في مقال نشره على حسابه الرسمي بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. يرصد الكاتب والباحث في شؤون الأمن القومي جمال طه، أسباب الترك الأمريكي والأوروبي لأوكرانيا وحدها في مواجهة الغزو الروسي. وتأثير العقوبات الاقتصادية على روسيا التي بدورها تمارس ضغوطًا كبيرة على أوروبا. والبدائل المطروحة أمام مصر من الناحية السياسية وسط هذه التحالفات.

 

كتب طه:

الولايات المتحدة أصبحت أكبر منتج للنفط في العالم، بعد ان تجاوزت انتاج كل من السعودية وروسيا. كما أصبحت أكبر مُصدِّر للغاز الطبيعي المسال في العالم وللسوق الأوروبية، بعد ان نجحت في إقصاء قطر من هذين المركزين. وبذلك أصبح انتاج النفط والغاز في الولايات المتحدة أحد الأصول الجيوسياسية والاقتصادية الهامة للدولة.

السوق الأوروبية أكبر مستهلك للغاز الطبيعي في العالم، وروسيا هي المنافس الرئيسي فيه. لأن معظم انتاج السعودية يتم بيعه لدول القارة الآسيوية. حصة روسيا تقدر بقرابة 40% من احتياجات القارة العجوز من الغاز و30% من النفط. مما يفسر لماذا سعت واشنطن لإخراج روسيا من الأسواق الأوروبية، رغم تقديرها بأنها رسخت أقدامها عبر سنوات طويلة. باستثمارات ضخمة في البنية الأساسية لشبكة نقل الغاز، مما يجعل المعركة بالغة الصعوبة.

أمريكا سعت لتصعيد التوتر بين أوكرانيا وروسيا الي الحد الذي يكفي لإثارة أزمة، تضمن عرقلة تدفقات الغاز الروسي لأوروبا. خاصة ما يتعلق بخط الأنابيب الجديد «نوردستريم2»، الذي انتهت روسيا من تشييده بتكلفة 11.5 مليار دولار. ليضخ الغاز الى المانيا مباشرة، دون المرور على أوكرانيا. مما يضاعف حجم تصدير الغاز مباشرة إلى ألمانيا ليبلغ 110 مليارات متر مكعب سنويا.

اختيار أوكرانيا لم يكن جزافيا، وانما لأن قرابة ثلاثة أرباع الغاز الروسي المصدر عبر خطوط الأنابيب لأوروبا يمر بأراضيها. وهذا يمثل مركز الأزمة، لأن عائدات بيعه بالنسبة لروسيا، تمثل مع النفط 70% من إيرادات الميزانية. وعائدات مروره تمثل أحد أهم مصادر دخل أوكرانيا، ناهيك عن اعتبارات أخري عديدة أهمها ان أوكرانيا تعتبر الباحة الأمامية للأمن القومي الروسي.

من أجل وقف نفوذ موسكو

تفجير الخلاف بين أوكرانيا وروسيا على هذا النحو كان كفيلا بالتهديد بوقف ثلاثة أرباع صادرات الغاز الروسية. أما الربع الأخير الذي يمثله «نوردستريم2»، فإن منع تشغيله جاء على قمة بنود العقوبات التي تم فرضها على روسيا. وذلك بعد الضغوط التي مارسها بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي بهدف منع تشغيله، حتى لا تمارس موسكو نفوذا أكبر على الدول الأوروبية. وحتى لا يتم حرمان أوكرانيا حليفة الغرب، من رسوم عبور الغاز.

تزويد واشنطن كييف بـ 650 مليون دولار معدات وخدمات عسكرية خلال عام 2021، وارتفاع نبرة ضم أوكرانيا للناتو. كان يستهدف إثارة موسكو، التي أكدت بوضوح منذ اليوم الأول أنها لن تسمح بتحول أوكرانيا الي مصدر تهديد لروسيا. الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية تجاوزت 100 ألف جندي، وتم نقل 30 ألف الى بيلاروسيا.

ولكن أوكرانيا لم تدرك دلالات ذلك، وقامت بالعديد من التحرشات العسكرية ضد الإقليمين الانفصاليين. لأنها كانت على قناعة بصحة تقدير واشنطن الخاص بأن روسيا في أقصى مراحل الأزمة، لن تتجاوز حد دعم الانفصاليين بإقليم الدونباس، وتزويدهم بالأسلحة والعتاد لتأمين سيطرتهم على الإقليم. بالإضافة الي وقف ضخ الغاز عبر الأراضي الأوكرانية.

واشنطن غاب عنها ان النزاع قضية أمن قومي روسي بامتياز. وان فكرة إنشاء منطقة عازلة buffer zone بين روسيا ودول الناتو، لمواجهة التهديدات المستقبلية المحتملة، قد فرضت نفسها على الفكر العسكري والاستراتيجي الروسي. استقلال الأقاليم الانفصالية، وارتباطها بروسيا سياسيا ودفاعيا حقق جزء من الهدف تم استكماله بعمليات القصف الروسي للبنية العسكرية والتكنولوجية في أوكرانيا. وتنفيذ ما يشبه الاجتياح الصاعق، من الشرق والجنوب والشمال، مما يضع شبكة نقل الغاز بكاملها تحت السيطرة الروسية خلال أيام معدودة. ويتيح فرصة إسقاط نظام حكم زيلينسكي الموالي للغرب، وتنصيب نظام حكم تابع لموسكو. وهو ما يعتبر ردا على تغذية الغرب للثورة البرتقالية عام 2004 والإطاحة بنظام الحكم الموالي لموسكو.

سلاح الغاز يهدد أوروبا

تنفيذا للرؤية الأمريكية، نجح الرئيس بايدن في إقناع المستشار الألماني خلال زيارته لواشنطن في 7 فبراير/ شباط 2022، بأنه في حالة تعرض أوكرانيا لهجوم روسي، يتم وقف تشغيل خط أنابيب «نوردستريم2». ولذلك، بمجرد عبور الدبابات الروسية الحدود الأوكرانية أمر وزير الاقتصاد الفيدرالي ونائب المستشار «روبرت هابيك» الشبكة الفيدرالية المنوط بها منح تصريحات للمشاريع على الأراضي الألمانية. بسحب شهادة التقييم الإيجابي، التي سبق منحها للمشروع. وبالتالي أصبح الخط الذي سبق تعليق التصديق الخاص به في نوفمبر/تشرين الثاني. الماضي غير قابل للتشغيل.

والحقيقة ان روسيا منذ ان انهت تنفيذ «نوردستريم2»، واجهت معارضة شديدة من واشنطن وروما والعديد من العواصم الغربية لتشغيله. المأزق الذي واجهته موسكو هو تقدير حدود استخدام الغاز كسلاح لإجبار أوروبا على الإقرار بالأمر الواقع الذي قامت بفرضه بالقوة. دون ان تفقد مصداقيتها كمصدر يمكن الاعتماد عليه مستقبلا، لتأمين جزء معتبر من احتياجات القارة الأوروبية من الغاز.

لذلك، حاولت ممارسة ضغط تدريجي بتقليص صادراتها من الغاز إلى أوروبا بنسبة 23% خلال الربع الأخير من عام 2021، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق، ووقف ضخ الغاز تماما عبر خط أنابيب «يامال – أوروبا» منذ ديسمبر/كانون الأول 2021، مما أدى إلى ارتفاع أسعاره لمستويات غير مسبوقة، خاصة في ظل ضعف نسب الاحتياطيات المتوافرة لدى الدول الأوروبية.

وعلى كل حال فإن روسيا كانت تعتزم قطع امدادات الغاز عن أوكرانيا، بمبرر قيامها بسرقة كميات ضخمة من الغاز المتجه لأوروبا، بهدف ترويضها، وذلك بمجرد تشغيل «نوردستريم2» حتى لا تتأثر عائداتها المالية.

 

رد روسيا على العقوبات الغربية

روسيا، ابان سنوات الحرب الباردة بين حلف «وارسو» وحلف «ناتو»، حرصت على عدم المساس بالتعاون مع أوروبا في قطاع الطاقة. حتى تحتفظ بموقعها كمورد موثوق للغاز الطبيعي. وعلى الرغم من وعد موسكو بعدم قطع الغاز عن أوروبا، الا ان تصعيد الغرب للعقوبات المالية والاقتصادية ضدها قد يهدد باستخدام الغاز كسلاح استراتيجي للرد.

لعل ذلك يفسر ما عبر عنه وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر من إن بلاده تخشى رد روسيا على العقوبات الغربية بقطع إمدادات الغاز، وهي خطوة قد تعطل أكبر اقتصاد في أوروبا. والحقيقة ان الدول الأوروبية تدرك ان روسيا قادرة بالفعل على شل أنظمة الطاقة في القارة، ورفع أسعارها على نحو يؤدي إلى ارتفاع هائل في الأسعار. ولعل ذلك يمكن ان يكون السبب في تفتيت وحدة التعامل الغربي مع الأزمة، الذي بدأ بالفعل بتحفظ فرنسا وإيطاليا على طرد روسيا من نظام تداول العملات الموحد «سويفت».

 

استقطاب الحلفاء في مواجهة موسكو

الغرب عجز عن تفهم شخصية بوتين، وديناميات القرار السياسي في عهده. خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمن القومي الروسي. روسيا أعطت أولوية مطلقة لأمنها القومي. ونجحت في التصدي لتهديدات جدية تمثلها توجهات نظام حكم زيلينسكي، وعلاقته بالغرب. وسعيه لجلب الأسلحة الاستراتيجية لحلف «ناتو» للتمركز على الحدود الروسية. وللحق فإن روسيا طلبت قبل الاجتياح ضمانات كانت تصلح أساسا جيدا للتفاوض، ولكن سبق السيف العزل. وأصبح العالم يتجه نحو أزمة طاقة بالغة الحدة، وارتفاع خرافي للأسعار على مختلف المستويات. والأخطر هو حالة استقطاب شديدة بين أمريكا وأوروبا من ناحية، في مواجهة روسيا والصين من ناحية أخرى. مما سيعيد شبح الحرب الباردة بكل ضراوتها من جديد.

أوروبا تعتزم تنويع مصادر وارداتها من الطاقة، وتشييد محطات معالجة حتى تتمكن من الاعتماد أكثر على الغاز المسال. ويعنى ذلك عدم العودة للاعتماد على روسيا بشكل كامل على نحو ما تم، وهو تطور ولا شك يصب في مصلحة مصر، التي تستطيع تصدير المزيد من الغاز للأسواق الأوروبية.

غير ان الواقع يفرض عدم المبالغة في تقدير حجم قدرة مصر على تعويض أي نقص في السوق الأوروبي، لأن اجمالي صادرات مصر من الغاز المسال عام 2021 بلغت قرابة 6.5 مليون طن. صادرات أستراليا بلغت في نفس العام 80 مليون طن، وقطر تراوح نفس الرقم. ورغم ذلك فكل ما وعدت به قطر ان تسد 5% فقط من حصة روسيا من الغاز للأسواق الأوروبية.

اذن، علينا ان ندرك ان مصر تطور انتاجها وصادراتها بأعلى معدل عرفه العالم، لكنها لاتزال في البدايات، فلا نحمل أنفسنا ما لا طاقة لنا به.

***

وأخيرا، نتساءل ماهي البدائل المطروحة أمام مصر من الناحية السياسية؟!

مما لا شك فيه ان واشنطن ستمارس ضغوطا دولية عديدة لحشد أكبر قدر من الإدانات لموسكو. أمريكا دولة برجماتية تحركها مصالحها لا مبادئها، وتتفهم ذلك في تعاملاتها، حتى وان أبدت عدم الرضا. نظام زيلينسكي بدأ عده التنازلي، وستحل محله حكومة تتلقي تعليماتها من موسكو. مصر لا يمكن ان توافق على فقدان دولة لاستقلالها السياسي على أيدي جار عملاق، أيا كان سبب الخلاف. الا انه ليس من المصلحة أيضا التضحية بمصالحنا مع روسيا، القطب الدولي الجديد. لحساب حكومة فقدت القدرة على عمل تقدير موقف لقوة الجار وقدراته مقارنة بما تمتلكه، فذهبت ولن تعود.

هنا، أنسب المواقف السياسية تلك التي تشير الى مبادئ حل الخلاقات بالطرق السلمية. وتجنيب المدنيين ويلات الحروب، مع تقديم الدعم للاجئين الأوكران، بما فيهم من لجأ للأراضي الروسية. خسرنا الكثير بسبب فقدان الكياسة في التعامل مع روسيا ابان الأزمات، لكن الظروف تفرض معالجة أفضل.

أوكرانيا ضاعت تحت تأثير الشقاق الوطني، والغزو الروسي. وأمريكا نجحت في اشعال الحرب، كي تصبح المورد الأول للطاقة الى السوق الأوروبية. أما أوروبا، فهي مقبلة على أيام سوداء قد تكون مبررا للشقاق مع الحليف الأمريكي.. فلننتظر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

جمال طه هو كاتب وباحث في شؤون الأمن القومي. عمل باحثًا متخصصًا بهيئة المعلومات والتقديرات برئاسة الجمهورية. وأنتدب كدبلوماسي بوزارة الخارجية. كان مستشارًا إعلاميًا للمجلس القومي لحقوق الإنسان. وهو متفرغ حاليا للبحث والكتابة في الشئون المتعلقة بالأمن القومي.