مقدمة افتتاحية: 

هذا هو “من صنع الجماعة؟” المقال الأخير من بين مجموعة من المقالات، تناول فيها الكاتب الظروف الخاصة (بالسجناء الجنائيين)، داخل مراكز الاصلاح والتأهيل -السجون سابقًا- بهدف البحث عن أفضل طرق إعادة تأهيلهم ودمجهم بعد الإفراج عنهم، وتقليل معدلات الإجرام، والحد من جرائم العود.

بزهر الغرض من كتابة هذه المقالات في تقديم الأراء الباحثة في الإجراءات الناجحة اصلاحات السجون عبر الدول المختلفة. بالإضافة إلى صياغة أفضلها وأقربها إلى الواقعية. وأيضًا وضعها بين يدي المسؤولين عن تطبيق العدالة الجنائية في مصر. ذلك بغية دعم أحد الفئات الأكثر تهميشًا داخل المجتمع المصري، وهم (السجناء/ السجينات _ المجرمين/ات)

يأتي ذلك في سياق وصف موقف حقيقي مر به الكاتب داخل السجن منذ سنوات عديدة. ثم إسقاط هذا الموقف على إحدى الإشكاليات التي يواجهها السجناء الجنائيون سواء داخل مراكز الإصلاح والتأهيل أو خارجها بعد الإفراج عنهم.

من صُنع الجماعة؟

المشهد الأول: ربيع عام 2015 داخل زنزانة (السرقة)

الشمس ساطعة والطقس لطيف للغاية. وكان التوقيت قبل الظهر تقريبًا. باب الزنزانة مفتوح على مصرعية لخروج (السجناء للتَرَيَّضَ)، وبدون مناسبة فوجئت أن المخبر المسؤول عن العنبر يستدعي (السجناء المتهمين بجرائم السرقات فقط)، ويأمرهم أن يصطفوا. ثم أمرهم بالخروج خارج العنبر. كان بينهم جميع زملائي في الزنزانة. والغريب أنه تجاهلني تمامًا. لم يلتفت لي إطلاقًا.

دخلت إلى الزنزانة ووجدت فيها سجين قد وصل من العمر أرذله. سألته عن سبب خروج زملائنا، بالرغم من أن وقت التريض قد انتهى؟ قال لي إن عربات (الطلبة) قد وصلت إلى مخازن السجن. لم أدرك ماذا يقصد بـ(الطلبة)، وطلبت منه أن يوضح أكثر. فأخبرني أن (الطلبة) تعبير يطلق على عملية تفريغ الشاحنات التي تصل إلى مخازن السجن. تحمل هذه الشاحنات كميات كبيرة من (الزيت، والسكر، والأرز، والمكرونات، واللحوم)، وجميع ما يحتاجه السجن من مؤن. حل الصمت لبعض من الثواني. ثم ألتفت له وأكملت حديثي..

  • لماذا يتحمل السجناء المتهمين بجرائم السرقات وحدهم مهام الطلبة؟ ويتم إعفاء باقي الفئات من السجناء. رغم أن مؤن السجن يتم استهلاكها من جانب جميع فئات السجناء؟
  • لماذا لم يطلب مني المخبر أن أخرج مع زملائي بالرغم من أنني محبوس داخل زنزانة سرقة؟

أجاب زميلي عن السؤال الأول: أن السجناء المتهمين بجرائم السرقات، يتم التعامل معهم (بدونية واحتقار وتقليل من الذات) من جانب باقي فئات المجرمين. بالإضافة إلى جميع المسؤولين عن إدارة السجن يتعاملون مع السجين المتهم بالسرقة أنه (حرامي) أو (هفاف) هذا حسب تعبيره. ومن هذا المبدأ، يتم اختيار زنازين السرقة فقط للقيام بمهام الطلبة.

يكمل زميلي حديثه: أقولك يا عم شوف الناس بره بتتعامل مع الحرامي لما بيتمسك ازاي، بيعدموه العافية؟ ثم رد زميلي على السؤال الثاني: ماحدش هنا يقدر يقولك شيل شوال من على عربية، الكلام ده لينا احنا بس..

أتذكر أيضًا أحد المشاهد التي لن أنساها طوال حياتي، عندما كنت أجلس إلى جانب أحد السجناء الجنائيين داخل زنزانة (7/1 سرقة بالإكراه). يدعي “ابراهيم المجنون” وهو في بداية العقد الثالث من العمر، من منطقة مصر الجديدة، ينتسب الى أسرة متوسطة الوضع الاجتماعي. كان سبب دخوله السجن أنه مدمن لمخدر (الهيروين). حاول ومن بعده أسرته أن يقلع عن الإدمان، وفشلت جميع محاولاته. اضطر إلى سرقة أسرته، ثم سرقة الآخرين. ذلك حتى يوفر ثمن شراء (المخدر). إلى أن انتهي به الأمر داخل السجن، متهمًا بجريمة السرقة بالإكراه.

أجلس جوار (إبراهيم المجنون) الذي جمعتني به صداقة كبيرة أثناء فترة تسكيني فى الزنزانة معه. أتحدث معه بخصوص بعض (الوشم) المرسوم على جسده. وهو عبارة عن ثلاثة نقاط على شكل مثلث. فسر لي صديقي أن هذا (الوشم) هو أمر لابد منه في عرف (الحرامية) حسب قولته. وهو يشير إلى ثلاثة كلمات هي (ماخدتش/ ماشوفتش/ ماعرفش). وتلك التي ينطق بها (سوابق السرقة) أثناء استجوابهم والتحقيق معهم أمام النيابة العامة.

أثناء حديثنا فوجئت أن (إبراهيم) يخرج لفافة من فمه، ثم يبثق عليها، وينزل سرواله الداخلي، ويضعها في فتحة الشرج، ثم رفع سرواله مرة أخرى. نظر لي وابتسم، ثم قدم لي كوبًا من مشروب الشاي الساخن.

المشهد الثاني:

شتاء 2022 الساعة العاشرة مساء، أجلس داخل مكتبي الخاص، مستغرقًا فى قراءة مجلد (علم الإجرام) من تأليف سذرلاند/ كريسى، ترجمة ومراجعة اللواء محمود السباعي/ الدكتور حسن صادق المرصفاوي.

“كان العار والتحقير يوقعان بقصد فرض الألم من طريق خفض المركز الاجتماعى للمذنب أحيانًا بصفة مؤقتة وأحيانًا أخرى على وجه دائم. وعلى العموم ازدهرت وسيلة العقاب هذه من بداية القرن السادس عشر حتى نهاية القرن السابع عشر. لكنها لم تختلف حتى اليوم.

طبقت مختلف المجتمعات كثيرًا من الوسائل انتقاص الهيبة. كما شاع استعمال بعضها في المجتمعات التي كان فيها التعذيب الجثماني هو الطريقة الابتدائية لتطبيق رد الفعل العقابي. وعلى سبيل المثال لم يكن المغطس (وهو مكان تغطس فيه الفاجرات عقابًا) والقماط والكمامة والعروسة وغيرها من التدابير مجرد طرق للعقاب الجثماني. لكنها كانت تستخدم كذلك كوسيلة للانتقاص من المركز الأدبي للمذنب.

أثناء قراءتي، أحاول أن أتخيل:

بطبيعة الحالة السجناء الجنائيين حين القبض عليهم للمرة الأولى، لم تكن لديهم الخبرة الكافية لمعرفة كيف أن يخزنوا المخدرات “داخل أمعاءهم”، أو أن يرسمون الوشم على أجسادهم، أو أن تكون لهم طريقة خاصة فى الحديث بالمصطلحات والمعاني المختلفة عن المجتمع خارج السجون.

إذًا ما الذي حدث لهم سواء داخل السجون أو بعد الإفراج عنهم؟

أبدأ من لحظة القبض على السارق للمرة الأولى والحكم عليه ثم إيداعه داخل مراكز الإصلاح والتأهيل -السجون سابقًا- ثم احتجازه داخل زنزانة بها الكثير من أقرانه، بل وأشد خطورة، يخالطهم ويتأثر بهم. فداخل السجون لا توجد خصوصية، وفي الوقت ذاته يوجد انخفاض كبير فى تطبيق برامج التأهيل والدمج.

يقضى السجناء عقوبتهم، ثم يخرجوا للمجتمع، ليتعرضوا إلى شكل آخر من أشكال العقوبة، وهو الوصم وعدم الترحيب. على سبيل المثال: عدم التعيين في الوظائف أو الاشتباه الأمنى الدائم.

ثم استكمل قراءتي:

“في كل مكان أوجد فيه أنا منبوذ اجتماعى، وأنا فريسة مشروعة لأي ضابط من ضباط القانون. كل علاقاتي بالمجتمع تشعرني بواقع وجودي خارج حدود الاحترام واللهجة والأخلاق. وتصرفات الذين يتعاملون معي كلها تنادي في اتهام وحيد على وتيرة واحدة (أنت رجل شرير) نحن نكرهك. لقد صفعني المجتمع على خدي، وأنا لست من البشر إذًا لو لم أرد هذه الصفعة”.

فى رأينا المتواضع أن ممارسة النبذ والرفض المجتمعى والتمميز ضد السجناء الجنائيين، يمثل العائق الأول أمام تأهيلهم لأن يصبحوا أشخاص يحترمون نظامهم القانوني. ويعتقد الكاتب أن الأمر تعدى حد الوصم والتمييز، ووصل إلى استباحة حقوق هذه الفئة أو بمعني آخر قبول التجاوزات فى حقهم.

اختتم هذا المقال الثالث والأخير من ضمن السلسلة الأولى، بأحد أعظم فقرات المجلد المشار إليه:

“يعزل العقاب عادة الشخص الذى يوقع عليه ويجعل منه عدوًا ثابتًا للمجتمع قد يمتد نفوذه الى أفراد آخرين. وحينما يكون ردة الفعل الوحيد عقابيًا، فإنه يعزل المجرمين عن الجماعة التي تحترم القانون. وهم لا يفهمون هذه الجماعة وهي لا تفهمهم. ويؤدي كره الجماعة للمجرم إلى كره المجرم للجماعة. ويصبح السلوك بينهما أشبه بالحرب التي تؤدى نسبيًا إلى عزل تام وعداوة متأصلة كالتي بين البلاد المتحاربة. فإذا عزل المجرم فلا يصبح له أحد اختيارين: إما أن يجتمع مع المجرمين الآخرين الذين قد يجد بينهم المعرفة والمركز ووسائل لاجرام أكبر، وأما يصبح مضطربًا أو سيكوباتيًا أو غير مستقر. وعملنا الحقيقي هو أن نسمح لكل المجرمين تقريبًا بالعودة إلى المجتمع في معني مادي. وليس أن نبعدهم وأن نحافظ على مسافات عزلهم في وسط الجماعة العادية. إن هذا يبقيهم مواطنين يحترمون القانون، فإن الجماعة يجب أن تمتصهم وأن تعاملهم معاملة المواطنين الذين يحترمون القانون”.