يواصل المواطنون احتجاجاتهم في الخرطوم تزامنا مع مساعي البعثة الأممية لأجل إخراج السودان من حالة الجمود السياسي. خاصة مع تمسك كل طرف فاعل في المشهد السوداني بموقف يتسم بالاستقلالية دون توجيه الجهود نحو بلورة اتفاق جماعي يستهدف إنهاء التوترات والانتقال إلى المسار الديمقراطي.

وفي السياق أعلنت لجان المقاومة انتهاءها من سن مبادئ “ميثاق سلطة الشعب”. الذي يضع خارطة طريق للانتقال الديمقراطي. حيث جاءت نصوصه تتماشى مع مطالب المتظاهرين في الشارع. من حيث تأكيد شعار “لا شراكة لا تفاوض لا شرعية”. وعودة الجيش للثكنات وتسليم السلطة للمدنيين. مما يعكس عمق الأزمة الراهنة في السودان التي تهدد أركان الدولة ومؤسساتها.

تطورات المشهد السوداني

مثل حكم حسن البشير تأصيلا للديكتاتورية بمختلف صورها. حيث تسببت 30 سنة من حكمه في حالة فراغ سياسي. آلت إلى هشاشة المؤسسات السياسية وضحالة الثقافة السياسية للمواطنين. وترهل النخب. وساعدت هذه الظروف في خلق بيئة مواتية تستقطب طموحات العسكريين.

وعقب عزل البشير تم توقيع الإعلان الدستوري في 2019 بمشاركة الأطراف المدنية والعسكرية كميثاق لهيكلة الأوضاع لحين تسليم الحكم لحكومة منتخبة. كما أكدت ذلك اتفاقية جوبا للسلام عام 2020.

ومن ثم دخلت البلاد في نفق مظلم إثر إعلان عبد الفتاح البرهان الطوارئ وحل الحكومة ومجلس السيادة وتعليق بعض بنود الوثيقة الدستورية ووضع رئيس الوزراء عبد الله حمدوك تحت الإقامة الجبرية في 25 أكتوبر 2021. ما أوقعه في أزمة دولية حيث وصف الكونجرس ما فعله بـ”الانقلاب”. وتدخلت الإدارة الأمريكية لأجل تصحيح المسار. كما هددت بفرض عقوبات تتعلق بتعليق المساعدات وغيرها. كما خرجت مظاهرات شعبية ترفض الأوضاع القائمة وتطالب بعودة الحكم المدني.

وتحت تأثير الضغط الشعبي والدولي عاد “حمدوك” إلى السلطة بموجب اتفاق 21 نوفمبر 2021. ولكن انتهى به الأمر بمغادرة المشهد السياسي في أوائل يناير 2022.

وتصاعدت الاحتجاجات في السودان سريعا للمطالبة بحكم مدني. وقابلتها السلطة باستخدام صور العنف كافة. ما دفع قوى الحرية والتغيير إلى إعلان العصيان المدني.

وانتهز “البرهان” الفرصة لتشكيل قوة خاصة لمكافحة الإرهاب لمواجهة المظاهرات. حتى ارتفع عدد قتلى الاحتجاجات المستمرة خلال 3 أشهر إلى أكثر من 80 شخصا. فيما وصل عدد الإصابات إلى أكثر من 2800.

وتحت تأثير توتر الأحداث تدخلت العديد من القوى لطرح مبادرات للحل السياسي. أحدثها مبادرة بعثة يونيتامس. والتي لا تحظى بقبول القوى المدنية المعارضة. بما ينذر باستمرار تدهور الأوضاع في ظل غياب الحوار بين الأطراف المعنية. بالإضافة إلى عجز كل فصيل على إدراج مسار سياسي يقود للديمقراطية ببرنامج متوافق عليه.

فشل جهود المبادرات

في 10 يناير الماضي أطلقت UNITAMS عملية سياسية تستهدف التوفيق بين الأطراف السودانية لإنهاء الأزمة السياسية. ولكن تفتقد هذه المبادرة إلى الأسس الأولى لإمكانية تفعيلها. حيث تتخذ القوى الثورية من “اللاءات الثلاثة” أساسا لمختلف تحركاتها. والرفض القاطع لأي مشاركة من الجانب العسكري. خاصة بعد ما كشف عن نواياه برغبته في الانفراد بالسلطة. وهو ما لا يتفق بشكل واضح مع مبادئ المبادرة. حيث تقوم على استئناف الحوار بين المجلس العسكري والفاعلين السياسيين والمدنيين.

لذلك أعلن “تجمع المهنيين” و”لجان المقاومة الشبابية” موقفهما الرافض للمبادرة الأممية. بالإضافة إلى رفض التباحث مع رئيس البعثة الأممية “فولكر بيرتس”. ما يعني الاستمرار في دائرة مفرغة من المفاوضات والاحتجاجات في الشارع. خاصة أن الحركتين يتمتعان بنفوذ شعبي واسع.

الجدير بالذكر أن مبادرة الأمم المتحدة تعد المبادرة السادسة لإيجاد حل سياسي في السودان. حيث سبقتها مبادرات لم تحظ بقدر مناسب من الاهتمام. منها مبادرة حزب الأمة الوطني في 28 ديسمبر 2021 والتي استندت إلى “العودة إلى الوثيقة الدستورية وتأكيد الالتزام باتفاقية جوبا المبرمة مع الحركات المسلحة وخارطة طريق لاستكمال المرحلة الانتقالية الحالية”.

ثم مبادرة الأكاديميين السودانيين، التي جاءت على شكل وثيقة “برنامج وطني” يحث العسكريين والمدنيين على التفاوض دون أي اشتراطات مسبقة.

ومبادرة الميثاق الوطني التي اقترحتها قوى الحرية والتغيير. والتي تعتبر العسكريين شركاء في السلطة. فضلا عن عدد من المبادرات من قبل الهيئات الإقليمية لا سيما الاتحاد الأفريقي. ومبادرة مجموعة الإيجاد.

وتكشف هذه المحاولات عدم قدرة أي من الأطراف المعنية إيجاد مخرج للأزمة السودانية. والبعد عن إدراك واقعية الارتباك في المشهد. من حيث صرامة موقف القوى المدنية بعدم التفاوض أو الشراكة مع الهيئة العسكرية لأنها لم تعد تتمتع بأي شرعية. وقدرة الشارع السوداني على تعطيل مخطط العسكريين. بالإضافة إلى عدم رغبة القوى المدنية في التدخل من جهات غير سودانية للتأثير على المشهد.

عراقيل الانتقال الديمقراطي:

تكشف طبيعة الأحداث في السودان منذ محاولة الانقلاب العسكري التي قادها البرهان حتى الوقت الراهن بعض الأسباب الرئيسية وراء تعطيل مسيرة العمل الديمقراطي:

تمسك العسكريين بالسلطة

يحاول البرهان توظيف كل الظروف الراهنة بما يلتقي مع مخططاته من حيث الاستيلاء على السلطة. حيث يصر الوقوف عند عدم التخلي عن السلطة. إلا إذا حدث توافق سياسي بين المكونات السياسية. أو إجراء انتخابات عامة. ما يعني ضمنا إطالة فترة وجوده في السلطة في ظل الانشقاقات بين القوى المدنية. والتي مكنته مسبقا من الانقلاب. حيث لا تتوفر الظروف الملائمة لخلق بيئة مناسبة للمشاورات بين الأطراف السودانية للسماح بإعادة بناء الثقة. وتقف الأطراف المدنية والعسكرية على جبهتين. حيث تطالب القوى المدنية باستقالة “البرهان” ونائبه “محمد حمدان حميدتي” كشرط مسبق للمفاوضات. وكذلك تشكيل حكومة مدنية لاستكمال المرحلة الانتقالية. في حين يصمم العسكريين على البقاء في السلطة.

كما تبين ذلك من إدارته للمظاهرات. حيث قام بحملات اعتقال جماعية. واستخدام القوة المميتة. وتقييد الوصول إلى الإنترنت واحتجاز نشطاء المجتمع المدني والصحفيين والعاملين في المجال الإنساني. رغم تعهده لمساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية “مولي في” بالتوقف عن العنف ضد المتظاهرين.

غياب التوافق داخل التيار المدني:

منذ توقيع الإعلان الدستوري شكلت “قوى الحرية والتغيير” المكون المدني الرئيسي في الحكومة. وهو يتكون من (حزب الأمة والحزب الشيوعي السوداني وحزب المؤتمر السوداني والمنظمات القومية واليسارية والفصائل المسلحة). ولكنها لم تنجح في توحيد موقف أعضائها.

إذ إن أحد أهم أسباب الأزمة السياسية في السودان عدم توافر موقف مشترك يجمع القوى المدنية ينطلقون من خلاله. وهو ما يضعف موقفها أمام المؤسسة العسكري. حيث انفصلت حركتا العدل والمساواة بقيادة “جبريل إبراهيم” الذي يتولى وزارة المالية وحركة تحرير السودان “مني أركو مناوي” الحاكم الحالي لإقليم دارفور عن مجموعة قوى الحرية والتغيير ووقعت ميثاق التوافق الوطني. وأيضا انفصل “تجمع القوى المدنية” كذلك انسلخ عنها الحزب الشيوعي. ما يشكل ضربة قوية في بنية الجبهة المدنية الرئيسية في البلاد. ويعكس مدى عمق الخلافات الداخلية وهشاشة التيار المدني عن تكوين موقف مشترك.

وفي السياق ذاته يعتبر الميثاق الذي بصدد الخروج من جانب لجان المقاومة -التي تقود الاحتجاجات ضد المجلس العسكري- إلى جانب السيولة في كم المبادرات المطروحة انعكاسا فعليا لحجم المشكلات التي يعانيها التيار المدني.

السيناريوهات المحتملة

يقع السودان على مفترق طرق يهدد بضياع مكاسب ثورة ديسمبر التي أطاحت بالبشير. كما يقوض فرص الحل الديمقراطي. وينقسم مستقبل الأحداث سيناريوهان:

الأول: أن يستطيع القائمون على البعثة الأممية جذب بعض قوى التيار المدني والوصول إلى صيغة توافقية تتضمن مشاركة التيار المدني والعسكري في السلطة كما نص الإعلان الدستوري في عام 2019. وتشكيل حكومة انتقالية إلى أن يتم تأهيل المؤسسات حتى يتم تسليم السلطة لحكومة منتخبة.

وهذا السيناريو يحاول ضمان أقل الخسائر في ظل تمسك البرهان بالسلطة. وكذلك إشراك المدنيين حتى يمكن تحقيق قدر من توازن القوى برعاية أممية ودولية.

السيناريو الآخر: وهو الأكثر دراماتيكية. ويتوقع أن تستمر المظاهرات في الشارع. ما يعني مزيدا من الضحايا وبالتالي تفكك أوصال الدولة في ظل الفجوة التي أوجدها البرهان بين الأجهزة الأمنية والمواطنين لخدمة أجندته. وذلك في ضوء التحديات الاقتصادية الهائلة التي يمر بها السودان. وبالتالي خروج الأوضاع عن السيطرة.