بدأت الحرب الروسية الأوكرانية. وقد غزت القوات الروسية أوكرانيا يوم الخميس برًا وجوًا وبحرًا. ذلك في أكبر هجوم تشنه دولة ضد أخرى في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وقد أمطرت الصواريخ الروسية المدن الأوكرانية. وأبلغت أوكرانيا عن تدفق أعداد من القوات عبر حدودها إلى مناطق تشيرنيهيف الشرقية وخاركيف ولوهانسك. كما نزلت القوات الروسية عن طريق البحر في مدينتي أوديسا وماريوبول في الجنوب. وفي الأثناء سُمع دوي انفجارات قبل الفجر في العاصمة كييف التي يبلغ عدد سكانها 3 ملايين نسمة. كما انطلقت صفارات الإنذار، واختنق الطريق السريع خارج المدينة بحركة المرور مع فرار السكان. بينما تصاعد دخان أسود فوق مقر المخابرات العسكرية الأوكرانية بعد انفجار في كييف قرب منتصف النهار.
الحرب الروسية الأوكرانية.. الصدمة والرعب
هذا الوضع الراهن وقوة الهجوم الروسي في اتجاه الأراضي الأوكرانية توقعه تقرير نُشر قبل يومين عبر مجلة “فورين أفيرز“، ذكر فيه الباحثان مايكل كوفمان وجيفري إدمونز أنه إذا غزت روسيا أوكرانيا، فلن تقيد نفسها. بل ستستخدم الجزء الأكبر من مواردها العسكرية -القوات البرية والقوة الجوية والبحرية- في صراع عنيف ومفتوح.
قال الباحثان -في تقريرهما- إن القوات الروسية ستتدفق إلى أجزاء واسعة من أوكرانيا، وليس فقط الشرق. متوقعين أن تحاول روسيا الاستيلاء على العاصمة بهدف إقامة حكومة موالية لها. وإنها لتنفيذ ذلك ستبدأ بعملية أولية مكثفة. على أن يتبعها دخول قوات إضافية يمكنها الاحتفاظ بالأراضي وتأمين خطوط الإمداد.
يضيف الباحثان أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا قد تكون مدمرة بشكل لا يصدق. وأنه حتى لو كانت المرحلة الأولية سريعة وحاسمة، فقد يتحول الصراع إلى نزاع طويل الأمد يضم عددًا كبيرًا من اللاجئين والخسائر المدنية. خاصة إذا وصلت الحرب إلى المناطق الحضرية. إذ من الصعب التنبؤ بحجم وإمكانية تصعيد مثل هذا الصراع. لكن من المحتمل أن ينتج عنها مستويات من العنف لم تشهدها أوروبا منذ تسعينيات القرن الماضي، عندما مزقت يوغوسلافيا نفسها.
أوكرانيا والغزو واسع النطاق
وضعت روسيا أكثر من 150 ألف جندي على الحدود الأوكرانية. وهو رقم لا يشمل القوات التي تقودها روسيا في دونباس (والتي قد يصل عددها إلى 15 ألفًا وفق الباحثين)، أو الحرس الوطني الروسي، أو القوات المساعدة الأخرى.
وبإحصاء هؤلاء، يمكن أن يكون لروسيا أكثر من 190 ألف جندي بالقرب من الحدود الأوكرانية. وهي أرقام تشير إلى أن موسكو قد تحاول التمسك بأجزاء كبيرة من الأراضي الأوكرانية. بما في ذلك العاصمة.
لقد توقع الباحثان أن يبدأ الجيش الروسي حملته بضربات جوية تستهدف أنظمة القيادة والسيطرة والمراكز اللوجستية والمطارات والدفاعات الجوية وغيرها من البنى التحتية الحيوية. وهو ما تم بالفعل، حسب ما ورد من أنباء في أعقاب بدء العمليات العسكرية. وكذا في تصريحات الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف. أعلن أن روسيا تتطلع عبر عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، إلى “اجتثاث النازية” من ذلك البلد وتحييد قدراته العسكرية.
وقد أجاب بيسكوف، الصحفيين اليوم الخميس ردًا على سؤال حول كيفية فهم عبارة “اجتثاث النازية”، وما إذا كانت موسكو ترى من الضروري تغيير النظام في كييف. قال: “كأمر مثالي يجب تحرير أوكرانيا وتطهيرها من النازيين، والمناصرين للنازية وفكرها”. وأضاف أن تجريد أوكرانيا من السلاح يعني إبطال إمكاناتها العسكرية، التي “ازدادت مؤخرًا إلى درجة كبيرة بدعم من الخارج”.
الحرب الروسية الأوكرانية.. حدود قوة موسكو
هنا، يقول الباحثان -في تقريرهما بفورين أفيرز- إن الضربات الجوية لن تستمر بلا منازع على الإطلاق. إذ تفتقر القوات الجوية الروسية إلى الخبرة في قمع أو تدمير الدفاعات الجوية للعدو. ونادرًا ما تستخدم الصواريخ المصممة لتدمير الرادار. وإنه نتيجة لذلك، لا تزال الدفاعات الجوية الأوكرانية الهزيلة تشكل تحديًا. لكن الدفاعات الجوية الأوكرانية تعاني من نقص أيضًا. وفي ظل هذا الوضع، من غير المرجح أن توفر غطاءً فعالاً لمعظم القوات البرية في البلاد. سوف يطغى عليهم بسرعة.
تضع روسيا الجزء الأكبر من قوتها النارية في قواتها البرية. لذلك ستشرع بسرعة في حملة برية. وستبدأ باستخدام طائرات الهليكوبتر لإسقاط القوات في أوكرانيا. وقد تسقط روسيا أيضًا بشكل استراتيجي قوات المظليين وقوات الجسر الجوي والعربات المدرعة خلف خط المواجهة بعيدًا. ذلك للاستيلاء على الجسور أو البنية التحتية الأخرى.
كما سيكون الجهد الرئيسي للحملة البرية لروسيا هو إنشاء حركة كماشة من الشمال تطوق كييف وتغلق على الجزء الأكبر من القوات البرية الأوكرانية في الجزء الشرقي من البلاد. وبعد ذلك ستقطع التشكيلات الروسية خطوط الإمداد الأوكرانية وتفتيت الجيش الأوكراني إلى جيوب معزولة تحيط بها القوات الروسية. وفي الأثناء، ستوفر الطائرات بدون طيار والمروحيات القتالية الاستطلاع والغطاء للقوات البرية الروسية.
وقد عملت موسكو بجد لتحديث أسطولها في البحر الأسود. وهو يمتلك الآن منصات من الغواصات التقليدية المتقدمة إلى الطرادات. وهي تطلق صواريخ كروز دقيقة التوجيه، مع مدى أطول من 1000 ميل. ويمكن لهذه الصواريخ أن تضرب أي جزء من أوكرانيا. كما عززت روسيا أسطول البحر الأسود بسفن إنزال من أساطيل أخرى. وهذه الأخيرة قادرة على إجراء عملية برمائية كبيرة، باستخدام 1000 إلى 2000 جندي، لمساعدة القوات الروسية على الهجوم عبر البرزخ الضيق الذي يفصل شبه جزيرة القرم عن أوكرانيا، وفق الباحثين.
وبالإضافة إلى الاعتماد على القوة النارية التقليدية، فإن العملية الروسية تدعمها الحرب الإلكترونية. إذ يمتلك الجيش الروسي مجموعة كاملة من القدرات الرقمية التي يمكنه استخدامها لتعطيل أنظمة الملاحة والاتصالات للقوات الأوكرانية. وسيجد القادة الأوكرانيون فجأة أنه من المستحيل استخدام القنوات القائمة لتنسيق ردهم على الغزو الروسي. ما يجبرهم على استخدام وسائل اتصال أقل أمانًا.
اقرأ أيضًا: ماذا لو فازت روسيا؟
أوكرانيا في مواجهة ما لا تستطيع
يقول الباحثان –في تقريرهما بفورين أفيرز– إن الجيش الأوكراني أيضًا تحسن بشكل كبير منذ عام 2014. ذلك بفضل المساعدة الغربية. كما اكتسب خبرة قتالية من الحرب في دونباس. لكن التجربة تقتصر إلى حد كبير على حرب الخنادق ومناوشات المدفعية.
ووفقًا لذلك، فإن كييف غير مستعدة لغزو روسي بهذا الحجم. إذ يعاني الجيش الأوكراني بشكل عام من نقص في التعداد. كما أن لديه إلمام محدود بالحرب المصممة لمفاجأة الأعداء وتعطيلهم.
وتتألف قوات أوكرانيا البرية من آلاف المجندين ذوي الخبرة المحدودة. وعلى النقيض من ذلك، تمتلئ مجموعات الكتائب التكتيكية الروسية بجنود متعاقدين أكثر مهارة. كما أن سلاح الجو الأوكراني أيضًا قديم وليس لديه أي فرصة ضد نظيره الروسي. والبحرية الأوكرانية هي في الأساس “أسطول البعوض” المكون من زوارق حربية صغيرة مدرعة.
أوكرانيا واستراتيجية الانسحاب المنظم
يقول الباحثان إنه على الرغم من صعوبة الحصول على أرقام موثوقة. إلا أن القوات البرية الأوكرانية قد ترسل 50 إلى 60 كتيبة ضد أكثر من 120 كتيبة حشدها حاليًا الجيش الروسي. وهذه الكتائب لا تتمتع بنفس مستويات الفعالية القتالية.
سيكون للجيش الروسي ميزة على طول كل محور للهجوم.
أوكرانيا شاسعة، مما يجعل من غير العملي للقوة الأدنى في البلاد أن تشن دفاعًا فعالًا ضد الغزو. وبالتالي، فإن الاستراتيجية الأكثر منطقية للجيش الأوكراني هي محاربة انسحاب منظم. مع فرض تكلفة عالية من الخسائر قدر الإمكان لأي تقدم روسي.
ويمكن أن يساعد العودة إلى التضاريس الأكثر دفاعًا، مثل نهر دنيبر الذي يمر عبر وسط أوكرانيا، في استنزاف القوات الروسية. لكن القوات الأوكرانية ستقع ضحية للهجمات الجوية الروسية مع تراجعها. وأيضًا ستتحرك القوات البرية الروسية بسرعة لمحاولة محاصرة التشكيلات الأوكرانية. لكن الجيش الروسي يتحرك أيضًا من بيلاروسيا في الشمال، ما يسمح للعديد من القوات بتجنب عبور نهر دنيبر. ومن ثم الهجوم من غرب وشرق كييف وعزل المدينة عن معظم الجيش الأوكراني.
قد يستلزم القتال خارج كييف بعد ذلك حفنة من الألوية الأوكرانية تقاتل قوات روسية أكثر قوة بكثير. وهذه القوات الأخيرة مدعومة بالوحدات المحمولة جوًا.
هذه معركة ستخسرها أوكرانيا بشكل شبه مؤكد.
يضيف الباحثان أنه إذا وجد الجيش الأوكراني نفسه مرتبكًا بسرعة، يمكنه أن يتبنى حرب العصابات. ذلك بأن يقسم نفسه إلى تشكيلات تكتيكية أصغر تتمتع بأقصى قدر من الاستقلالية. وسيستلزم ذلك التخلي عن معظم الدروع الثقيلة والمدفعية. مع التركيز بدلاً من ذلك على المشاة المسلحين بصواريخ محمولة على الكتف لضرب الدبابات أو الطائرات. لكن مثل هذا التحول أسهل من الناحية النظرية منه في الممارسة.
الحرب الروسية الأوكرانية.. التحول إلى حرب المدن
يمكن للجيش الأوكراني التراجع إلى المدن كملاذ أخير. فالمدن تستهلك الجيوش. وقد تبدو القوة الروسية كبيرة، لكنها سرعان ما ستثبت أنها تافهة بالنظر إلى متطلبات حرب المدن.
ومع ذلك، فإن أوكرانيا لن تتخذ هذا الخيار باستخفاف. لأن حرب المدن تُعد عملًا داميًا. ومن المرجح أن تؤدي المعارك حول المدن الرئيسية في أوكرانيا إلى قتل أعداد كبيرة من المدنيين. فضلًا عن تدمير أحياء بأكملها، وإلحاق أضرار لا حصر لها بالاقتصاد.
من المحتمل أن تأمل القيادة الروسية أن تتمكن من تجنب القتال الحضري المطول من خلال إبرام الصفقات مع النخب الإقليمية التي قد تنقل السيطرة على المدن إلى السياسيين الموالين لروسيا، كما يقول الباحثان.
ولا شك أن موسكو تخطط لربط المخططات السياسية بعمليتها العسكرية بطرق أخرى أيضًا. فإذا نجحت روسيا في مناوراتها السياسية، قد تحقق بالفعل نصرًا أوليًا حاسمًا. لكن هذا افتراض محفوف بالمخاطر. فالقليل من الأشياء تسير كما هو مخطط لها في الحرب. كما أنه من الصعب التكهن بما سيحدث بعد إطلاق الطلقات الافتتاحية.
في حالة أوكرانيا، للحرب مجموعة من العواقب المحتملة على المدى الطويل. إذ قد تستمر المقاومة الأوكرانية كتمرد.
كذلك، من غير المرجح أن تغزو روسيا غرب أوكرانيا. لكن التمرد، خاصة إذا تم تمويله من الخارج، قد يستمر في استنزاف القوات والموارد الروسية على مر السنين.
في الأخير، يمكن أن تؤدي الحرب المطولة إلى انتشار عدم الاستقرار في المناطق الشرقية والوسطى من القارة. ويمكن أن يكون ذلك أيضًا بداية لسلسلة من الأزمات بين الناتو وروسيا.
لأول مرة منذ عقود، يقف الأمن الأوروبي على حافة الهاوية.