بزيادة الخلاف مؤخرا حول بعض القضايا المتعلقة بالدين وزيادة حدة التراشق بخصوص ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام. وافقت لجنة الشؤون الدينية بالبرلمان مؤخرا على مشروع قانون لتعديل بعض أحكام القانون رقم 51 لسنة 2014 بشأن تنظيم ممارسة الخطابة والدروس الدينية في المساجد وما في حكمها.

مشروع القانون قدمه النائب طارق رضوان -رئيس لجنة حقوق الإنسان- و(60) نائبا. وتحظر المادة الأولى منه ممارسة الخطابة والدروس الدينية وما في حكمها من الساحات والميادين العامة ودور المناسبات. بالإضافة إلى الحديث في الشأن الديني عبر وسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو الإلكترونية على غير المختصين من الأزهر والأوقاف.

من هنا وجب التذكير بمفهوم الاجتهاد في الدين. وهو بذل الجهد لإدراك حكم شرعي من أدلته الشرعية. وواجب على من كان قادراً عليه. وهو أحد مصادر التشريع ويُعبر عنه باسم “القياس” أو “العقْل” أو “الرأْي” باعتبار أن كلا من هذه الثلاثة أداة من أدوات الاجتهاد.

فوظيفة الاجتهاد تفسير النصوص حال غموضها. أو إبداء رأي في مسألة لم يرد فيها نص. لذلك رفعت الشريعة مقام الاجتهاد وحضت عليه. وقد ورد في الأثر “للمجتهد أجران إذا أصابَ. وأجْرٌ إذا أخطأ”. وفي هذا مُنْتَهى التقدير لحريَّة الرأْي والاجتهاد كمصدرٍ صحيحٍ للشريعة والتجديد.

وقد لعب الاجتهاد دورا بارزا في تاريخ الفقه الإسلامي. وهو الأداة الوحيدة التي يمكن من خلالها تحليل القضايا الاجتماعية المعاصرة في ضوء مبادئ القرآن والسنة. وهو باب فتحه الرسول بقوله “استفتِ قلبك ولو أفتوك”. ليضع الاجتهاد محل فريضة على كل مسلم قادر عليها طبقا لقواعدها الشرعية.

فخ تشريعي

وتهدد المادة الثانية من المشروع حرية الرأي والتعبير. إذ اعتبرها بعض الكتاب والمفكرين فرض وصاية على الاجتهاد والآراء المغايرة للموروث التقليدي.

وتنص المادة على أنه “لا يجوز لغير المعينين المتخصصين أو المرخص لهم من غير المعينين من خريجي الأزهر والعاملين به من الأئمة بالأوقاف والوعاظ بالأزهر الشريف والإفتاء التحدث في الشأن الديني بوسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو الإلكترونية. إلا من خلال تصريح من مشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف حسب الأحوال. ولا يجوز الترخيص لغيرهم بممارسة الخطابة والدروس الدينية بالمساجد وما في حكمها. أو التحدث في الشأن الديني بوسائل الإعلام المرئية أو المسموعة أو الإلكترونية.

كما تنص على معاقبة من خالف هذه القواعد بالسجن المشدد مدة لا تقل عن 6 أشهر ولا تجاوز سنة. وبغرامة لا تقل عن 50 ألف جنيه ولا تجاوز 100 ألف.

رُخَص تكفيرية

يهدف المشروع من وجهة نظر مقدمه رئيس لجنة حقوق الإنسان بالبرلمان إلى ضبط وتقنين مسألة الحديث في الشأن الديني. ومنع غير المتخصصين في مجال الدعوة والإفتاء بالتحدث في الأمور الدينية أو إصدار الفتاوى.

الكاتب والباحث في التاريخ الإسلامي الفلسفي -سامح عسكر- اعتبر مشروع القانون المقترح أداة للتوسع في منح “الرخص التكفيرية” في المجتمع. ونوعا من فرض الوصاية على المفكرين والكُتاب. وقال: لم يحدث من 1000 عام. وأضاف: قصر الكلام في الفقه الدينى على رجال الأزهر والأوقاف يؤدي أولا لتحويل مصر إلى دولة كهنوتية. وهو ما يخالف الدستور الذي ينص على أن مصر دولة مدنية وليست دينية. كما أنه ضد الميثاق العالمي الذي وقعت عليه مصر لحقوق الإنسان ويعرقل عمل الدولة في ترسيخ مبدأ المواطنة”.

سلطة الدين وسلطة الرئيس

وتابع أن بهذا المشروع سيكون للأزهر سلطة على رئيس الدولة والسلطة التنفيذية لاحتكار الفتوى. وأن ذلك من شأنه خلق حالة احتقان بين المؤسسات بمنح إحداها سلطة معاقبة الآخرين واقصاء الرأي المخالف. بالإضافة إلى أنه سيخلق أزمة طائفية مع الكنيسة لأن الفقه التقليدي أُحادي المذهب والذي يمثله التيار الأشعري  “الماتريدي” بالأزهر. والذي لم يُحدَّث في الإدارة السياسية حتى الآن. فما زال ينظر السلفيون إلى المواطنين المصريين من المسيحيين على أنهم “كفار” وأهل ذمة ومواطنين درجة ثانية. وطبيعي من وجهة نظره أن المفتي الأزهري لن يخرج من هذا الفقه التقليدي. الذي يقسم المواطنين في الدولة إلى خمس فئات (مؤمن-ذمي-محارب-معاهد-مؤتمن)

وأشار إلى أن القانون حال خروجه سيتسبب في حبس كل فناني ومثقفي مصر. وسيطول التيار النسوي. وأضاف أن المشروع يكشف أن الدولة تشجع الشيوخ والمدارس الدينية على التطرف وتنحاز لدولة الفقيه مباشرة ولا مكان فيها لفنان أو عقل مجتهد.

وأوضح أن المشروع يهدف لإعادة حكم المرشد بتوصيف مؤسسي جديد بكون الإسلام السياسي مسيطرا على التعليم الأزهري. وأبناء الجماعات من ٣ أجيال يشكلون غالبية الطلاب. لافتا إلى أن مادة “التريند” لدى الإسلاميين قوية ومدعومة من منصات عربية فضائية منتشرة. متوقعا أنه سوف يتم تأهيلهم لحُكم مصر مستقبلا عبر القضاء على المثقفين والوسط الفني وستكون مصر هي الخاسر الأكبر مما يحدث ومستقبلها سيصير مرهونا بصناع وملوك التريندات. إذ ستكون المواجهة وقتها بين الجمهور من ناحية وأصحاب الرخص التكفيرية من ناحية مختلفة.

النموذج الأفغاني

ويرى “عسكر” أن هذا الإجراء سيجعل مصر “تسير على طريق النموذج الأفغاني الذي كان الدين وسيلة المتشددين فيها للقضاء على ثنائية “المثقف وحرية الرأي”. مشيرا إلى أن النموذج السعودي مؤخرا تخلى عن مبدأ التكفير والتحريض ضد الآخر. وفتحت المملكة باب الاجتهاد في الدين فيما نحاول نحن إغلاقه!

واعتبر ما يحدث الآن في البرلمان نسخة من الوثيقة القادرية للخليفة العباسي القادر بالله سنة 408 هجري. والذي أنكر كل المذاهب واضطهد أتباعها وأبقى على المذهب الأشعري الماتريدي فقط.

الحفاظ على مدنية الدولة

محمود دوير -الكاتب الصحفي- اعتبر إقدام البرلمان على خطوة كهذه يهدد سلامة الوعي الجمعي الاجتماعي. وينسف مدنية دولة ودستور. مطالبا بالالتزام بما أكده الرئيس على مدنية الدولة وسياقها الدستوري. وأشار إلى أن ذلك يمثل مخالفة لما استقر عليه تاريخ الفقه الإسلامي في تعدد المذاهب: لو كل واحد سلم بما جاء قبله لتوقف الاجتهاد واحتكر رجال الدين الحقيقة دون غيرهم وتحكموا في حياة الناس.

وأكد أن منح صكوك الحقيقة لرجال الدين عكس ما جاء به صحيح الإسلام الذي يدعو إلى الفكر والاجتهاد. واعتبر أن لكل مسلم حقا في أن يفكر في أمور دينه ويتدبر.

ولفت “دوير” إلى أن هناك فرقا بين تناول القضايا الدينية والفتاوى من المؤسسات الرسمية التي نقرها جميعا ولا أحد يختلف معها. إنما الخلاف على المواضيع التي لم يرض فيها نص قاطع ثبوتي وهي محل خلاف.

وقال لـ”مصر 360″: سيتم محاصرة كل من يقترب من التجديد والفقه بمشروع القانون المقدم في البرلمان. واصفا مشروع القانون بأنه “قضايا حسبة”. فإذا فرض ذلك وتم تتبع آراء الناس على وسائل التواصل والإعلام سيترسخ مفهوم الحسبة بشكل عصري.

وانتقد التوافق البرلماني على هذا المشروع ممن يمثلون الشعب على تكريس الأفكار الجامدة التي تعرقل البحث والتفكير. ووصف الوضع الراهن بوجود أزمة في الخطاب العام والإعلامي والديني الذي نطالب منذ فترة بتغييره دون جدوى.

حرية الرأي والتعبير

وصف الدكتور أنور مغيث -أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان ورئيس المركز القومي للترجمة سابقا- هذه الإجراءات البرلمانية بأنها “فكرة عبثية وموجة سائدة من معاداة الحرية فيما يكفل االدستور حرية الرأي والتعبير”.

وقال لـ”مصر 360″: “الإنسان حر فيما يعتقد ما دام لم يترتب عليه أي أذى لإنسان آخر. وهذا معنى حرية التعبير والاعتقاد في العالم. لكن لدينا التفاف على نصوص الدستور. توجد حرية اعتقاد لكن لا توجد حرية تعبير. حق الاعتقاد يترتب عليه حق التعبير”.

وذكر أنه ليس من حق غير المتخصص أن يفتي في مسألة ليست من تخصصه لكن من حقه أن يبدي رأيا وهو غير ملزم للغير. بل يعبر فقط عن الشخص الذي صدر منه. فلا يجوز منعه أو معاقبته عليه حتى لو كان خاطئا أو غير صحيح. فالخطأ والثواب متروك للنقاش حيث لا يواجه الفكر إلا بالفكر لا بالقمع.

وأكد أن الإسلام خطاب عام موجه إلى جميع الخلق. يشمل كل جوانب الحياة. فلا يمكن حظر الناس من الحديث في أمور دينهم: “من حقه يتكلم ولا يؤخذ برأيه إذا كان رأيه خطأ. فالنقاش والجدل يبين عدم علم صاحبه وجهله لكن لا أضع أداة لمعاقبته وحبسه. لا أحاكمه”.

وأشار إلى أنه حال صدور هذا القانون سيكون “نشاز” وسط قوانين العالم. لأنه يقف ضد حقوق الإنسان بشكل مباشر. وقال إن هناك علوما تقترب من الدين مثل الفلسفة. فجزء منها يناقش بعض أمور العقيدة والاعتقاد في مجالي تخصصها. ولا يمكن فرض حظر على المشتغلين فيها من التحدث في العقيدة. مثلا عن نشأة الكون وخلقه.

لا كهنوت في دين الإسلام

الروائي والكاتب الدكتور إيمان يحيى يبين أن منع الاجتهاد وحظره ليس من الدين. فلا يوجد كهنوت في الإسلام. ووصف مشروع القانون بأنه يخالف جوهر الدين وضد مبادئ الإنسانية.

وقال: تخليص وتنقية الدين من الخرافات والإسرائيليات الواردة في كثير من الروايات وإعمال العقل واجب شرعي دعا إليه من قبل الإمام محمد عبده والشيخ مصطفى عبد الرازق.

واعتبر ما يحدث في البرلمان من إعداد مشروع قانون من شأنه أن يقيد حرية الرأي والتعبير ويؤكد سيطرة القوة الرجعية على البرلمان. وتوقع أن تبوء محاولات التعديل هذه بالفشل: غير قابلة للتطبيق لأن السلطة الحالية تدرك أن مثل هذه القوانين سوف تحدث انقساما مجتمعيا.

ويعتقد أن مثل هذه القوانين لا يمكن تطبيقها على وسائل الإعلام لأن المحطات الأجنبية التي تبث من خارج مصر لا تخضع لمثل هذه الإجراءات.

مواجهة الفكر

الكاتب والباحث في التاريخ الإسلامي الفلسفي -سامح عسكر- ذهب إلى أن “حل فوضى الإفتاء ليس بالمنع. بل بإخراج قوانين الدين وإعمال القانون المدني. وقتها الشعب لن يهتم بالفتوى وبالتالي لن ينشغل بها كونها غير مؤثرة في حياته”.

ويرى محمود دوير أن على من يعترض على الآراء أن يعترض بطريقة علمية دون تكفير أو تحفيز النزعة الدينية عند الجمهور. فيما يؤكد النائب طارق رضوان -مقدم مشروع القانون- أن هذه التعديلات تأتي انطلاقا من الدور الرقابي للمشرع المصري. حيث تعاني البلاد مؤخرا من المتحدثين باسم الدين من الذين يصدرون الفتاوى المسببة للفتن داخل المجتمع. وهم غير أهل لذلك لعدم دراستهم للفقه الإسلامي وأمور الدين. بينما أبدى محمود الهواري -ممثل الأزهر الشريف- الموافقة من حيث المبدأ على مشروع القانون. مؤكدا ضرورة ضبط وتقنين موضوع الحديث في الشأن الديني عبر وسائل الإعلام.