لابد أنها ليست المرة الأولى التي تقرأ فيها خبر انتحار أب لعجزه عن تدبير معيشة أولاده، بعد أن حاصرته الديون وتملكه اليأس. وهكذا سيعبر -للأسف الشديد- خبر انتحار المواطن عاصم عفيفي، الأب لثلاثة أطفال، مع الحزن ومصمصة الشفاه المعتادة. لينزلق -كالأخبار المثيلة- إلى خلفية الوعي وأدراج الذاكرة المكتظة بالوقائع المثيلة.

غير  أن ما يلفت في خبر انتحار عاصم، أنه على عكس كثير من حالات انتحار أرباب الأسر، لم يكن عاطلًا ولم يكن “مرفوتًا” أو مفصولًا من وظيفته. لقد كان عاملًا في مصنع معروف، في شركة معروفة هي “يونيفرسال”، واليأس الذي تملك من عاصم، لم يكن يأس الافتقار إلى وظيفة، ولا يأس الافتقار إلى المهارة اللازمة لامتلاك الوظيفة. بل هو اليأس من الحصول على حقوقه القانونية.

يأس الضعف في مواجهة صاحب العمل، ويأس الإحساس بأن القانون، والاتفاق الجماعي بين الشركة والعاملين، كانا في وضع أقرب إلى ما يوصف بالعبارة الشعبية “يبلّه ويشرب ميّته”. وأن انتظار صرف بدل طبيعة العمل لمدة 40 شهرًا كاملة، وحوافز 9 أشهر، فضلًا عن تأخير الراتب الشهري، في ظل ظروف اقتصادية تزداد صعوبة وأسعار تزداد غلاء، قد جعلت عاصم عاجزًا عن تحمل نظرات أطفاله واحتياجاتهم أكثر من ذلك، واضطر -مرغمًا بلا شك- إلى الخلاص من العالم برمته.

وبالطبع، لابد من ذكر أن الانتحار له عادة أسباب معقدة. فلا يتوقف قرار إنهاء المرء لحياته على عامل واحد. فليس كل أب فقير أو إنسان مديون يقدم على الانتحار. ولا كل فتاة تتعرض للابتزاز أو مراهق يرسب في الثانوية العامة ينهي حياته. لكن طبائع البشر تختلف، وقدرتهم على تحمل المشكلات والإحباطات تتفاوت. وكذلك وزن القشة التي يمكنها أن تقصم ظهورهم. وإذا كان الفقر في حد ذاته أحد أسباب القلق والاكتئاب والاضطرابات النفسية، فإن بيانات منظمة الصحة العالمية تظهر أن 75% من حالات الانتحار تسجل في البلدان الفقيرة ومتوسطة الدخل.

ومع ذلك، فإننا هنا لسنا بصدد دراسة الأسباب النفسية لانتحار عامل شركة يونيفرسال. وإنما نتسائل عن السبب الذي يجعل رجلًا يعمل في شركة معروفة، وله عشرات الزملاء، ويعيش في بلد مستقر (رغم كل مشكلاته)، يشعر بهذا اليأس الاقتصادي المطبق إلى درجة اتخاذ قرار التخلص من حياته.

لقد رحل العامل عاصم عفيفي عن عالمنا ولم يعد بإمكاننا أن نسأله. لكن بإمكاننا محاولة استنتاج الأسباب. هل شعر عاصم، رغم الزحام، بنوع من الوحدة الاقتصادية لو جاز التعبير؟ هل ضاقت أمامه المسالك واختفت السُبل لإطعام أطفاله رغم وجود الشركة والمصنع والزملاء وشؤون العاملين والخزنة والراتب المفترض؟ ولو افترضنا -جدلًا- أن الشركة تعاني ضائقة مالية. فلماذا لم يكن أمام المواطن عاصم، لا العامل عاصم، أي وسيلة للخروج من ظلام العوز؟

في بلاد أخرى، على رأسها الهند، تعاني مثلنا من اتساع مساحات الفقر والضائقة الاقتصادية، لجأ المجتمع إلى التوسع في منح القروض فائقة الصغر. وكذا تمويل المشروعات متناهية الصغر، لصالح أولئك الذين يعجزون عن تقديم الضمانات الكافية للحصول على قروض بنكية. إن مثل تلك القروض الصغيرة، تتميز بانخفاض تكلفتها. ما يقلل الخسائر في حالة عدم القدرة على السداد. لكنها لعبت دورًا هائلًا في مساعدة الفئات الفقيرة على تحسين دخلها وتوفير فرص عمل إضافية. والأهم، أنها وفرت بدائل لأمثال عاصم عفيفي، الذي لم يقصّر في عمله وفي مصنعه. لكن المجتمع تركه وحيدا حتى الموت.