يمثل أسلوب التفاوض الجماعي بين الجماعات العمالية أو النقابية وبين أصحاب الأعمال نموذجا مثاليا لفض النزاعات العمالية بعيدا عن زخم المحاكم وبعيدا عن أن يستخدم العمال سبلا قد لا تكون مرضية للطرف الثاني من العلاقة العمالية مثل الإضراب عن العمل حال وجود مشاكل بينهم وبين ذوي الأعمال وخصوصا فيما يتعلق بظروف العمل أو الرواتب أو البيئة العمالية أو ما يشابه ذلك من الظروف والأحوال التي يمر بها العمال دوما منذ القدم، والمفاوضة الجماعية هي عملية أو أسلوب أو وسيلة لحماية مصالح أصحاب العمل والموظفين لتحديد شروط التوظيف ، وتحديد الأجر والراتب وتحقيق أهداف المنظمة، كما إنه ليس مرسوما من أطراف خارجية، وهو بمثابة ما يمثل التوفيق الطوعي والتحكيم الطوعي وليس حكماً إلزامياً أبداً.

والتفاوض أو المساومة الجماعية هي عملية نقاش وتفاوض بين طرفين، أحدهما أو كلاهما مجموعة من الأشخاص، والمساومة الجماعية تشير إلى عملية يقوم بها أرباب العمل من ناحية وممثلي الموظفين من جهة أخرى، ومحاولة التوصل إلى اتفاقيات تغطي الشروط التي بموجبها سيساهم الموظفون من خلالها في حل المشكلات وحتى في ظروف نهاية العلاقة العمالية ستكون بشكل مرضي للطرفين.

ويمثل التفاوض الجماعي أحد عناصر الحرية النقابية التي تنطـوي علـى احترام أصحاب العمل والعمال في تكوين مجموعات والانضمام إليها بكـل حريـة وبشكل طوعي من أجل تعزيز المصالح المهنية والدفاع عنهـا لكـلا الطـرفين، وبالتالي ترتبط ارتباطًا عضوياً بحق تكوين النقابات، فلا يمكن إقامة حوار بناء بين منظمات العمل ومنظمات العمال والهياكل الحكومية ما لم تكـن هـذه المنظمـات مشروعة ومعترفًا بها ومستقلة، وما لم يكفل منح ممثلي العمال التسهيلات اللازمة.

وتعتبر اتفاقية العمل الدولية رقم 154 بشأن المفاوضة الجماعية أحدث وأهم الاتفاقيات الدولية التي عالجت هذا الموضوع بشكل متخصص، إضافة إلى ما ورد في الاتفاقية رقم (98) بشأن مبادئ حق التنظيم والمفاوضة الجماعية التي تعتبر أحد الاتفاقيات الأساسية الثمان التي تمثل حقوق الإنسان في العمل. وحسب مفهوم الاتفاقية (154) فإن المفاوضة الجماعية تهدف إلى: تحديد شروط العمل وأحكامه، تحديد العلاقة بين العمال وأصحاب الأعمال، وكذلك تحديد علاقات العمل بمنظماتهم العمالية والنقابية. وبالتالي فهي تمثل أسلوب جماعي مثالي للبحث عن حلول مرضية لأطراف علاقة العمل.

وإذ أنه لم يزل مشروع قانون العمل الجديد لم يصدر بشكل نهائي، وبحسب المذكرة المقدمة من اللجنة النقابية فإن هناك فلسفة مبدئية لأهمية هذا التشريع الذي يُطبَق على ما يقرب من 30 مليون عامل، للخروج بتشريع يحقق الأمان الوظيفي، والاستقرار في مواقع العمل، حيث يؤكد «الاتحاد العام» على أن التعديلات المطروحة والمطلوبة لابد وأن تحافظ على المكتسبات الحالية، والحصول على مكتسبات جديدة.

وبحسب مسودة تعديلات اتحاد عمال مصر فقد تضمنت المادة 13 التي نصت على: «تلتزم الدولة بالحفاظ على حقوق العمال، وتعمل على بناء علاقات عمل متوازنة بين طرفي العملية الإنتاجية، وتكفل سبل التفاوض الجماعي، وتعمل على حماية العمال من مخاطر العمل وتوافر شروط الأمن والسلامة والصحة المهنية، ويحظر فصلهم تعسفيًا، وذلك كله على النحو الذي ينظمه القانون»، وكذلك تتماشي مع المادتين 2، 3 من مواد إصدار مشروع هذا القانون المعنى.

حيث تنص المادة الثانية على: «تظل الأحكام الواردة بالتشريعات الخاصة ببعض فئات العمال سارية، إلى أن يتم إبرام، ونفاذ الاتفاقيات الجماعية بشأنها، وفقا لأحكام القانون المرافق، وتعتبر المزايا الواردة بتلك التشريعات الحد الأدنى الذي يتم التفاوض على أساسه.

وقد فرضت الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة بالمفاوضة الجماعية على الدول اتخاذ إجراءات تتناسب مع الظروف الوطنية بقصد تشجيع وتنمية وتطبيق آليات وإجراءات واسعة المدى للتفاوض الاختياري تتناسب مع الظروف الوطنية (الاتفاقيات 98 ، 151 ، 154) ووضعت الاتفاقية (154) عدداً من الأهداف التي تسعى الأطراف المعنية إلى بلوغها من خلال تشجيع المفاوضات الجماعية وهي:
تيسير إمكانية المفاوضة الجماعية لجميع العمال وأصحاب العمل وتشجيع وضع قواعد إجرائية بالاتفاق بين منظمات العمال ومنظمات أصحاب العمل وعدم إعاقة المفاوضة الجماعية لأسباب تتعلق بقواعد الإجراءات الخاصة بها و تشكيل هيئات ووضع إجراءات لتسوية نزاعات العمل بما يساعد على تعزيز المفاوضة الجماعية.
كما أوجبت الاتفاقية 135 بشأن ممثلي العمال تقديم التسهيلات اللازمة لهم لتمكينهم من أداء مهامهم بسرعة وفاعلية ومن ذلك منحهم الوقت الكافي لممارسة نشاطهم دون أن يؤثر ذلك على مقدار أجورهم أو حقوقهم ، والسماح لهم بدخول أماكن العمل المختلفة في المؤسسة التي يعملون بها أو في أي مؤسسة أخرى يعمل بها أعضاء من نقاباتهم. وأوجبت هذه الاتفاقية حمايتهم من أية تصرفات تضر بهم بسبب وضعهم أو أنشطتهم كممثلين للعمال. وتضمنت الاتفاقية رقم 151 تسهيلا مماثلة تمنح لممثلي العاملين في الخدمة المدنية في أدائهم لمهامهم. كما وضعت التوصية رقم (91) بشأن الاتفاقيات الجماعية عددا من القواعد الخاصة بالاتفاقيات الجماعية التي تبرم بين العمال وأصحاب العمل أهمها ضرورة وضع آلية للتفاوض بموجب اتفاق أو بموجب القانون أو اللوائح الوطنية.
ومن هنا فإننا نهيب بالهيئة التشريعية أن تنظر بعين الاعتبار إلى موضوع المفاوضات العمالية بحيث يوضع موضعه الحقيقي بين نصوص مشروع قانون العمل، بما يتضمن شروط المفاوضة العمالية وآليات عملها، وقيمة ما تتوصل إليه من نتائج بين العمال وأرباب الأعمال، حتى يكون بديلاً أو نموذجا لحل المشاكل بعيداً عن أروقة المحاكم المصرية التي بها ما بها من زحام وزيادة في عدد القضايا، وقلة في أعداد القضاة، وكذلك قلة في عدد المحاكم، وهذا ما قد يعود على المجتمع كله بالنفع من خلال تسوية المنازعات بشكل ودي، وهو ما يضمن بقاء العلاقة العمالية مستمرة بين الطرفين، وهو ما ينتج ثماره على المجتمع كله ويقلل من عدد المشكلات، ويضمن حسن سير العملية العمالية، بما يعود على العملية الإنتاجية كلها بالنفع، ويعود على المجتمع بضمان تطور لعلاقات العمالية وتطور أساليب الإنتاج وزيادته.