في 2 أغسطس من عام 1990 قرر الرئيس العراقي الراحل غزو الكويت وضمها كمحافظة رقم 19 إلى المحافظات العراقية الثمانية عشر. وفي 24 فبراير من عام 2022 قرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين غزو أوكرانيا دون أن يعلن أو ينوي ضمها إلى روسيا.

والمؤكد أن نتيجة غزو صدام حسين للكويت كانت كارثية على العراق والمنطقة العربية. وهو ما لا يبدو عليه الحال بالنسبة إلى بوتين الذي رتب أوراقه بدقة، وبدا أنه على أعتاب مرحلة جديدة سيسعى فيها لتغيير طبيعة العلاقة التي حكمت روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي بجمهورياتها السابقة والعديد من دول أوربا أوروبا الشرقية.

وقد حققت روسيا نجاحات عسكرية واضحة، فدمرت مطارات ومخازن سلاح وحاصرت أوكرانيا من البحر. وحيدت 83 هدفًا عسكريًا واقتربت من العاصمة كييف. واليوم أصبحت تحيد 118 هدفًا عسكريًا، وغالبًا على المساء ستكون قد “دخلت العاصمة كييف”

سينجح هذا الهجوم في كسر القوة العسكرية الأوكرانية والقضاء على كل مصادر التهديد لأمن روسيا القومي، من منصات صواريخ ومطارات ومواقع عسكرية كان يمكن أن يستخدمها حلف الناتو في حال انضمت له أوكرانيا. ومن الوارد أن تعلن روسيا في المستقبل المنظور انضمام إقليم “الدونباس” الانفصالي إلى الاتحاد الروسي بعد أن أعلن بوتين اعترافه باستقلاله عن أوكرانيا.

أوراق القوة

الهجوم الروسي على أوكرانيا لا يزال محدد الأهداف والحدود، وهنا حسب بوتين أوراق قوته جيدًا وحدد هدفه الاستراتيجي. وهو عدم انضمام أوكرانيا لحلف الناتو وعدم تحويلها إلى قاعدة غربية على الحدود الروسية وليس احتلالها أو ضمها للاتحاد الروسي.

أدوات روسيا في تغيير المعادلات السياسية في البلدان المتاخمة لحدودها هي بالأساس أدوات خشنة تتمثل في القوة العسكرية حتى لو حضرت في بعض المناطق أدوات ثقافية تستفيد من العلاقات التاريخية بين روسيا وبعض هذه الدول المرتبطة ثقافيا بها، في حين غابت الأدوات الناعمة الأخرى الاقتصادية والمالية.

لقد اختارت روسيا توقيتًا مناسبًا لبدء هجومها في فصل الشتاء، حيث الاحتياج الأوربي للغاز الروسي. وهو ما اتضح في اعتدال الخطاب الفرنسي الألماني مقارنة ببريطانيا والولايات المتحدة. كما أنها اختارت لحظة تاريخية تعاني فيها الديمقراطية الأمريكية من تحديات داخلية وخارجية وتوجه امريكي انسحابي بعد هزيمتها في أفغانستان وترتيب انسحاب آخر من العراق، فجاءت ضربة بوتين في ظل بيئة دولية مواتيه ساعدته على النجاح خاصة أن هناك مؤشرات إلى أنه لن يغريه انتصاره على أوكرانيا بالذهاب لبولندا مثلًا أو إلى أي بلد مجاور آخر، إنما سيعتبر الطريق لتعزيز حضور روسيا على الساحة الدولية هو ترتيب مجالها الحيوي وعدم السماح بانضمام أوكرانيا لحلف الناتو، أو أن تتحول إلى قاعدة عسكرية غربية تمثل تهديد للأمن القومي الروسي.

وبالعودة للتاريخ، سنجد أن المقارنة بين هجوم بوتين على أوكرانيا وغزو صدام حسين للكويت يلتقيان في مسألة رئيسية وحيدة وهي: فارق القوة الهائل بين طرفي المواجهة ووجود البلدين على حدود البلد الذي هاجمه، وفيما عدا ذلك فإن أوراق القوة والحسابات الاستراتيجية التي امتلكها بوتين غابت عن صدام حسين.

فالرئيس العراقي ضم بلد ذو سيادة “بجرة قلم” كمحافظة رقم 19 إلى محافظات العراق الـ 18 وشطبها من على الخريطة الدولية. وهو تكتيك كارثي يؤدي حتما إلى فشل. خاصة أنه جاء عقب حرب مدمرة مع إيران استمرت 7 سنوات.

واللافت أن بعض “الأشرار” نصحوه في ذلك الوقت أن يكتفي باحتلال بعض المناطق الحدودية حيث توجد آبار النفط المختلف عليها ويفاوض الجانب الكويتي عليها، لا أن يغزوها بشكل كامل، ولم يفعل.

اللافت أن صدام حسين لم يجد كويتي واحد يؤيد الغزو العراقي لبلاده حتى استورد عراقيين يرتدون ملابس أهل الكويت لكي يقولوا إنهم مع ضم الكويت للعراق. وهو أمر يختلف تمامًا عن أوكرانيا التي تضم مؤيدين لروسيا من خارج الأقاليم الانفصالية.

إن “التكتيك الصدامي” بغزو الكويت كان مستحيل أن يقبل عربيًا وإقليميًا ودوليًا أي إلغاء وجود بلد نفطي من على الساحة الدولية. وهو ما جعل التكالب العالمي ضده محل إجماع، وحتى الاتحاد السوفيتي المأزوم وقتها والصين التي لم تكن بقوة اليوم، واللذان رفضا الهجوم الأمريكي والعراقي على السواء عجزا عن إنقاذ صدام حسين أو إيقاف الحرب، وفعلًا نفس الشيء في 2003 حين رفضا الغزو الأمريكي للعراق، ولكنهما فعلا مثلما يفعل الغرب الآن مع الغزو الروسي بالاكتفاء بالشجب والإدانة.

التموضع الروسي الجديد

أحد أهداف موسكو إحياء الاتحاد الروسي، وعدم تمدد حلف الناتو حتى الجمهوريات السوفيتية السابقة. وهنا تبدو استراتيجية روسيا دفاعية، ولكن هدفها هو إعادة تموضع روسيا على الساحة الدولية بصورة جديدة حتى لو كانت حدود تحركها هي مجالها الحيوي المتاخم لحدودها.

هدف روسيا ليس احتلال أوكرانيا إنما ضمان ألا تخرج عن طوعها وهنا قد تسقط نظام الحكم فيها أو تحاصره، أي أن روسيا حتى اللحظة عظمت من أوراق قوتها داخل مجالها الحيوي حتى تستطيع ان تتفاوض مع الغرب وهي في وضع قوة، وتظهر ضعف الديمقراطيات الغربية وعجزها عن حماية حلفائها في أوكرانيا وغيرها.

لا ترغب روسيا في توسيع هجومها إلى خارج أوكرانيا لأنها تعرف إنه سيتحول إلى خسارة مع الوقت خاصة في ظل العقوبات الغربية القاسية التي ستؤثر حتما على الاقتصاد الروسي.

لقد اختار بوتين خاصرة ضعيفة في التحالف الغربي وهي أوكرانيا، وهو بلد فيه تيار قوي مؤيد لروسيا ومرتبط بها ثقافيا، وهو يريد أن يأخذها كنقطة انطلاق لتغيير المعادلات الدولية تتمثل في حضور روسي أكبر على الساحة الدولية ومنع الناتو من التمدد على حدودها، فاستخدم أدوات مناسبه لهذا الهدف الاستراتيجي دون مبالغة حتى الآن وهو ما يعزز من فرص نجاحه لأنه لم يقل إنه سيغير كل أركان النظام الدولي ولم يطلق صواريخ عشوائية على بلدان أخري وهذا ما غاب عن صدام حسين حين غزا الكويت وتبني خطاب سياسي غير واقعي واكبر من أدوات القوة التي يمتلكها، في حين أن بوتين لازال حتى اللحظة ينطلق من هدف ليس بعيد ولا حالم وهو تأمين مجال روسيا الحيوي وتعزيز حضورها الدولي وهو أقرب لتحقيقه.