“المفاوضة الجماعية” هي إحدى الآليات التي حددتها الاتفاقات الدولية. خاصة الاتفاقية (87) لسنة 1948، والاتفاقية (98) لسنة 1949. ذلك لحل المنازعات التي تنشأ بين العمال وأصحاب الأعمال. وقد نص قانون العمل المصري الحالي (12) لسنة 2003 على المفاوضة الجماعية بين المنظمات النقابية وأصحاب الأعمال أو منظماتهم. كما حدد في باب كامل شكل عقد المفاوضة الجماعية وأطرافها. وتبع ذلك إجراءات نشرها في الجريدة الرسمية، وأشكالها (جلسة المفاوضة، الوساطة، التحكيم).
“المفاوضة الجماعية”.. أداة عرجاء
تحولت هذه الآلية الهامة في ظل القانون (12) إلى أداة شكلية ومُسكن لإيقاف الاحتجاج أو التصعيد العمالي. إذ غالبًا ما تتخلى الإدارات عن التزاماتها بعد إبرام الاتفاقات. دون أن يكون هناك عاقبة للإخلال بالاتفاق.
وهكذا ظلت المفاوضة أداة عرجاء، لم تحقق في كثير من الأحيان أيًا من الأهداف التي شرعت من أجلها: “تحسين شروط وظروف العمل وأحكام الاستخدام. التعاون بين طرفي العمل لتحقيق التنمية الاجتماعية لعمال المنشأة. تسوية المنازعات بين العمال و أصحاب الأعمال.”
محمود هريدي، أحد عمال شركة يونيفرسال للأجهزة الكهربائية، كان ممن شاركوا في جلسة “مفاوضة ثلاثية” كممثل عن العمال خلال أكتوبر الماضي. وذلك في حضور ممثلي الشركة، ومدير القوى العاملة بالجيزة، وممثل عن النقابة العامة للعاملين بالصناعات المعدنية والهندسية. وأيضًا في حضور وزير القوى العاملة محمد سعفان.
يقول هريدي، لـ”مصر 360″، إن جلسة المفاوضة لم تنجز شيئًا سوى أنها أنهت الإضراب الذي استمر 20 يومًا. وكان يطالب بصرف الرواتب المتأخرة. “بعد 20 يومًا من الإضراب الذي بدأ في 20 سبتمبر 2021، عقدنا جلسة مفاوضة التزمنا فيها بالعودة إلى العمل. بينما لم يلتزم صاحب العمل بصرف الرواتب والحوافز المتأخرة للعمال على دفعات وبجدول زمني حدده محضر الاتفاق. رغم أن محضر الاتفاق هذا نشر ملخصًا له في الجريدة الرسمية”.
هكذا تُنتقص الحقوق وتُفض الإضرابات
في شهر ديسمبر 2021، وجد العمال أنفسهم عند النقطة صفر. تخلت الإدارة عن وعودها، فعاودوا الإضراب. لكنهم اضطروا لفضه، بعد إجراءات تعسفية اتخذتها إدارة الشركة ضدهم. وكان من بينها إضافة لتهديد قيادات الإضراب بالفصل. فضلًا عن الامتناع عن إرسال أتوبيسات لنقلهم إلى أماكن عملهم. ما حملهم نفقات إضافية في ظل تأخر رواتبهم.
يشير هريدي إلى أنهم قبلوا باتفاق جديد رغم انتقاصه من حقوقهم. إذ خُصمت مدة الإضراب من رواتبهم. ورغم ذلك أخلت الإدارة أيضًا بالاتفاق الأخير. وقد صرفت راتب شهر ديسمبر على 10 مرات، ولم يتم صرف راتب يناير 2022 إلى الآن، كما يؤكد هريدي وزملاء آخرين.
لم تحسم جلسة المفاوضة الجماعية التي خاضها عمال يونيفرسال أي شيء لصالحهم على ما يبدو، ولم تنته الأزمة لتكرار تنصل الإدارة والتفافها على الاتفاق. كما لم يتمكن العمال من المضي في الخطوات التالية لجلسة المفاوضة، كـ”الوساطة والتحكيم”. ما اضطرهم للقبول باتفاق وصفوه بالظالم.
هذا ما حدث أيضًا بعد جلسة مفاوضة ثلاثية خاضها عمال “سيراميكا الفراعنة” مع الإدارة منذ ثلاث سنوات، بحسب أحد العمال الذين شاركوا في الجلسة كممثل للعمال. يقول إن الجلسة أنهت الإضراب الذي خاضه العمال للمطالبة بزيادة بدل طبيعة العمل وزيادة أجر ساعات العمل الإضافية. وبعدما التزمت الإدارة بالزيادة على مرحلتين، أخلت بالاتفاق. إلى أن عودة العمال للإضراب اضطرتها لتنفيذ مطالبهم.
“المفاوضة الجماعية”.. هي الحماية رغم كل شيء
مع ذلك يرى عامل “سيراميكا الفراعنة” كما يرى هريدي أنه رغم عدم وفاء أصحاب الأعمال بالتزامات الاتفاقات الناتجة عن جلسات المفاوضة الجماعية. إلا أن وجود الأداة في حد ذاته كان يعطي العمال ميزة كبرى. “يجلس أصحاب الأعمال معترفين بحق العمال في التفاوض، ويضطرون لتوقيع التزامات حتى وإن لم ينفذوها”.
هذا أيضًا ما يراه القيادي العمالي جمال عثمان. يقول: “رغم كل المشاكل التي تشوب المفاوضة الجماعية وعدم وجود آلية تلزم أصحاب الأعمال بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه خلالها. إلا أنها تبقى حلًا وملجأ مهمًا للعمال”.
تفريغ المفاوضة من مضمونها
إحدى مواد باب المفاوضة الجماعية (مادة 179) بالقانون رقم 12 تَعتبر تقدم أحد طرفي منازعة العمل الجماعية للجهة الإدارية المختصة بطلب اتخاذ إجراءات التحكيم أمرًا ملزمًا لخصمه بالمضي في هذه الإجراءات ولو دون رضاه. وهو ما قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستوريته.
يقول عثمان: “المشرع سعى في مشروع قانون العمل الجديد الذي ينظر أمام البرلمان، إلى حل أزمة عدم دستورية المادة الخاصة بـ(التحكيم)، فاشترط رضا طرفي النزاع للمضي في إجراءات المفاوضة والوساطة والتحكيم، وإن كان المشرع قد تجنب بهذه الصياغة عدم الدستورية فقد أوقعنا في أزمة أكبر”.
يوضح عثمان: “بهذه الصياغة فُرغت المفاوضة الجماعية من مضمونها”. لأنها اقتصرت على جلسة المفاوضة فقط. بينما حرمت العمال وهم (الطرف الأضعف) من المضي في التحكيم. ذلك بعدم إلزام أصحاب الأعمال في الاستمرار في هذه الخطوة.
ليس معنى هذا الكلام أنه كان يجب استمرار النص غير الدستوري. ولكن ما نقصده أنه كان على المشرع أن يجد الصيغة القانونية المتسقة مع الدستور. وهي التي من شأنها أن تحافظ على مبدأ المفاوضة الجماعية، وجعلها أداة فاعلة، وليست مجرد أداة شكلية. الكلام لجمال عثمان.
غياب الحوار
تظل الأزمة في رأي عثمان أنه ليس هناك حوار مجتمعي حول قانون العمل والقوانين الاجتماعية عامة. فحُرم ممثلي العمال من مناقشة القانون. في الوقت الذي عطل أصحاب الأعمال ومنظماتهم مشروع القانون الجديد منذ 2017 لاعتراضهم على بعض مواده. وحتى اتحاد العمال العام الذي قالت الحكومة إنه اشترك في الحوار، خرج وأعلن أن مجلس الشيوخ لم يستجب لأغلب التعديلات التي طرحت من جانب الاتحاد، بحسب عثمان.
الإخلال بالتزامات المفاوضة.. غرامة الـ 500 جنيه
يؤكد شعبان خليفة، رئيس نقابة العاملين بالقطاع الخاص، على إلزام الدستور المصري 2014 في المادة (13) للدولة بـ 5 ثوابت في التشريعات العمالية: الحفاظ على حقوق العمال – العمل على بناء علاقات عمل متوازنة بين طرفي العملية الإنتاجية – أن تكفل سُبل التفاوض الجماعي – تعمل على حماية العمال من مخاطر العمل وتوافر شروط الأمن والسلامة والصحة المهنية – حظر فصل العمال تعسفيًا.
في قانون العمل 12 لسنة 2003 فى باب المفاوضة الجماعية وباب اتفاقيات العمل الجماعية من المادة (146 إلى 167) نظم المشرع المقصود بالمفاوضة الجماعية. وكذا طريقة إجرائها وشروطها وتحديد أطرافها.
يستكمل خليفة: رغم ذلك جاء المشرع في باب العقوبات المادة (252) ليقر غرامة هزيلة. فنص على أنه: “يعاقب كل من يخالف أيًا من أحكام المواد (149، 150، 157) من هذا القانون بغرامة لا تقل عن مائتي جنيه ولا تجاوز خمسمائة جنيه”.
ضعف الغرامة هذا جعل كثير من أصحاب الأعمال لا يلتزمون بما تم الاتفاق عليه بالمفاوضات الجماعية.
يتفق رئيس نقابة العاملين بالقطاع الخاص مع القيادي العمالي جمال عثمان، في أن مشروع القانون الجديد، لم يضف أي شيء لجعل المفاوضة الجماعية أداة فاعلة. سوى أنه زاد الغرامة في باب العقوبات فى المادة (263): “يعاقب بغرامة لا تقل عن ألف ولا تزيد عن عشرة آلاف جنيه”.
وهي أيضًا غرامة ليست بالرادعة في رأي خليفة وعثمان. لأن حتى حدها الأقصى يعد مبلغًا هزيلًا.
الغرامة هنا تحسب على صاحب العمل إذا أخل بالاتفاق إجمالًا. وهي ليست غرامة تعددية تحسب بعدد كل عامل من العمال الذين أخل صاحب العمل بالاتفاق معهم.
القانون الجديد ونسف مبدأ المفاوضة
وفق خليفة، هناك شرط ينسف عملية المفاوضة الجماعية من الأساس. وهو ما جاء في البند رقم (24) من باب التعاريف في مشروع قانون العمل الجديد.
يعرف هذا البند (شرط التحكيم) بأنه اتفاق مكتوب بين طرفي علاقة العمل على تسوية ما قد ينشئ بينهما من نزاع. وهذا الشرط مستحدث في القانون الجديد. ففي كل الحالات لن يوقع صاحب العمل على شرط التحكيم للتهرب من مسؤولياته تجاه العمال.
يعتقد خليفة أن هناك مراكز قوى لمنظمات أصحاب الأعمال داخل البرلمان بغرفتيه في مجلسي النواب والشيوخ. وهم يُغلبون مصالحهم على مصلحة الفئات الأولى بالحماية الاجتماعية من العمال. ذلك بحجة “فزاعة هروب الاستثمارات”.
يضيف: “تناسى هؤلاء النواب أنهم ممثلو الشعب المصري وليسوا ممثلين لأصحاب الأعمال”.
المفاوضة وضعف التنظيم النقابي
يعود بنا كمال عباس، المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية، إلى أصل المفاوضة الجماعية. فيصفها بأنها الأداة المنشودة من العمل النقابي. إذ أن علاقات العمل في أي مكان في العالم تصاغ من خلال مائدة المفاوضات. بمعنى أن أي ما يخص علاقات العمل من المفترض أن يتم التوافق عليه من خلال المفاوضة. والتي يجب أن تكون بين أصحاب العمل أو منظماتهم والعمال ومنظماتهم النقابية المنتخبة.
وقد نشأت المفاوضة تاريخيًا من رحم الإضرابات والاحتجاجات العمالية.
كذلك، فإن أساس عمل النقابة هي المفاوضة. والمفاوضة لها سند قانوني من خلال نصوص قانون العمل المصري. وهو يفرد لها بابًا كاملًا. لكن السؤال الذي يجب طرحه هنا: هل المفاوضة مفعلة في مصر؟
الإجابة ستكون بالطبع لا. والسبب في ذلك هو عدم وجود نقابات حقيقية. الكلام لا يزال لكمال عباس.
يرى عباس أن الوضع الراهن يمكن تفسيره بالآتي: هناك اتحاد عمال يضم 27 نقابة عامة. وهو تابع تمامًا للسلطة، وجهاز بيروقراطي لا يراعي مصالح العمال، على حد وصف عباس.
كما يوجد أيضًا عدد من النقابات المستقلة في القطاع الخاص وفي عدد من المؤسسات الحكومية. وتبلغ إجمالًا حوالي 70 لجنة نقابية. ذلك إضافة إلى نقابة عامة واحدة هي النقابة العامة للعاملين بهيئة الإسعاف.
هذه هي وضعية النقابات في مصر، وهي ضعيفة جدًا. وبالتالي فإن آلية المفاوضة تصبح هشة وغير فاعلة. ذلك لأنها من المفترض أن تستمد قوتها من قوة النقابات الغائبة من الأساس، وفق ما يوضح عباس.
غياب ثقافة التفاوض
يوضح عباس كيف تدار عملية المفاوضة الجماعية خارج مصر. يقول: الوضع في عدد كبير من الدول التي تمثل النقابات بها قوة حقيقية، هو أن العمال داخل مؤسسة العمل تكون لهم مطالب ما، فتجلس النقابة مع صاحب العمل حول هذه المطالب. فإذا لم تصل إلى اتفاق، يكون قرار النقابة بالإضراب من أجل الضغط لتلبية تلك المطالب.
لكن ما يحدث في مصر هو وضع هرمي مقلوب. إذ عندما يكون للعمال مطالب يبدأون بالإضراب من أجل إجبار صاحب العمل على الجلوس والتفاوض. ذلك لأن ضعف النقابة يدفع صاحب العمل إلى عدم الانصياع للتفاوض، إلا تحت ضغط الإضراب.
يقول عباس إن ثقافة المفاوضة ليست موجودة في مصر بالشكل الصحيح إلا في حالات نادرة. على سبيل المثال، دخل ممثلو عمال شركة “كادبوري” بالإسكندرية العام الماضي، في مفاوضة مع صاحب العمل من أجل عقد عمل جديد بشروط أفضل. وقد نجحوا بالفعل في الحصول على هذا العقد من خلال جلسة مفاوضة جماعية. وهو ما حدث أيضًا مع عمال شركة “لينين جروب”.
يرى عباس أيضًا أن أحد أزمات المفاوضة الجماعية في مصر هو عدم وجود لائحة لاتفاقيات المفاوضة والعمل الجماعي في أي من قطاعات الصناعة المصرية المختلفة. إذ يكون الاعتماد فقط على القواعد الأساسية التي يضعها قانون العمل للمفاوضة الجماعية. وهي غير كافية وتفتقد لبنود واضحة للاتفاقات والمفاوضة.
الانحياز لأصحاب الأعمال
ختامًا، تتحول المفاوضة من سلاح في يد طرف علاقة العمل الأضعف (العمال) إلى أداة في يد أصحاب الأعمال. حيث يوافق صاحب العمل على جلسة المفاوضة من أجل إنهاء الإضراب. ثم يتنصل لاحقًا مما وقع عليه من التزامات، دون الخوف من أية عقوبة حقيقية، سوى بضعة آلاف من الجنيهات (بضعة مئات في قانون 12).
يفاجأ العمال عند حلول موعد تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بجلسات المفاوضة الجماعية بتنصل الإدارة من الالتزمات، فيعاودون الإضراب، وغالبًا ما يكون الإضراب الثاني أضعف من الأول. خاصة في ظل عدم وجود منظمات نقابية قوية. وبعد فترة تكون الإدارة بثت روح الإحباط في أوساط العمال، بأساليب مختلفة، منها تشتيتهم والتفرقة بينهم وكسب النماذج الضعيفة والمهتزة. وكذا تهديد قياداتهم بالفصل أو فصلهم بالفعل. وهو ما حدث بشكل أو بآخر في أكثر من موقع عمل مثل شركة يونيفرسال.
يساعد في ذلك انحياز قانون العمل الحالي (12) إلى أصحاب الأعمال سواء بعدم معاقبة أصحاب الأعمال بغرامات رادعة، أو من خلال تقييد حق الإضراب بشروط تعجيزية، منها إلزام العمال بتحديد موعد لبداية ونهاية الإضراب. وهو أمر غير معقول؛ فالعمال لا يمكن أن يعرفوا متى ينتهي إضرابهم. ذلك لأنه مرهون بتحقيق مطالب الإضراب، وإلا فقد الإضراب فاعليته. ذلك بالإضافة إلى حظر الإضراب في المنشآت الاستراتيجية، والتي تركتها الصياغة القانونية مطاطة وغير محددة ومتروكة لما يحدده رئيس الحكومة. وهي القيود التي حافظ عليها مشروع قانون العمل الجديد.