النقاش الذي دار على موقع “مصر 360” حول واقع الإخوان وأزماتهم ومستقبلهم، وشارك فيه عدد من كبار الكتاب والباحثين، كان عندي مهمًا، لأنه فتح ملف الجماعة بلغة بحثية وصحفية، تحلل أولًا واقعها وخبرتها التاريخية، قبل أن تصل إلى نتائج وتقديرات اختلفت من كاتب إلى آخر.

إن ما طرح من نقاش فتح الباب أمام سؤال محوري هل يمكن أن يعود الإخوان؟ وفي أي سياق؟ وأين تكمن مشكلتهم “بالضبط” بتعبير أنور الهواري.

والحقيقة، أنه من غير الوارد مطلقًا أن يعود الإخوان في ظل النظام السياسي الحالي. كما أنه غير وارد حدوث صفقة بينهم وبين الحكم. ولكن السؤال المطروح: هل يمكن أن يعودوا في سياق آخر؟ مثلما عادوا في عصر السادات في أعقاب عصر المواجهة مع عبد الناصر. أي هل يمكن في عهد تالي أن يعود الإخوان؟ وهل سيعودون بشروطهم الدينية العقائدية مثلما فعلوا من قبل أم أن هذه العودة إذا حدثت يجب أن تحكمها شروط مختلفة عن تلك التي حكمت وجودهم على الساحة السياسية منذ نشأتهم عام 1928 وحتى 30 يونيو 2013؟ وهنا لا بد من طرح السؤال: أين تكمن مشكلتهم؟

إن توصيف الكاتب الكبير أنور الهواري لمشكلتهم بالضبط “في أنهم حركة جماهيرية حقيقية ليست نخبوية ولا كرتونية ولا شكلية. ولكنهم استجابة خاطئة لتحديات تاريخية كبرى. ثم تتلخص مشكلة الإخوان في توظيف ما يملكونه من جماهير في الخاطئ من المسارات. ومن هذا المثلث ينتصب أمام الإخوان -كل دورة من الزمن- حوائط مسدودة يرونها رأي العين لكنهم ينكرونها بالعقل والقلب”.

والحقيقة، أن هذا الواقع من الفشل والإنكار الإخواني المتتالي صحيح. لكن السؤال: ما هو سبب إدمان وتكرار حركة جماهيرية مؤثرة مثل الإخوان لهذا الفشل؟

إن الجانب الذي غاب عن النقاش هو صيغة الإخوان نفسها. أي صيغة الجماعة الدينية العقائدية التي تدخل المجال السياسي بشروط الجماعة الدينية، وليس الحزب السياسي المدني. وهي الصيغة التي تحمل في ذاتها فشل حتمي للإخوان ولأي جماعة دينية أخري تقتحم المجال السياسي بشروطها الدينية (حزب الله، الحوثين، حركة طالبان)، مهما كان شكل النظام القائم ومهما كان تسامحه أو تشدده. فهي صيغة فريدة حملت جوانب قوة. ولكن هذه الجوانب كانت هي عوامل الفناء.

لقد قدم الإخوان المسلمون في بداية دعوتهم خطابًا لم يعتمد على العمل السياسي بصيغته الديمقراطية أو الدستورية. إنما ركزوا على الجوانب التربوية والدعوية. وكان إرثهم رافض للحزبية، فقد أعلن حسن البنا رفضه لنظام التعددية الحزبية، وتنديده بأوضاع الأحزاب المصرية. حيث اعتبر أن “الحزبية أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومزقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر”.

واعتبر الرجل الحزبية منافية لمبادئ الإسلام: “أعتقد أيها السادة أن الإسلام وهو دين الوحدة في كل شيء وهو دين سلامة الصدور ونقاء القلوب والإخاء الصحيح- والتعاون الصادق بين بنى الإنسان جميعًا فضلًا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد لا يقر نظام الحزبية ولا يرضاه”.

البناء الديني أو الخلفية العقائدية لعضو الجماعة تحمل نقاط رفض لمبادئ الدولة المدنية الحديثة. ومع ذلك أقدموا بشكل وصولي على تأسيس حزب سياسي كان مجرد ذراع للجماعة الدينية العقائدية، وعلى خلاف ما تربي عليه عضو الجماعة.

إن هذا البناء لم يكن الانضمام إليه متاحًا لجميع أفراد الشعب أو يتم عبر تبني برنامج سياسي، إنما من خلال الانخراط في سلسلة من برامج الإعداد والتربية الدينية والدعوية التي لا علاقة لها بالبرامج السياسية، ثم تراتبية تنظيميه غير موجودة في أي جماعة دينية أو سياسية أخري، حيث كانت تتم عملية التجنيد على ثلاث درجات:

1– الانضمام العام. وهو من حق كل مسلم توافق على قبوله إدارة الدائرة ويعلن استعداده للصلاح ويوقع استمارة التعارف. فيسمى أخًا مساعدًا.

2- الانضمام الأخوي. وهو من حق كل مسلم توافق على قبوله إدارة الدائرة وواجباته. فضلًا عن الواجبات السابقة: “حفظ العقيدة” والتعهد بالطاعة. ويسمي الأخ في هذه المرتبة أخًا منتسبًا.

3- الانضمام العملي. وهو من حق كل مسلم توافق إدارة الدائرة على قبوله وتكون واجبات الأخ فيه، فضلًا عن الواجبات السابقة، دراسة شرح عقيدة الإخوان وحضور مجالس القرآن الأسبوعية ومجالس الدائرة. وأيضًا التزام التحدث باللغة العربية الفصحى قدر المستطاع. إلى جانب العمل على تثقيف نفسه في الشؤون الاجتماعية العامة. وكذلك الاجتهاد في حفظ أربعين حديثًا نبويًا. ويسمى الأخ في هذه الدرجة من درجات الانضمام أخًا عاملًا.

هناك درجة رابعة أصر البنا ألا يضعها مع الدرجات السابقة وبصورة لا تخلو من دلالة. وهي التي أسماها درجة الانضمام الجهادي: وهي ليست عامة بل هي من حق الأخ العامل الذي يثبت لمكتب الإرشاد محافظته علي واجباته  السابقة. إلى جانب تحري السنة النبوية والصلاة في الليل. وأيضًا العزوف عن مظاهر المتع الفانية، والبعد عن ما هو غير إسلامي في العبادات والمعاملات. فضلًا عن الاشتراك المالي في مكتب الإرشاد وصندوق الدعوة والوصية بجزء من تركته لجماعة الإخوان. وأخيرًا الاستعداد لقضاء مدة التربية الخاصة بمكتب الإرشاد. ويسمي الأخ في هذه المرتبة مجاهدًا.

والحقيقة أن الأخ المجاهد كان قنبلة موقوتة متخفية داخل مستويات الجماعة لممارسه العنف كما جري في فترات كثيرة. وهو ما اتضح بعد ذلك من خلال دور التنظيم الخاص داخل الإخوان الذي مارس عمليات عنف وإرهاب متعددة. صحيح أن هناك بعض التغيرات الطفيفة التي حدثت في مستويات الجماعة وآليات التجنيد. إلا أن جوهرها ظل باقيًا لم يتغير.

أزمة الجماعة ليست فقط في تكتيكات خاطئة، ولا في سيطرة القطبيين على مفاصلها، ولا في أخطاء القيادات، إنما أساسا في صيغتها وبنيتها العقائدية والتنظيمية. فلم يحدث في أي تجربة سياسية حديثة أن شهدنا جماعة دينية عقائدية تؤسس حزب سياسي يكون مجرد واجهة لها في وقت ربت فيه الجماعة أعضائها على رفض الأحزاب ومبادئ الدولة المدنية الحديثة، حتى لو قال بعض قادتها العكس. لأن من شروط بناء الدولة المدنية الحديثة هو تداول السلطة بين أحزاب وقوي مدنية وليس إعطاء جماعة دينية الفرصة لفرض مشروعها في التمكين.

أخطر ما يمكن أن تتعرض له مصر في مرحلة قادمة من تاريخها وبعد أن يهدأ الصراخ الدائر حول الإخوان، وينقشع ضجيج مؤيدي كل العصور، وبعد أن تتغير بعض المعادلات السياسية أن تحاول الجماعة العودة مرة أخرى بشروطها الدينية السابقة ويجاريها بعض من يقولون الآن “الموت للإخوان” كما فعلوا من قبل.

المطلوب هو احترام القواعد الدستورية والقانونية التي لا تسمح لأي جماعة دينية أن تعمل في السياسة. وهو أمر يجب أن يكون محل توافق مجتمعي ودستوري. ولكي نصل إلى هذا التوافق نحتاج إلى جهود جبارة من الجميع: قوى مدنية وسياسية ومثقفين وكتاب وباحثين. لأنه لم يحدث في أي بلد أن أقامت جماعة دينية عقائدية ديمقراطية ودولة قانون.