لم تكن تصريحات محمد حمدان دقلو نائب رئيس المجلس الإنتقالي بالاعتراف بسيادة جمهوريتي دونيتسك ولوهانسك واستقلالهما عن دولة أوكرانيا، مفاجئة للخبراء والمراقبين. رغم صدمة الرأي العام السوداني من هذا التسرع من جانب المكون العسكري في دعم موسكو إلى هذا الحد. ذلك أن زيارة حميدتي لموسكو في أعقاب زيارتين لكل من إثيوبيا والإمارات تكشف عن محاولات المكون العسكري الحاكم في السودان حاليًا لاستكشاف وقياس حقيقة موقف كل من المعسكرين الغربي والشرقي إزاءه. وكذا حجم الدعم المقدم من كلا المعسكرين له لاجتياز أزمته الداخلية. وأيضًا بلورة منظوره للحكم. وكذلك دعم قدرته في تحجيم المعارضة أو ما اصطلح على تسميته بالمكون المدني.

زيارة حميدتي باعتباره رمزًا للمكون العسكري لموسكو قد تعقبها زيارة أخرى لبكين. بينما زار حميدتي أيضًا كل من أبوظبي وأديس أبابا، ليعرف حدود وأسقف الدعم الأمريكي لسلطة الأمر الواقع الراهنة في السودان. وهو أمر يبدو على المستوى الأمريكي مذبذبًا، وغير مستقرة اتجاهاته بين المكونين المدني والعسكري منذ أكتوبر الماضي وإلى الآن.

مستهدفات المكون العسكري السوداني من زيارة روسيا في هذه المرحلة على المستوى الاستراتيجي هو الضغط على واشنطن من قناة موسكو. بالإضافة إلى السعي نحو بلورة اتفاق وتعهد أمريكي محدد بتحجيم أي اتجاه للعودة لاستخدام سلاح العقوبات ضد الخرطوم. أو التراجع عن الإعفاء من الجزء الرئيسي من الديون السودانية. أو التراجع عن منح المساعدات التي يعد أكبرها أمريكي بقيمة ٧٠٠ مليون دولار. وهي مايعني بإختصار دعم للمكون العسكري بل والتحالف معه ضد المكون المدني الداعي لتأسيس ديمقراطية في السودان.

ويبدو الرهان السوداني على مرونة جديدة للموقف الأمريكي تجاهه مستندًا على إنشغال واشنطن بترتيب ردودها على الاجتياح العسكري الروسي لأوكرانيا. وذلك مع الدول السبع الكبرى، والدول متوسطة القوة. وهو ما يسمح بهامش مناورة للمكون العسكري السوداني تجاه روسيا. لكنها مناورة حرجة أي عند الحافة كما يقولون. بمعني أنها قد تنقلب وبالًا على الخرطوم، حين تتعامل موسكو مع الاقتراب السوداني على أنه اقتراب تكتيكي للضغط على واشنطن وليس خيارًا استراتيجيًا سودانيًا بالتحالف مع موسكو.

وحين ترى واشنطن أن سلوك المكون العسكري ينتمي إلى مدرسة البشير في المناورات السياسية الانتهازية. وهو ما يجعل الرهان عليه بالكلية مسألة لها مخاطرها على المستوى الإستراتيجي الأمريكي، ويدفعها على نحو محسوب لدعم المكون المدني مرة أخرى.

إذا استقرت موسكو على تقدير موقف بأن الخرطوم مخلصة في التحالف مع المعسكر الشرقي طبقًا لمنطوق حميدتي في موسكو، فإن الجوائز الروسية من السودان لا يستهان بها. ذلك أن آمال روسيا لن تتواضع عند حد الحصول على القاعدة البحرية العسكرية في بورتسودان. وكذلك مصالح التنقيب عن النفط والغاز الطبيعي ومناجم الذهب واليورانيوم. لكنها تمتد للسيطرة على المجال الجوي الواسع في السودان. وهو المجال المتشارك مع حدود ثماني دول أفريقية. وذلك لحماية وتوسيع مصالحها التجارية بدول أفريقيا. وأيضًا تنشيط مبيعات الأسلحة الروسية. وذلك في تحالف روسي تام مع الصين التي تنتج النفط في السودان حاليًا، وتملك مصالح واسعة في استغلال المعادن والنفط بأفريقيا. ولعلنا نٌذكر في هذا السياق أن الاختراق الروسي لجمهورية أفريقيا الوسطي قد تم ترتيبه انطلاقًا من المنصة السودانية على زمن المخلوع عمر البشير.

في المقابل، المطلوبات السودانية العاجلة من روسيا. فضلًا عن الإسناد السياسي المباشر للمكون العسكري هي القمح ومصادر الطاقة بأنواعها وبما تشكله من طوق نجاة له في وقت شدة الأزمة الاقتصادية الداخلية. وهو ما قد يتم تلبيته من موسكو ربما رغم انشغالاتها في أوكرانيا. وذلك نظرًا لاحتياجات موسكو في ترتيب معسكر من الدول موال لها في معركتها الحاسمة لحماية أمنها القومي ضد الغرب، ومحاولتها تثبيت أقدامها كقطب دولي.

على المستوى الإقليمي، فإن المكون العسكري يرسل إشارات أحيانًا بوحدة مكوناته ومتانة تحالفها بين رمزيها البرهان وحميدتي. وأحيانًا أخرى يمارس البرهان ضغوطًا على عواصم إقليمية لطلب نجدة مع تصاعد حساسيات قد تكون موجودة أو مصنوعة حتى يحجم قوات الدعم السريع من ناحية ويضمن دعم هذه العواصم من ناحية أخرى. وهو سلوك خبرناه في القاهرة سابقًا في التفاعلات بين البشير والترابي اعتبارًا من ١٩٨٩ إلى  ١٩٩٩.

بطبيعة الحال سيكون أداء المكون العسكري السوداني إزاء موسكو مزعجًا لأبو ظبي التي تتحسس من أداء الفريق أول عبد الفتاح البرهان، الذي يعيد إلى الواجهة الصف الثالث والرابع من منتسبي نظام البشير إلى الواجهة. وهو ما يعني إعادة إحياء لنظام الإخوان المسلمين. بما يمثله ذلك من قدرة على إدارة علاقات عابرة للسودان، وداعمة لمكونات إخوانية أخرى لها خلايا نائمة عبر الإقليم.

كما تأخذ أبو ظبي بعين الاعتبار التحفظ الأمريكي الراهن على قوات الدعم السريع وقائدها حميدتي. حيث تضغط نحو تنفيذ اتفاق جوبا للسلام. وأهم عناصره هو الترتيبات الأمنية التي تعني إدماج قوات حميدتي في القوات المسلحة السودانية وكذلك باقي الحركات المسلحة.

من هنا، فقد تبلور أبوظبي موقفها باتجاه الدفع لبروز شخوص عسكرية جديدة تتيح بلورة توافق سياسي داخلي. وذلك مع ضمان ترتيبات مرضية لكل من البرهان وحميدتي. وهو ما ينقذ واشنطن من حرج ضبط تفاعلاتها بين المكونيين المدني والعسكري. فتلبي رغبتها في ضمان السودان بمعسكرها بتكلفة معقولة.

أما على الصعيد الحسابات الإقليمية، فإن أبوظبي قد رتبت أوضاعها في المعادلة اليمينة على نحو أصبحت معه في غير حاجة لتأمين قوات سودانية محاربة في اليمن، وأصبحت هذه المسألة تعني الرياض أكثر من أبو ظبي. بينما سيكون شاغل القاهرة الأول في تقديرنا وطبقًا للمجريات الأخيرة هو استقرار أوضاع الدولة السودانية. بما يحافظ على مؤسستها متماسكة وقادرة على ممارسة وظائفها الحيوية. وذلك بغض النظر عن الشخوص الممثلة للمؤسسات السودانية.

التموضع السوداني المرتبك راهنًا في ظني لن يزعج القاهرة كثيرًا. ذلك لأنها قد اتخذت موقفًّا متوازنًا في هذه المرحلة بين المعسكرين الشرقي والغربي. وهو موقف تتيحه لها قدراتها الشاملة كدولة متوسطة القوة من ناحية، وخبراتها التاريخية في التعامل مع مثل هذه الأزمات الدولية من ناحية أخرى. وهو ما يعني في الأخير قدرة القاهرة على التعامل مع السودان أي ماكانت الانحيازات السودانية بين المعسكرين الشرقي والغربي. وكذلك استمرار القاهرة في ممارسة مرئياتها للوضع الداخلي السوداني طبقًا لمصالحها من ناحية، ولتطور التفاعلات الداخلية نحو التوافق أو الصراع من ناحية أخرى.

إجمالًا يبدو الإشكال الرئيسي في المنهج الراهن للمكون العسكري أنه مغامر إلى حد كبير، ويعتمد على حسابات قصيرة المدى، ويذكر الرأي العام السوداني والإقليمي بمناهج البشير في الإدارة المرتبكة لمصالح سودانية استراتيجية. حيث يكون تأمين النظام السياسي وليس تأمين مصالح الدولة هو الهدف الذي يتم تحت مظلته حساب المصالح، وصياغة التحركات على الصعيدين الإقليمي والدولي.

في هذا السياق، فإن المكون العسكري في تقديرنا يهمل مسؤوليته الوطنية الأساسية في ترتيب بيئة سياسية تتيح توافق وطني واسع في السودان، يجعل الدولة السودانية لا تتخذ سياسات حافة الهاوية في تفاعلاتها الدولية. بل تكون قادرة علي التوازن والتحرك مع التفاعلات والحوادث الدولية بوتيرة مناسبة تصون مصالح الدولة السودانية على المدى المتوسط والبعيد. ذلك أن الاجتياح الروسي لأوكرانيا لا يعني قدرة روسيا على تحمل تكاليفه على المدي البعيد، وإن كنا نتمنى ذلك، فعالم ثنائي أو متعدد الأقطاب هو عالم أكثر رحمة بالدول الضعيفة ومتوسطة القوة.