روسيا ما بعد السوفيتية تسمي نفسها روسيا الفيدرالية أي الاتحادية. وفي العالم دول اتحادية كثيرة منها ألمانيا والهند وماليزيا، بل والملكة المتحدة لبريطانيا العظمى، وشمال أيرلندا، والولايات المتحدة الأمريكية.

وكان الاسم الرسمي للاتحاد السوفيتي الذي أسسته و تزعمته روسيا هو اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية. أي أن الفكرة الاتحادية هناك يزيد عمرها عن قرن كامل من السنين الآن. ومع ذلك فهي غير مستقرة، وغير واعدة، مقارنة بالنماذج سابقة الذكر. وكان ذلك هو الحال تحت الحكم الشيوعي، وبقي هو الحال أيضًا بعد سقوط الشيوعية. ليس فقط لانسلاخ جمهوريات البلطيق استونيا وليتوانيا ولاتفيا ثم روسيا البيضاء وأوكرانيا وجورجيا وأرمينيا ثم ما نسميه بالجمهوريات الآسيوية. لكن أيضًا لتوالي حركات أو نزعات الانفصال في الشيشان وتتارستان وأوسيتيا وأبخازيا.

وقد وصل الأمر في بعضها حد النزاع المسلح المطول. ولم يكن اختفاء النزعات الانفصالية من على السطح في تلك الأقاليم إلا نتيجة لهزيمتها في الصراع المسلح مع القوة العسكرية الروسية الجبارة. وليس بسبب رضا الشعوب بالبقاء في أحضان الدب!

من هنا بالضبط تنبثق مشكلات روسيا في مجالها الحيوي شمالًا وجنوبًا وغربًا. فبينما أدت التطورات السياسية والفكرية في أوروبا الغربية ثم الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الإقرار بفكرة الاتحاد علي أساس سلمي طوعي، يتوخى أكبر قدر ممكن من المشاركة المتساوية في السلطة الاتحادية لجميع الشركاء والمواطنين، بقيت روسيا الاشتراكية، ثم روسيا الحالية على قديمها القيصري. فظلت السلطة المركزية شديدة الوطأة، لا يقيدها دستور ولا قضاء. وهي تدير كل شئ، وكل مكان من ساحل الباسيفيك في أقصى الشرق إلى الحدود الغربية والجنوبية من تحت قباب الكرملين، ودائمًا بقرار من رجل واحد، سواء كان لقبه القيصر أو السكرتير العام للحزب الشيوعي أو حاليًا رئيس الجمهورية.

لقد تأسست بريطانيا العظمي كما نعرفها الآن علي أساس اتحادي بين إنجلترا واسكتلندا وويلز عام 1701. ثم انضمت أيرلندا الشمالية فيما بعد. وجاء ذلك بعد سلسلة من الحروب والصراعات بين هذه الأقاليم، وبعد حرب أهلية وثورتين في إنجلترا وحدها. ولكن استخلاص الدرس الواجب من تلك المآسي هو ما أفضي إلى هذه الصيغة المستقرة والناجحة. حتي أن الشعب الاسكتلندي رفض الاستقلال عن المملكة في استفتاء جرى منذ عدة سنوات.

وإذا كان من الوارد أن يقرر الاسكتلنديون أو سكان ويلز في المستقبل الخروج من الاتحاد البريطاني، فإن ذلك لا يبطل دلالة نموذج اتحادي ناجح لأكثر من ثلاث قرون، شهد تطورات تعزز هذه الدلالة. ومنها السماح بذلك الاستفتاء في اسكتلندا، والسماح من قبل بتوسيع سلطات برلمانات حكومات الأقاليم على حساب الحكومة الاتحادية، دون أن تراق قطرة دم، ودون عناد ومقاومة لأمن قصر بكنجهام، ولا من دواوينج ستريت.

نعرف بالطبع أن الولايات المتحدة الأمريكية المكونة حاليًا من 50 ولاية. وقد تأسست باتحاد اختياري علي أساس المشاركة المتساوية بين 13 ولاية فقط. وكل الولايات التي توالى دخولها في الاتحاد بعد ذلك كانت هي الساعية إليه والتواقة لاستكمال معاييره.

كما نعرف أن الآباء المؤسسين كان لديهم من الحكمة ما يكفي لحماية الولايات قليلة العدد سكانيًا من طغيان الولايات الأكبر. فقدموا للعالم كله صيغة البرلمان ذي الغرفتين، التي تمثل أولاهما الولايات حسب عدد سكانها، فيما تمثل الثانية الولايات بعدد متساو من “الشيوخ”. ذلك مع منح هذه الغرفة سلطات تشريعية أوسع، وكذلك بعض السلطات شبه التنفيذية. ومنها التصديق على التعيينات في الوظائف الفيدرالية المهمة.

لذا لا يعرف التاريخ الأمريكي نزعات انفصالية، وأما سياق الحرب الأهلية حول تحرير العبيد فهو سياق مختلف عما نتحدث عنه هنا. ومع ذلك فهذه الحرب استثناء بلا سوابق، وبلا لواحق حتى الآن، وفي المستقبل غالبًا.

سيقول البعض إن هذه المقارنات قد لا تنطبق علي الحالة الروسية الراهنة. بما أن ماحدث قد حدث، وتفككت الإمبراطورية السوفيتي الموروثة من القياصرة. حسنا، فلنجعل المقارنة مع تجربة الاتحاد الأوروبي. ونتساءل: لماذا فشلت روسيا (وقد حاولت) في إقامة أي نموذج اتحادي قابل للنمو والاتساع مع شريكاتها في الإمبراطورية السوفيتية بعد تفككها؟ وذلك على غرار ما حدث في أوروبا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية. حيث تكونت النواة من ٦ دول لتنظيم الإنتاج الصناعي فيها تحت إشراف مركزي. ثم تطورت إلى سوق مشتركة. فالجماعة الأوروبية (الاتحاد الأوروبي الحالي)، تضم 24 دولة أزيلت الحدود فيما بينها. ذلك مع احتفاظ كل منها بسيادتها.

الإجابة البسيطة والحاسمة هي أن روسيا ليست مستعدة ولا قادرة علي أن تتقبل مبدأ المساواة مع ليتوانيا أو تركمانستان مثلًا، كما قبلته ألمانيا أو فرنسا الكبيرتين (أو موتور أوروبا) مع لوكسمبورج أو بلجيكا الصغيرتين. بل مع اليونان وقبرص مثلًا.

كذلك ليس من الوارد أن تطمئن الدول الصغيرة التي ألحقت عنوة بالإمبراطورية الروسية ثم السوفيتية إلى الانخراط في تجربة من هذا النوع مع الدب من جديد. ذلك بما أن الماضي لا يزكي، والحاضر لا يشرف. وكما نرى في نموذج معاهدة التعاون والأمن المشترك بين روسيا الحالية وبعض جيرانها. حيث القرار فيها للرئيس الروسي وحده، وحيث لا يأمن أي حاكم فيها من البقاء على كرسيه إلا بالخضوع لسيد الكرملين.

ليس فيما سبق إنكار لحق الروس في حماية أمنهم القومي وكرامتهم كقوة كبيرة. وكذا حقهم في مقاومة الجهود الغربية بقيادة واشنطن لتحجيم دور بلادهم في العالم، ومحاصرتها في إقليمها، بتمدد حلف الأطلنطي إلى حدودها، وليس فيه أيضًا تحبيذ لانفراد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي، ولا تحبيذ لعدم تغيير قواعد هذا النظام.

كما ليس في العرض السابق تغاض عن جرائم الإمبرياليات الغربية المتتابعة في حق الشعوب والأجناس غير البيضاء. ولكنه رصد وفهم لجذور مشكلات روسيا في مجالها الحيوي وفي العالم. وهي مشكلات يمكن أن تتسبب في ويلات في أربعة أركان الكوكب، إذا استفحلت النزعة القومية المتطرفة المهيمنة علي العقل السياسي الروسي حاليًا إلى حد اعتماد القوة المسلحة طريقًا وحيدًا ومفضلًا لإشباعها. فهي نزعة نحسب أن آوانها قد انقضى منذ دحر النازية والفاشية.

ويبقى الحل هو أن تتعلم الطبقة السياسية الروسية درس المشاركة السلمية المتساوية في الداخل الروسي أولًا، ومع الجيران ثانيًا.