بدأت الثورة المجيدة في 25 يناير 2011 مدنية الطابع، كان ذلك في ساعة الأولى فيما بين عصر الثلاثاء 25 يناير حتى عصر الجمعة 28 يناير حيث سقط النظام فعليا حين انسحبت الشرطة ثم اختفت أمام زحف الجماهير، ثم في مساء 28 يناير بدأت بذور الثورة المضادة بجناحيها الديني والعسكري، فمن داخل الميدان، وتحت غطاء وستار ثورة 25 يناير، انطلقت موجتان متضادتان من موجات الثورة المضادة.

1- الموجة الأولى من الثورة المضادة  كان عمادها الإخوان وغيرهم من الجماعات الإسلامية، فقد تمكنوا من السيطرة على الميدان أولا، ثم السيطرة على المجال العام ثانيا، ثم السيطرة على العملية السياسية ثالثا، حيث شكلوا أحزابا، ثم خاضوا كل الانتخابات سواء مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو رئاسة الجمهورية، ومن ثم بسطوا سلطانهم – منفردين ودون أي مشاركة لها اعتبار- من القوى المدنية.

خلق ذلك حالة من التناقض التاريخي، فالثورة التي بدأت مدنية انتهت دينية، وقد ترتب على ذلك التناقض أن الحلم الديمقراطي انقلب إلى واقع ديني قابض على مفاتيح السلطة والمجتمع معا، وبدا أن مؤسسات الدولة وقوى المجتمع مكتوب عليها أن تتقبل أو ترفض، أو تستسلم أو تقاوم، أو تتكيف أو تمانع، ما ينتظرها من تحولات جديدة لم تكن في الحسبان قبل الثورة، ولم تكن في الحسبان عند اندلاع الثورة، حيث انكشف الغطاء عن حالة دينية نامت في بطن المجتمع عقودا من الزمن قبل الثورة، ثم انفتح بطن المجتمع بعدها ليلفظ ويقذف من جوفه كل هذا الطيف الواسع من تجمعات وعناقيد دينية مختلفة الأشكال والألوان، لكنها متفقة على إعادة مجد الإسلام بما يعنيه من رفض ما هو قائم رفضا على أسس دينية وليس على أسس ديمقراطية، رفض الدولة القائمة ليس بسبب ما يعورها من استبداد وفساد ومحاباة ومحسوبية ونقص كفاءة، ولكن لما تأسست عليه من علمانية ومدنية وحداثة وبعد عن جوهر الدين، ومن هذا المنظور جاءت مشاركة الإسلاميين في العملية الانتخابية ليس بدوافع مثل دعم التجربة الثورية أو التحول الديمقراطي أو بناء المجتمع الحديث، وإنما جاءت بدوافع الانتصار للإسلام وإعادة مجد الدين، وبسبب من هذه الدوافع فإن خوض الإسلاميين للعملية الإنتخابية كان خاليا تماما من روح الديمقراطية ومن روح التنافس السياسي ومن روح القبول بمبدأ التعدد والتنوع، لقد حصدوا ثمرات الثورة كما لو كانت ثورة إسلامية، ومارسوا السياسة بروح الغزو والجهاد والفتح، ومن ثم ترتب على ذلك أن اعتبروا وقوع الدولة المصرية بين أيديهم ليس أكثر من غنيمة حرب عادلة ومشروعة ولهم فيها حق التصرف ولهم عليها حق السيادة ولها تجاههم واجب السمع والطاعة فهم سادتها الجدد وهم أولياء أمرها الشرعيون.

لقد كانت الوسائل ديمقراطية لكن الغايات كانت فاشية، وكانت الأدوات مدنية لكن الروح كانت دينية، وكان الشكل تنافسيا لكن الجوهر كان تغلبيا وإقصائيا، وهذا كان كفيلا بخلق حالة من الخوف والفزع عند كل من سواهم من المصريين، زاد من هذا الخوف أن روح الغزو وأخلاق الحرب وغرائز الفتح لم تكن محصورة على الإسلاميين المصريين فقط، وإنما كانت حالة عامة بين كل تشكيلات وتنظيمات الإسلاميين في كل دول الربيع العربي حيث سقطت السلطة وظهر الفراغ السياسي بصورة كان فيها من الإغراء والغواية ما يكفي لإثارة شهية الإسلاميين للسلطة، حتى بدا للوهلة الأولى أن الربيع العربي لم يكن غير بوابة لتركيب الإسلاميين على ظهور السلطة وإمساكهم بلجامها ومقاليدها في كل بلدان الربيع العربي. كان إغراء السلطة المرمية تحت أقدام الثائرين في الشوارع والميادين أكبر من زهد وعفاف وحذر وحكمة الإسلاميين، لقد انجذبوا إليها، ثم اندفعوا صوبها، ثم تهافتوا عليها، لدرجة أن ثلاثة أصدقاء من تيار واحد تنافسوا على منصب واحد، وحلت العداوة السياسية محل ما كان بينهم من صداقة، وطبعا تلاشت ما بينهم من عواطف دينية في مثل هذه المعركة العنيفة.

هنا استدراك لازم، عندما يكون الحزب السياسي أو الفاعل السياسي إسلامي التوجه أو صاحب مرجعية إسلامية فمن المنطقي والمقبول والمعقول أن يكون للدين نصيب في صياغة ورسم خططه ووسائله وقضاياه وأجندته السياسية، لكن الذي حدث كان خارج نطاق الثلاثة معايير، خارج نطاق المنطق، وخارج نطاق المقبول، وخارج نطاق المعقول، فالذي حدث كان جرعة زائدة ومفرطة بل شديدة الإفراط من ناحيتين:

– جرعة زائدة من الدين في السياسة.

– جرعة زائدة من السياسة في الدين.

كانت لحظة عجز فيها عقل الإسلاميين عن ضبط المقادير ومكونات الطبخة الدينية – السياسية فجاءت عير مستساغة وغير مبلوعة وغير مهضومة، عجزوا هم أنفسهم عن هضمها، بينما عجز غيرهم عن استساغتها فلفظوها فلم يبلعوها ولم يهضموها، لقد عجز العقل الديني – السياسي لمجمل الإسلاميين عن التعامل مع ما سمحت به لحظة الربيع العربي من فرص واحتمالات مفتوحة على مختلف المآلات.

ومرد ذلك، من بعض الوجوه، أن لحظة الحرية غير ذات القيود التي جاء بها الربيع العربي كانت جديدة على الجميع سواء الإسلاميين وغير الإسلاميين، كانت هذه الحرية بتلك المقادير غير المحدودة شيئا جديدا على الجميع، شيئا نزل من السماء بغتة أو انشقت عنه الميادين فجأة من خارج نطاق التوقع والحسبان، فلم يحسن الجميع التعامل معها، وليس الإسلاميون فقط هم من أدركهم الإخفاق.

ثم وجه آخر يخص الإسلاميين وحدهم، وهو أنهم يجيدون اللعب بأوراقهم عندما تكون هناك سلطة قائمة ترسم حدود الملعب وتحدد لهم دورهم في نطاق معلوم متفق عليه في الغرف المغلقة، ولكن عندما تغيب هذه السلطة، وعندما يغيب الملعب المرسوم، يفتقد الإسلاميون – والإخوان منهم بالتحديد – البوصلة ويفقدون أعصابهم ويضلون السبيل، حدث هذا مرتين: الأولى بعد ثورة 23 يوليو 1952م، والثانية بعد ثورة 25 يناير 2011. في المرتين خسروا توجيه الدولة لهم وتصرفوا من أنفسهم فأضروا أنفسهم وألحقوا بتنظيمهم أضرارا جسيمة.

الإخوان يزدهرون حيث توجد سلطة تضبط حركتهم، ويخسرون العضم والسقط حين يُترك لهم الحبل على الغارب ويكون لهم حرية مطلقة للتصرف في أنفسهم وبأنفسهم، فيسيئون استخدام المقادير غير المحدودة من الحرية فتنقلب عليهم بالأضرار والخسائر التي كان من الممكن تلافيها في حالة وجود سلطة قاهرة ترسم لهم حيازة محددة يتحركون في نطاقها.

………………….

2- الموجة الثانية من الثورة المضادة كانت دولة 30 يونيو 2013، صحيح هي نقيض الإخوان بالمعنى السياسي مثلما هي نقيض الإخوان بالمعنى الديني، لكنها -في الوقت ذاته- استعادة لدولة ما قبل ثورة 25 يناير 2011، وعلى هذا فهي ثورة مضادة مرتين: مضادة للإخوان في نموذجهم السياسي- الديني، ومضادة للثورة المجيدة في 25 يناير.

– أما أنها مضادة لثورة 25 يناير فيكفي أنها أعادت التراث السياسي القديم، حيث باختصار شديد: الرئيس يصل للسلطة باستفتاء شكلي أو انتخابات لا فرق بينها وبين الاستفتاءات، ثم يشكل البرلمان حسب مقاسه الشخصي، ثم يعدل الدستور حسبما يخدم مطامحه الفردية للبقاء في السلطة طالما بقي على قيد الحياة، ثم يسيطر الرئيس على كل السلطات، ثم يمنع ظهور المنافسين، ثم يطوع الأحزاب وكافة التكوينات السياسية والاجتماعية والدينية، ويتوج كل ذلك بحكم فردي مطلق قابض على زمام الأمور وممسك بنواصي المؤسسات دون استثناء تدين له بالولاء المطلق.

– قبل ذلك، ومعه، كانت دولة 30 يونيو 2013 ثورة مضادة على الإخوان بما يمثلونه من خطر سياسي وبما يمثلونه من خطاب ديني، والخطران السياسي والديني في حالة الإخوان ممتزجان ويصعب فصل أحدهما عن الآخر، لكن الخطر السياسي مادي التكوين ومن الممكن توجيه حراب الدولة لصدره ونسفه، أما الخطر الديني فهو كامن في صدور أصحابه ليس من الإخوان فقط وليس من الإسلاميين فقط، ولكن الأخطر من ذلك هو مخزون ورصيد العواطف الدينية لدى عموم المسلمين من المصريين، ولذلك اختلفت الطرق التي تعاملت بها دولة 30 يونيو مع الخطرين:

أ – فيما يخص الخطر السياسي المجسد في واقع مادي وقانوني على الأرض فهذا تمت معه سياسة النسف من الأسس والاستئصال من الجذور مثل تنظيم الجماعة وحزب الحرية والعدالة والمدارس والجمعيات الخيرية والشركات إلى آخره.

ب – فيما يخص الخطر الديني -وهو محل التركيز في هذه المقالة- فهو من الجسامة بحيث فرض على دولة 30 يونيو أن تكون دولة دينية من حيث تدري أو لا تدري، دولة مسكونة بهواجس الدين من حيث تدرك أولا تدرك، فهي إذ فرغت من القضاء على التمثيل المادي والقانوني للإخوان، وإذ حظرت وجودهم بكل سبيل، وإذ دمغتهم بالإرهاب، بقيت في شك مما يمثلونه لدى قطاعات واسعة من المصريين من قوة دينية لها جاذبيتها إلى الحدود التي مكنتها من التحايل على العقبات والاستمرار في الوجود ما يقرب من مائة عام، ثم إلى الحدود -وهذا هو الأخطر- التي مكنتها من الفوز بأعلى منصب في الدولة المصرية عبر انتخابات أشرفت عليها الدولة المصرية.

فرضت المواجهة المؤجلة منذ ما يقرب من قرن من الزمان على دولة 30 يونيو أن تكون دولة دينية بقدر ملحوظ، فجاءت دعوة رئيس الجمهورية المتكررة لإصلاح الخطاب الديني وإنتاج خطاب ديني جديد، لتكون البديل الديني لمشروع الإخوان، وهنا يمكن رصد عدة نقاط:

الأولى: أن دولة 30 يونيو عمدت إلى إنصاف الأقليات الدينية بشكل لم يحدث من قبل، حتى تكاد تختفي الشكاوى المعهودة، مثل بناء الكنائس، والوظائف، والتمثيل النيابي، والتي كانت من منغصات الحياة العامة في سنوات ما قبل ثورة 25 يناير.

الثانية: نجحت دولة 30 يونيو في كسب مودة أقباط المهجر -كنائس وجاليات ونفوذ وتأثير- وهو ما أخفقت فيه الدولة المصرية في عهدي كل من الرئيس السادات والرئيس مبارك.

الثالثة: شيدت دولة 30 يونيو مقرا فخيما للكاتدرائية المرقسية في العاصمة الجديدة وهو المقر الديني الرسمي الوحيد في العاصمة وبقيت مقرات المؤسسات الإسلامية حيث هي في العاصمة القديمة.

الرابعة: أعادت دولة 30 يونيو الانضباط إلى كافة الجوامع بعدما كانت قد تسربت الفوضى الدينية إلى كثير منها.

الخامسة: تدرك دولة 30 يونيو أن مشيخة الأزهر تكافح للاحتفاظ بقدر من الاستقلال الفكري سواء في مواجهة ضغوط الجماعات والشارع السياسي أو في مواجهة ضغوط ومطالب السلطة ذاتها، وفي مقابل ذلك وجدت دولة 30 يونيو الدعم من وزارة الأوقاف ولديها حشد غير محدود من الفقهاء والخطباء والوعاظ والأئمة انخرطوا -في انسجام- مع دعوة الرئيس لإنتاج خطاب ديني جديد، عبر شبكة غير محدودة من الجوامع تغطي كل شبر من المعمور والمأهول من أرض مصر، وذلك بالتعاون مع إذاعة القرآن المجيد وهي -تقريبا- ذات صوت مسموع في كل بيت من بيوت المسلمين.

وأخيرا، فإن دولة 30 يونيو سمحت بأقدار غير مسبوقة من الحرية الفكرية فيما يخص نقد التراث الإسلامي ونقد أئمة المسلمين ونقد علوم الإسلام، ليس في المجامع العلمية، وليس في المراكز البحثية، وليس في الجامعات، وليس بين أهل العلم والنخب والخواص، وإنما في المحافل العامة، في الفضائيات، وما يتجاوب ويتفاعل معها من مواقع التواصل الاجتماعي.

…………………

هذا الاستدعاء الكثيف للدين في المجال العام لم يكن فقط وقودا للثورة المضادة، لكنه أيضا كان ومازال وقودا لحالة انفعالية عاطفية متوترة تنال من رجاحة العقل العام وتذهب بحكمته وتضل به السبيل في مجادلات بيزنطية عقيمة.

وهذا مما نناقشه في مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله.