آثار الإعلامي إبراهيم عيسى الجدل بعد تصريحاته عن الإسراء والمعراج. وسواء تراجع عنها أو أوضح ما كان يقصده من حديث اختلط على الناس استيعابه، فإن هذا الجدل اصطدم لاحقًا ببيان من المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام. وقد تحدث هذا البيان لاحقًا عن تحقيق بشأن مخالفة عيسى التكويد الإعلامي من عدمه.

وقد شدد البيان على ضرورة الابتعاد عن القضايا التي تثير الفتن في المجتمع. وهو هنا يستند إلى أحد هذه الأكواد الإعلامية. وتنص فيما يتعلق بالمحتوى الديني على “احترام الأديان السماوية وتعاليمها، وإبراز القيم الدينية فوق كل القيم الأخرى”.

حادثة إبراهيم عيسى -بعيدًا عن كل التفاصيل الجدلية- تظهر بوضوح الدور الرقابي للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام على العمل الإعلامي. كما أنها تفتح الباب لمناقشة العلاقة بين دور المجلس وأكواده الإعلامية وحرية الرأي والتعبير.

تحقيقات وإيقافات.. يد المجلس على الإعلام

تعددت أشكال وأسباب تدخل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في الصحافة والإعلام. فمنها ما هو لأسباب اعتبرها المجلس غير أخلاقية وتنافي القيم والثوابت المجتمعية. ومنها ما يتعرض لبعض التصريحات ذات الطابع السياسي من قبل إعلاميين وشخصيات عامة. وهي تصريحات اعتبرها المجلس غير صحيحة أو بها إشكاليات.

وكان من بين أهم تلك القرارات التي برز فيها تدخل المجلس إيقاف الإعلامي أسامة كمال لمدة أسبوعين وتغريم قناة المحور 100 ألف جنيه. ذلك بسبب تصريحات الإعلامي عن إهدار الهيئة المصرية للاتصالات مليارات الجنيهات. وقد بررت الهيئة قرار المنع بأن تلك التصريحات ليست مبنية على دلائل ومصدرها صحف أجنبية. ولم يتم التحقق من تلك المعلومات.

كما تم إيقاف الإعلامي الرياضي مدحت شلبي ثلاث مرات في 2018 و2019 و2020 بسبب استخدامه “إيحاءات جنسية” في تعليقاته وتهكمه على اللاعبين، كما ورد في تعليق المجلس الأعلى على قرارات الإيقاف.

أيضًا امتدت قرارات المجلس إلى التدخل في الإعلانات التليفزيونية. إذ أوقف المجلس إعلان “أبلة فاهيتا” لإحدى شركات الاتصالات. ذلك لاحتوائه على ما اعتبره المجلس “خدش للحياء والقيم وحض على السلوك السيء”. كما حقق المجلس في إعلان شركة “قطونيل” الذي قدمته الفنانة ميس حمدان. ذلك بسبب احتوائه على ما اعتبره أعضاء المجلس “خدشًا للحياء العام ومخالفة للعادات المصرية”. وكانت الشركة أوقفت بث الإعلان قبل صدور القرار.

وكذلك أوقف المجلس إعلان “بيت الزكاة” الذي قدمته الفنانة دلال عبد العزيز. وكان مبرره أنه “يشوه سمعة مصر وجهود الدولة”، ويظهر أن مصر مياهها ملوثة.

لم تكن الصحف أيضًا بعيدة عن عين الرقابة الصارمة للمجلس، فقد تم التحقيق مع الكاتب عمرو الشوبكي في 2018 بسبب مقالة كتبها في “المصري اليوم”. وقد كان ينتقد فيها تعامل المؤسسات الرسمية مع مسألة بناء الكنائس. حيث اعتبر المجلس المقالة تحتوي على “شائعات من شأنها بث الفتنة الطائفية بين نسيج الوطن”.

كذلك غرمت صحيفة “المصري اليوم” 250 ألف جنيه بسبب مقالة “نيوتن” حول سيناء. وكان قد تم تغريم الصحيفة نفسها 150 ألف جنيه بسبب خبر لم يقل سوى أن “الدولة تحشد للانتخابات”.

لقد أوقف المجلس الأعلى النشر حول قضية مستشفى 57357 عقب اتهامات بالفساد نالت تبرعات المستشفى. وقد استدعت النيابة العامة مكرم محمد أحمد رئيس المجلس وقتها. وأبلغته بأن منع النشر في القضايا ليس من اختصاصات المجلس الأعلى. وأن قرار منع النشر الصادر من المجلس هو تعدي على اختصاصات السلطات القضائية.

وكان للبرنامج الكوميدي SNL بالعربي نصيب كذلك من قرارات الإيقاف الصادرة عن المجلس. وكان ذلك في 2018 وبحجة احتوائه على ألفاظ وإيحاءات جنسية. بينما في حادثة أخرى، أرسل المجلس خطابًا إلى قناة CBC يطالب فيها القناة بحذف الإيحاءات الجنسية من برنامج أبلة فاهيتا. وفي واقعة مشابهة، أشاد المجلس بمبادرة قناة DMC بحذف “الالفاظ الخارجة” من المحتوى الدرامي. كما أحال المجلس برنامج “الناس الحلوة” للتحقيق بسبب بث صورة إباحية.

وقد امتدت هذه القرارات حتى إلى المواقع الإلكترونية. فتم حجب موقع “كايرو سين” بسبب عدم حصوله على التراخيص. فضلًا عما وصفه المجلس بـ”أوضاع مخلة وعبارات إباحية”. كما قرر المجلس أيضا حجب موقع “الفصلة” بسبب نشره مقالة اعتبرها المجلس تهين مصر لسخريتها من الباسبور المصري.

في وقائع أخرى تدخل المجلس لإيقاف برامج بسبب خطاب كراهية ووجود انتهاكات للحقوق في المحتوى الإعلامي. فأوقف المجلس الإعلامية ريهام سعيد لحين التحقيق معها عقب انتقادات بالقيام بانتهاكات لحقوق الحيوانات بسبب حلقتها عن صيد الثعالب. وعقب التحقيق ألزم المجلس الإعلامية بالاعتذار وإعادة بث برنامج “صبايا الخير”. وكان قد تم إيقاف برنامج “شيخ الحارة” بسبب حديث ماجد المصري المسيء للأفارقة. وجرى أيضًا إيقاف برنامج الإعلامي تامر آمين لفترة مؤقتة لحين التحقيق معه بسبب تصريحاته حول سكان الصعيد والريف.

إشكاليات التكويد

حسب نص الدستور المصري، فإن المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام هو هيئة مستقلة ويختص بتنظيم شؤون الإعلام. كما أنه أيضًا مسؤول عن ضمان حرية الصحافة والإعلام والحفاظ على استقلالية وحياد وتعدد وتنوع الإعلام. ذلك بالإضافة إلى أن من مهامه -التي نص عليها الدستور- أيضا منع الاحتكار ومراقبة مصادر تمويل المؤسسات الإعلامية ووضع الضوابط والمعايير الخاصة بأصول المهنة وأخلاقياتها ومقتضيات الأمن القومي.

وقد فصل القانون رقم 180 لسنة 2018 لتنظيم الصحافة والإعلام أهداف واختصاصات المجلس. وجاء متوافقًا مع نصوص الدستور في الكثير من الأمور. لكنه أيضًا احتوى على عدة مصطلحات فضفاضة وغامضة.

فقد نص القانون على “للمجلس الأعلى، للاعتبارات التي يقتضيها الأمن القومي، أن يمنع مطبوعات أو صحفًا أو مواد إعلامية أو إعلانية صدرت أو جرى بثها من الخارج من الدخول إلى مصر أو التداول أو العرض. وعلى المجلس أن يمنع تداول المطبوعات أو المواد الإباحية، أو التي تتعرض للأديان والمذاهب الدينية تعرضًا من شأنه تكدير السلم العام، أو التي تحض على التمييز أو العنف أو العنصرية أو الكراهية”.

هذه المادة سالفة الذكر احتوت على العديد من العبارات الفضفاضة وغير المحددة مثل “اعتبارات الأمن القومي”. دون تحديد ما هي هذه الاعتبارات ومن يحددها. كذلك في ذكرها مصطلح “المواد الإباحية” لم تحدد تعريفًا واضحًا حول ما هي المواد التي تعتبر إباحية.

وقد أباح القانون للمجلس منع المطبوعات التي “تتعرض للأديان والمذاهب”. وكان ذلك أيضًا دون توضيح معنى التعرض. وقد تم ربطه بمصطلح غامض آخر غير محدد وقد يحمل الكثير من المعاني وهو “تكدير السلم العام”.

 

كما نص القانون على أن من أهداف المجلس “حماية حق المواطن في التمتع بإعلام وصحافة حرة ونزيهة بما يتوافق مع الهوية الثقافية المصرية”. وقد ترك تعبير “الهوية الثقافية المصرية” دون تعريف أو توضيح. وهو أمر يجعل الصحافة والإعلام ملتزمين بالتوافق مع تلك “الهوية” غير المحددة المعالم.

ونص القانون أيضًا على أن المجلس مختص بـ“وضع وتطبيق القواعد الحاكمة للمحتوى الإعلاني ومراجعته، بحيث لا يتضمن الإعلان محتوى يخالف النظام العام أو الآداب العامة أو يدعو إلى التمييز بين المواطنين أو يتضمن حضًا على الكراهية أو العنف”.

إن وجود جهة لمراقبة الخطاب الإعلاني لمنع الدعوة إلى التمييز أو لمنع الكراهية والعنف هو شيء إيجابي بالتأكيد وأساسي لحماية حرية الرأي والتعبير. ولكن نصت المادة نفسها على مصطلحات فضفاضة لم تُعرف مثل “النظام العام” و”الآداب العامة”. ما يترك للمجلس مساحة كبيرة لتفسير هذه المصطلحات، بما قد يؤثر على حرية الإعلام نفسها التي هي ملزمة للمجلس بموجب الدستور.

وقد أظهرت قرارات الإيقاف والمنع التي أصدرها المجلس إلى الآن هذا الغموض في تحديد المصطلحات التي تحدد مهام المجلس وفق الأكواد الواجب العمل بموجبها.

تكويد أضر بحرية التعبير

لقد أصدر المجلس الأعلى عدة أكواد، وتضمنت عدة ضوابط مهمة لضمان حرية التعبير: مثل احترام الخصوصية والالتزام بالمعايير المهنية وتحري الدقة في نشر المعلومات. بالإضافة إلى الدعوة لتغيير الصورة النمطية للنساء ومواجهة العنف ضد المرأة واحترام حقوق وخصوصية الطفل. ولكن بعض تلك الأكواد احتوى أيضًا على نصوص تضر بحرية الرأي والتعبير.

على سبيل المثال، نص كود المحتوى الديني على بند مهم وأساسي لضمان حرية التعبير ومواجهة العنف. وهو “نبذ العنف والتطرف”. لكنه على الجانب الآخر، نص أيضًا على عبارات تؤثر سلبًا على حرية المحتوى الديني مثل “احترام الأديان السماوية وتعاليمها” و”إبراز القيم الإنسانية وسماحة الأديان” و”عدم استضافة شخصيات غير مؤهلة للحديث في الأمور الدينية”.

تلك الضوابط وضعت قيودًا على المحتوى الديني في الإعلام لتقييده وتوجيهه في اتجاه معين. فالحديث عن الأديان والمذاهب الدينية والمعتقدات هو أحد أشكال حرية الرأي والتعبير. أما التطرف والدعوة إلى العنف، ونشر الكراهية ضد أصحاب المعتقدات المختلفة، هذا ما يتسبب بالضرر ونشر العنف في المجتمع ويخرج عن نطاق حرية التعبير. وهذا ما يجب وضع المحاذير والضوابط بشأنه فقط.

كذلك تتضمن كود ضوابط وأخلاقيات نشر الجريمة على إحدى العبارات الفضفاضة. وهي “توقي الإضرار بسمعة البلاد”. تلك العبارة غامضة بما يكفي لتشمل الكثير من المحتويات الإعلامية.

على سبيل المثال، تم اعتبار إعلان التبرعات تشويها لسمعة مصر. ذلك لأنه لم يظهر إلا حاجة بعض القرى للمياه النظيفة. وهذا الأمر كان في السابق اعتياديًا في الإعلام لغرض جمع التبرعات، وليس لتشويه سمعة البلاد على الإطلاق.

أما بالنسبة للدراما، فقد وضع المجلس عدة معايير، والكثير منها احتوى على ما يؤثر سلبًا على حرية الإبداع. مثل “الحرص على قيم وأخلاقيات المجتمع”. وأيضًا “عدم اللجوء إلى الألفاظ البذيئة وفاحش القول والحوارات المتدنية والسوقية التي تشوه الميراث الأخلاقي والقيمي”. وكذلك “البعد عن إقحام الأعمال الدرامية بالشتائم والسباب والمشاهد الفجة، التي تخرج عن سياسة البناء الدرامي وتسيء للواقع المصري والمصريين”. فضلًا عن “التوقف عن تمجيد الجريمة باصطناع أبطال وهميين يجسدون أسوأ ما في الظواهر الاجتماعية السلبية”.

هذه المعايير والضوابط -وفق هذه الآلية- تجعل الأعمال الفنية الدرامية موجهة وخاضعة لنوع فني معين وتقتل أهم ميزات العمل الفني كونه إبداعي يتمتع بالحرية في الطرح والتناول.

أين هي مشكلة التكويد؟

تكمن مشكلة القانون الذي ينظم المجلس والأكواد التي صدرت عنه في الخلط بين الضوابط التي تحمي حرية التعبير والسلم المجتمعي، والضوابط التي تؤثر سلبًا على حرية التعبير والإبداع.

فهناك ضوابط أساسية من الضروري وجودها لحماية حرية التعبير والسلم المجتمعي في سبيل التصدي للعنف ومواجهة التطرف وخطاب الكراهية وغيرها من الظواهر السلبية في الاعلام. لكن خلط تلك الضوابط الأساسية بضوابط أخرى فضفاضة وغير محددة تجعل للمجلس صلاحيات رقابية واسعة للتدخل في مختلف الشؤون، هو أمر يؤدى إلى فرض رقابة غير مبررة ومقيدة للحريات والخطاب الإعلامي في البرامج والإعلانات والأعمال الفنية. وهو ما يظهر بوضوح في بعض ممارسات المجلس التي سبق ذكرها. تلك الممارسات التي أظهرت دور المجلس كوصي للأخلاق والقيم والدين، يتحسس من بعض الآراء في الشؤون العامة، وآخرها واقعة إبراهيم عيسى.

الهدف الأساسي للمجلس في الدستور هو ضمان حرية التعبير في الإعلام والحفاظ على استقلاليته وتعدده.

بالطبع هذا يتضمن وضع ضوابط لنبذ الكراهية والعنف ضد الفئات المختلفة في المجتمع. فقد تدخل المجلس أحيانًا بشكل إيجابي لمنع خطاب الكراهية ضد الأفارقة والمرأة. لكنه تدخل أيضًا كجهة رقابية لفرض وصاية أخلاقية وسياسية ودينية على المحتوى الإعلامي. إذًا تكمن جذور المشكلة في الخلط في القانون والأكواد بين الضوابط الضرورية لحماية حرية التعبير بشكل سليم ينبذ العنف ويوقف الدعوة إليه وينبذ نشر الكراهية والعنصرية والصور النمطية ضد فئات المجتمع المختلفة، وبين الضوابط الغامضة التي تحمي قيم ومعتقدات تفسيرها يخضع لأهواء وميول نسبية تختلف من شخص إلى آخر.

عدم ضبط المصطلحات في القانون انعكس على الأكواد المنظمة. وقد انعكس ذلك على ممارسات المجلس. لذا فإن القانون المنظم للمجلس أضر بالهدف الأساسي للمجلس كهيئة مستقلة لضمان حرية واستقلال وتعدد الإعلام. وقد منح المجلس صلاحيات رقابية واسعة بمعايير غامضة في بعض الأحيان. ما انعكس على ممارسات وأكواد المجلس، وحول المجلس في بعض الأحيان إلى كيان يشبه الهيئة الرقابية لوضع أنماط أخلاقية ودينية وسياسية واجتماعية محددة. ما كان له أثار سلبية على حرية التعبير والرأي والإبداع.