يوم الثلاثاء الماضي شاهدت فيديو لزميلتنا الصحفية هبة أنيس تشرح فيه ظروف احتجاز زوجها الدكتور وليد شوقي المحبوس منذ نحو ثلاث سنوات. كانت الزميلة تتحدث بأسى وغضب بينما كلماتها تعبر عن حالة من الإحباط جراء استمرار حبس زوجها، المضرب عن الطعام منذ 10 أيام. تعاطفت مع هبة وشعرت بعجزها وغضبها وشعورها بافتقاد ابنتها الصغيرة لأبيها، الذي تحتاجه لا شك.
وليد شوقي وغيره المئات، يعانون ومعهم أسرهم بلا أسباب جادة وبلا منطق يمكن تفهمه أو قبوله.
ملف سجناء الرأي هو أحد القنابل الموقوتة بلا شك، يضغط على أعصاب الناس، والبلد نفسها، ويصنع حالة من الغضب والاحتقان تتصاعد وتتمدد. ملف مزعج تحول إلى عبء حقيقي، يسحق آخر ما تبقى من انتماء لدى المحبوسين وأسرهم، بعد أن تملك منهم العجز والإحباط بشكل كامل!
في كل بلد يرغب ويسعى للتقدم لا يمكن قبول أو تفهم حبس شبابه باتهامات سياسية في الأساس لا تتعدى حدود التعبير السلمي عن الرأي أو الموقف السياسي. والمؤكد أنه لا تقدم اقتصادي يمكن أن يحدث دون تصفية ملف سجناء الرأي وفتح المجال العام وإطلاق الحريات العامة. لا أوطان تتقدم في عالمنا الراهن دون صحافة حرة وقضاء مستقل ومجتمع يستمع للجميع ويحترم التنوع ويحتوي كل أبنائه!
المؤكد أنه لا أحد في مصر يملك معلومات دقيقة عن عدد سجناء الرأي، تقدرهم منظمات حقوقية بآلاف السجناء. بينما تنفي السلطة العدد وتعتبر هذه التقديرات مبالغات حقوقية وسياسية. ومع ذلك يبقى أن السلطة عليها أن تكشف العدد الحقيقي لسجناء الرأي منعًا لانتشار الشائعات. ولكي يكون هذا الإعلان هو البداية لتصفية هذا الملف الذي أرهق السجناء وأسرهم وأساء لصورة البلد، وبعد أن انتفت بشكل كامل أسباب بقاء هؤلاء الشباب بداخل السجون، والأولى والأكثر منطقية وإنسانية الآن هو عودتهم لحياتهم وأعمالهم وأسرهم التي تتحمل معاناة فوق التصور!
منذ عدة سنوات كانت الحياة السياسية والحزبية حرة. شجع هذا المناخ آلاف من الشباب على الانتماء للأحزاب والدخول إلى مساحة الاهتمام بالشأن العام. بدّلت الثورة الوعي العام وارتقت به وجعلت الاهتمام بالسياسة أمرًا طبيعيًا.
هذه الروح كانت لصالح البلد بكل تأكيد، تزيد الانتماء وتخلق كوادر سياسية للمستقبل، وتنشر الوعي والتنوير، وترسّخ احترام التنوع والأفكار في الاتجاهات السياسية. هذه الروح التي سرت في شرايين المجتمع بعد أن تيبست على مدار 30 عامًا من حكم مبارك البليد كانت إحدى أهم المكاسب التي حققتها الثورة. انتماء الشباب وممارستهم للسياسة وتفاعلهم مع المناخ العام الحر لا يمكن التعامل معه باعتباره جريمة تستحق السجن لشهور وسنوات. فقد كانوا يحلمون بحرية سياسية تستوعب طموحهم وأحلامهم للمستقبل. هذه الأحلام التي كانت ستحمل المجتمع إلى مكان أكثر تقدمًا وأفضل من الحاصل الآن بلا شك!
أسماء سجناء الرأي في مصر وحدها كاشفة لعدم تصديق أي اتهامات موجهة ضدهم. قيادات سياسية ونقابية وصحفيون وشباب أحزاب وآخرون شاركوا فقط في ثورة يناير، شخصيات تختلف في أفكارها وتوجهاتها السياسية وانتماءاتها الحزبية. لكنها تتفق في كونها لم تمارس العنف، ولم تحرض عليه. بل ولا تؤمن أصلًا بالعنف كوسيلة لأي تغيير سياسي.
وفي تقديري، فإن هذه النقطة هي المقياس الأمثل للتعاطف مع أي سجين رأي. وكل من لم يمارس العنف أو يحرض عليه، وكل من مارس فقط العمل السياسي السلمي أو كتب مقالات أو تدوينات حتى لو كانت معارضة للسلطة الحالية يستحق الحرية بامتياز.
في تقديرات السلطة الحالية تبدو الحرية مرادفًا للفوضى أو للثورة أيهما أقرب. يظن نظام الحكم الحالي أن فتح مساحات للحرية والتعدد والعمل الحزبي سيؤدي بلا شك إلى فوضى أو ثورة على غرار ما حدث في عام 2011. وهو في اعتقادي تقدير سياسي خاطيء. فالحرية والعمل السياسي والحزبي وتنوع الأفكار والرؤى هو أحد روافد التطور.
والظن بأن حصار الحريات وحبس أصحاب الرأي هو الذي سيوفر الاستقرار هو الظن الذي يحمل الإثم بعينه. فالحرية توفر الاستقرار، وتجعل المجتمع أكثر حيوية، وتمنحه حصانة أكبر ضد كل صور التطرف والعنف. كما تمنحه مساحات كبيرة من الوعي والاستنارة. وكبت الحريات ووضع أصحاب الرأي في السجون يوفر استقرارًا هشًا وغير حقيقي. بل هو في الأصل جمودًا وليس استقرارًا بأي حال من الأحوال.
مصر أصبحت في احتياج لتصور جديد لملف سجناء الرأي، ونظرة مختلفة تضع السجناء وأسرهم في الاعتبار، وتفتح لهم أبواب الأمل في الحرية والسلام، وتغلق صفحة الماضي بكل مآسيها وإرهاقها على هولاء السجناء وأسرهم.
البلد في حاجة حقيقية لأن يتنفس هواء الحرية. وهنا، فإن الدور الرئيسي يقع على النظام السياسي بأن يتخذ خطوات جادة وسريعة تضمن نزع فتيل الاحتقان المجتمعي. مع تصفية ملف سجناء الرأي، وإطلاق الحريات العامة. وأيضًا ضمان حق جميع المصريين في حرية الرأي والتعبير والاعتقاد. بالإضافة إلى التسليم الذكي بأن مصر دولة كبيرة وأن التنوع فيها أمر طبيعي ومنطقي. بل أن هذا التنوع هو في الأصل منحة لهذا البلد عليه استغلاله. فبهذا التنوع في الأفكار والرؤى تتفجر الطاقات وتظهر البدائل للأزمات والمشكلات، ويبدو الوطن في أبهى صورة.
أملي أن تحمل الفترة القريبة المقبلة بشارة لكل سجناء الرأي وأسرهم، ولكل من يحلم ببلد جديد يحترم حرية وكرامة أبنائه، ويفتح لهم أبواب الغد المقبل، وربما يكون هذا الأمر هو العوض المناسب عن السنوات التي ضاعت من أعمارهم في ظلام ومشقة السجون والزنازين!