لا يمكن لسياسي ولا لكاتب ولا لمفكر ولا لرجل دين أن يدير ظهره لمعطيات الواقع ولا أن يتجاهلها. وبالأولى لا يمكن له أن يصطدم معها. وإلا فإن الخسارة حتمية.
ومن أقوى هذه المعطيات حالة التدين الشعبي السائدة التي تجمع بين الحماسة المفرطة والجهل بأساسيات الدين. والخلط بين ما هو من العقائد وما هو من الفقه وما هو من السيرة وما هو من المظاهر والآداب. مع النفور من كل قول أو رأي يخالف المشتهر شعبيا. أو يغاير المُتلقى عبر وعاظ المنابر لا المصادر التراثية ذات الاعتبار.
من هنا يأتي خطأ الإعلامي البارز إبراهيم عيسى حين قرر أن يعلن في حسم وعبر برنامجه أن “المعراج” قصة وهمية. مستندا على أقوال وروايات تملؤ كتب التفسير عن صحابة وتابعين وأئمة لا يقولون بالمعراج. لأن هذا الخلاف التراثي غير منعكس على حالة التدين الشعبي. التي لا تعرف إلا “القطع” في كل مسائل الدين. والمزاج الديني العام الذي تكون عبر الوعظ لا يفرق أصلا بين الإسراء وبين المعراج. ولا بين مستوى الثبوت في المسألتين. ولا بين طرق الإثبات فيهما. وهو ما يعني عمليا أن يكون كلام “عيسى” مصطدما مباشرة مع “العقيدة الجماهيرية” حتى لو لم يكن منافيا للرؤية التراثية.
ويتضاعف اللوم على إبراهيم عيسى لكون مسألة المعراج مجرد قصة أو واقعة من وقائع السيرة لا يترتب عليها أي أحكام فقهية عملية. فليس لها أثر فيما نطالب به من إصلاح ديني أو تجديد فقهي. وشأنها شأن عشرات غيرها من معجزات الأنبياء التي جاء ذكر بعضها في القرآن الكريم. وجاء بعضها في روايات تتفاوت في درجات صحتها. كما جاء كثير منها في العهدين القديم والجديد. ومن حق المهتم بالشأن الديني هنا أن يسأل الأستاذ إبراهيم عن الفائدة التي يمكن أن نحصلها من نفي المعراج أو إثباته. إذ ليس هذا هو ميدان “التثوير” ولا “الاشتباك” ولا مواجهة “الجمود الفكري أو الفقهي”.
إن إثارة مثل هذه المسائل وتحويلها إلى قضايا كبرى ومصادمة الوجدان الجماهيري لا يمكن بأي حال أن يكون في صالح التجديد الفقهي أو التطور المجتمعي. ومنذ أن انفجر “حديث المعراج” وتصدر المنصات الإعلامية توالت ردود الفعل التي يمكن أن نرجعها كلها إلى مراعاة الحالة الشعبية الغاضبة. بدءا من ردود الأزهريين ودار الإفتاء. مرورا بمطالب بعض البرلمانيين بالتصدي لـ”عيسى” ووقف برنامجه. وكذلك الاجتماعات الطارئة للجنة الشؤون الدينية في البرلمان وتقديم مقترح بمشروع قانون لقصر الحديث في الدين على “المتخصصين” وصولا إلى قرارات التحقيق من “الأعلى للإعلام” ومن النيابة العامة.
ولأن الخبرات السابقة تؤكد أن كل هذه الضجة ستنتهي إلى لا شيء. سيما وأن “عيسى” لديه برنامج على قناة أخرى لا تبث من مصر. ولا تخضع لقواعد وقرارات “الأعلى للإعلام”. فإن الإعلامي المحترف سيبقى المستفيد الأول والأخير من تلك الضجة الكبرى. فقد تمكن الرجل من توظيف كل شيء لمصلحته: وظف الحالة الشعبية ووظف مواقع التواصل الاجتماعي ووظف المؤسسات الدينية وحرك البرلمان والنيابة و”الأعلى للإعلام”. وصب كل هذا الجدل في صالحه معنويا وماديا. يستوي في ذلك من أيده ومن عارضه. من دافع عنه ومن شتمه. من تضامن معه ومن كفره. والبشر والحجر والحيوان والنبات والسوائل والجمادات تعلم أن الحركة المضادة لتصريحات “عيسى” ليست إلا حركة اضطرارية مؤقتة لمواكبة “الترند”. وستنتهي خلال يومين أو ثلاثة مع تفجر “ترندات” جديدة.
جهد ضائع.. كان أولى بإبراهيم عيسى وبنا معه أن نصرفه لترسيخ قيمة احترام عقائد الآخرين. أيا كانت هذه العقائد. فأكثر هؤلاء المتحمسين ضد “عيسى” ليس عندهم ذرة من احترام عقائد الآخرين، ولا يريدون الاحترام والتوقير إلا لدينهم حصرا. وفي الحقيقة لا يريدون الاحترام إلا لتصوراتهم الذهنية عن الدين. وأما من يريد أن يسير المجتمع خطوات للأمام وأن تتسع رؤى الاعتدال والعقلانية فسيعمل على ترسيخ احترام العقائد. بغض النظر عن حقيقة العقيدة. ولن يشترط أن تكون هذه العقيدة ثابتة عنده. فقصر الاحترام على ما ثبت يعني ألا يحترم أحد إلا عقيدته فقط. ومن الناحية العملية فلم يكن هناك فرق بين إبراهيم عيسى الذي لم يحترم وجدان الأغلبية الساحقة من جماهير المتدينين. وبين أي شاب سلفي ذي لحية كثة ممن يتعمدون الحديث عن إبطال مسألة صلب المسيح كلما جاء عيد الميلاد أو عيد القيامة. كلا الطرفين يوقف احترامه على شرط “الصحة”. وإنما الاحترام الحقيقي يكون لتلك العقيدة التي لا تؤمن بها. ليس للعقيدة نفسها، لكن لصاحبها. لوجدانه. لضميره الديني. لأنه زميل أو جار أو صديق. لأنه إنسان.
ولأن هذا النوع من الأزمات يأتي كاشفا فلا يمكن أن نغض الطرف عن أن كثيرا ممن تصدوا لإبراهيم عيسى واتهموه بمحاربة الإسلام وبأنه يعمل على زعزعة العقائد في النفوس وزعموا أنهم يردون عليه ابتغاء وجه الله ودفاعا عن الدين ليس في تاريخ أحدهم كلمة في نقد جماعات الغلو. ولا سطر في تحذير الشباب من مخاطر فكر حسن البنا. ولا موضوع لمواجهة ضلالات سيد قطب الذي هو أعظم أثرا وأكبر خطرا وأشد ضررا من ألف مثل إبراهيم عيسى، سواء كان معيارنا هو طبيعة الأفكار أو كان حجم انتشارها أو كان الأثر العملي لها في أرجاء العالم.
“عيسى” لا يتأثر به أحد، ولا يحتفي به إلا ثلة من أصدقائه وبضع مئات من غلاة العلمانيين الذين يحدثون أنفسهم على مواقع التواصل. أما جماعات الإرهاب وحسن البنا وسيد قطب فقد أسالت أفكارهم الدماء في أرجاء المعمورة. لذا فلا يصدق عاقل أن الغيرة على الدين كانت السبب الأوحد للتصدي لعيسى. فجانب كبير من هذا التصدي كان لحساب الإخوان ولم يكن لحساب الإسلام. كان تصفية حساب سياسي وليس غيرة على الدين.