خسارات مالية متواصلة، مع ترهل القرار السيادي لإنقاذ المشروعات بسلة السياسات وحوكمة الإدارة المناسبة للإنقاذ.

التخبط و التردد كان سمة القرار الاقتصادي والسياسي فيما بين 1975-1991، حتى شارفت مصر على الإفلاس الاقتصادي، مع تدهور مستمر لقيمة صرف الجنيه أمام العملات الأخرى.

فيما بين 1992-2010 حاولت مصر التخلص من مشكلات القطاع العام الخاسر وتطوير البيئة التشريعية لإطلاق العنان للقطاع الخاص. مع رغبة سلطوية بإبقاء القطاع الخاص الكبير تحت هيمنة الدولة سياسيًا حتى لا يخرج ويشق الطوع، أمثلة بسيطة عن علاقة القطاع الخاص الكبير واتصاله بقمة السلطة (محمد فريد خميس – محمد أبوالعينين – حسين سالم – عائلة ساويرس – طلعت مصطفى وأبناؤه).

رغم كل تلك السمات حققت مصر معدلات نمو عالية (أعلى من ٥%) في فترتين وزارة كمال الجنزوري 1998-2002، وزارة أحمد نظيف 2004-2011.

بلغة الأرقام فقط قفز إنتاج مصر من الحديد من 300 ألف طن سنة 1970 إلى 8 ملايين طن سنة 2010، والأسمنت من 2 مليون طن إلى 45 مليون طن، والأسمدة من مليون طن إلى أكثر من 10 ملايين، وتجميع السيارات من 4000 سيارة سنويًا إلى 125 ألفًا.

قياسا بدول العالم المصنعة حديثًا (النمور الاقتصادية) على مدى الستين سنة من 1960-2020، تلك الدول حققت قفزات أكبر وأعلى. السؤال ماذا يعيقنا؟

إجابتي متعددة وطويلة، دعني ألخص:

1- رغبة سلطوية في بقاء الزمام في يد الطبقة العسكرية الحاكمة وتغييب استقلال القضاء والحوكمة العامة للإدارة الحكومية، وصراعات الأجهزة السيادية على الأنصبة الحاكمة. وكلها أشياء طاردة للاستثمار الأجنبي اللازم والضروري لنقل التكنولوجيا وتوطينها.

2- ارتباك السياسات فيما يخص ضبط سعر صرف العملات الأجنبية والتدهور المستمر في الميزان التجاري، وزيادة الواردات بأضعاف الصادرات، إلا أن السياسة الواجبة هو ربط الواردات بزيادة الصادرات، مثل دول تركيا وماليزيا وفيتنام (برغم التنوع الأيديولوجي إلا تلك الدول أدركت مبكرًا أن نمو التجارة حتى مع العجز خير وأنجح من محاولة كبح الواردات بدون طائل طوال الوقت)، فيتنام الشيوعية حجم تجارتها الخارجية ثلاثة أضعاف المصرية، مع عجز طفيف لصالح الواردات.

3- الاستعجال في رسم السياسات وتطبيق الحلول، والتبدل السريع المستمر في السياسات فيما يخص الصناعة أو التجارة أو السياسات المالية. وهو ما يميز أكثر الفترة الحالية.

4- إهمال التعليم الأساسي والجامعي، ومظهرية مبادرات التعليم الفني، وبقاء الأمية عند معدلات عالية 25%. إلى جانب هامشية البحث العلمي وعدم إفادة الصناعة والزراعة أو التجارة والخدمات من منتجات البحث العلمي.

5- فيما يخص التنمية الاقتصادية لا يهم إن كان النظام السياسي الداخلي رأسمالي أو شيوعي أو باذنجاني، الأهم هو وضوح القواعد القانونية والسياسات العامة ومحاربة الفساد والبيروقراطية، باختصار شديد “المؤسسية”، مصطلح عكس “الشخصانية والارتجالية”. الرغبة السياسية الواضحة للإنجاز بواسطة “الناس” وليس من فوقهم. تجربة الاقتصادي الناصري والسيساوي هي تجربة رغمًا عن الناس ودون مؤسساتهم، وعمر التجربتين من عمر صاحبيها، لا يزيد بل أحيانًا ينقص.

سمة أخيرة خاصة بالأنظمة السياسية التي نحاكيها أو تحاكينا هي الطنطنة الإعلامية الشديدة، حتى تصبح الإنجازات ولو حقيقية مقدس ديني لا يجوز المساس بها شكًا أو تشكيكًا على رأي صاحب الفضيلة الشيخ علي جمعة. رغم أن السؤال حرام! لكن دعني هل ستحل مبادرة حياة كريمة بتكلفة 800 مليار جنيه مشاكل الريف المصري؟ هل سيتم الخلاص من العشوائيات التي يسكنها عشرون مليون مواطن قريبا أو في تاريخ منظور؟ هل ستحل 600 مليار جنيه مشاكل السكك الحديدية وتصبح لدينا شبكة مثل الصين أو كوريا؟ هل محاولات التضييق على الاستيراد واحتكار التصدير ستساعد الميزان التجاري المصري موجبًا؟ هل قضايا حقوق الإنسان (القضاء المسيس، بطء التقاضي، الحبس الاحتياطي، احتكار الإعلام) تخدم الاستثمار الخاص المحلي أو الخارجي؟

على ذكر 30 يونيو 2013، كان باسم يوسف طبيب القلب وضاحك البسم قد صنع عدة حلقات تندر على مشروع النهضة الإخواني، واستحق مشروع النهضة لقب فانكوش! أثناء انتخابات 2014 التي أتت بالرئيس السيسي كانت إجاباته مقتضبه عن مشروعه الاقتصادي أو التنموي.

أخيرًا يبدو أننا كمصريين كنّا عاجزين عن تصور أو فهم مشروع نهضة فعلي وحقيقي خارج التجاذبات السياسية. مشروع النهضة أيًا كان مضمونه كان تمويلًا قطريًا لحسم الصراع في سوريا بالقدرات المصرية لحسابها. أما مشروع السيسي فهو ممول بالكامل من السعودية وحليفتها الإمارت، لحسم الصراع في اليمن لحسابهما. الدولة المصرية العميقة مهما كانت توجهاتها حرصت ألا تقع في فخ سوريا أو اليمن، وهذا الحياد يساوي 400 مليار دولار!

شريف العصفوري
شريف العصفوري

شريف الدين محمد العصفوري كاتب وروائي وقاص مصري وُلد في مدينة بور سعيد، وتخرج من قسم هندسة السفن والهندسة البحرية في كلية الهنسة والتكنولوجيا بجامعة قناة السويس. كما حصل على درجة الماجستير في العمارة البحرية من كلية الهندسة بجامعة نيوكاسل في أبون تاون بالمملكة المتحدة، وماجستير إدارة الأعمال من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة الأمريكية.