في 1936 قدم المخرج والكاتب العبقري أورسون ويلز وهو لا يزال في الواحد والعشرين من عمره يخطو ببطء نحو شبابه مسرحية “مأساة ماكبث”. أعطى الأدوار بجانبه إلى ممثلين سود وقارعو طبول من مشعوذي هايتي. وقال إنه اكتشف جنون المسرح وعظمة الفن عمومًا.
ويلز وقتها كما وصفه الناقد بيتر كونراد “لم يكن يعرف شيء حق المعرفة” لكنه وقتها كذلك كان قد تعرف على فنان أذعن لعمله طوال حياته بعد ذلك، كان هذا الفنان هو شكسبير الذي اعتبره أبًا للفن، كان يعتقد أن شكسبير ينتمي للجميع لأن الشخصيات في مسرحياته تظهر ملامح أنفسنا سيقول ويلز صراحة بعد ذلك: إن شكسبير قال كل شيء من العقل إلى البطن، وكل مزاج في حياة إنسان.
مأساة أخرى
لقد رحل ومات معه العالم/ الذي كان يحى وكان يحيا معه/ ولم يعد هملت الصغير أو هيرونيمو العجوز/ لير الملك، والمغربي الحزين وغيرهم/ الذين عاشوا داخله رحلوا الآن. كتبت هذه الكلمات في رثاء إلى الكاتب المذهل وليام شكسبير. المؤلف الأول لمسرحية “مأسآة ماكبث” التي أعادت -كأغلب أعماله- معظم لغات العالم. ترجمتها ونقلها للمسرح في أغلب الدول كما نقلتها السينما كثيرًا كان آخرها الفيلم الجديد الذي يحمل الاسم ذاته دون تغيير.
لا يخفى على الجميع الحرب التي دقت طبولها منذ أيام، التي تتجاوز مجرد اعتبارها تعدي روسي على أوكرانيا، أو توقع بتدخل صيني في تايوان. الحرب التي تُساق من جانب رئيس يستشعر لحظة عظمة شخصية استثنائية يحاول إثباتها للعالم، بدأت مناوشتها منذ 2014 واشتعلت الآن بعد توترات جديدة.
حرب عالمية كاملة لتغيير مواضع القوة لصالح دول مثل روسيا والصين على حساب أخرى أمريكا عمومًا والاتحاد الأوروبي خلفها. حرب يموت فيها آلاف في لحظة للحصول على المزيد من القوة. ربما هي ذاتها القوة الأبدية التي كان يسعى إليها ماكبث. مدعيًا أنها ستزيد عظمته بالرغم من سعيه إليها من خلال الدم.
سيظل سؤال مسرحية مأسآة ماكبث أكثر أصالة للحديث عن الحرب الداخلية للإنسان التي تخلق الحرب الأكبر من العالم الخارجي، ما الذي أنتج الحرب التي دخلها ماكبث؟ المزيد من إثبات الذات، ليس مجرد الحصول على السلطة، لم تكن لأي سلطة كانت أن ترضي شهوة ماكبث وزوجته، هذه النتيجة التي استخلصها شكسبير.
وليام شكسبير وبطله ماكبث القاتل
منذ مئات الأعوام حتى الآن تبدو سيرة الكاتب الإنجليزي الغامض وليام شكسبير (مسرحه وقصائده) تحمل جوهر أصيل من العالم الذي لا يمل من إعادة تدويرها، والحديث عن غموض كاتبها ذاته الذي لا يزال يحتار مؤرخوه بين إلتزامه طوال حياته بالتعاليم الكنسية وبين آخرين ينفوا عنه إيمانه بالعقيدة أساسًا، كلاهما ينتجا تصورهما من كتابات الرجل المركبة نفسها، إذ كانت “أبياته في كل صفحة تنقل تيارا حقيقا إلى العصر التالي” كما كتب النقاد عنه.
تنوع مسرحه بين الكوميديا والتراجيديا، لكن كانت تحركه الأسئلة الأصيلة التي تبدأ من النفس ذاتها، مساحات كبيرة من حديث الأبطال عن أنفسهم يبوحون خلالها بأسراهم ورغباتهم الدفينة مثلما كان تمامًا بطله ماكبث المحارب الذي يسعى للسيطرة على الحكم.
في مسرحية ماكبث النص الأصلي سنجد شخصية الحارس/ البواب شخصية ساخرة خفيفة الظل في سياقها مقارنة بالأخرين تكسر حدة المسرحية كاملة، القاريء الجيد لمسرح شكسبير عمومًا سيجد الحقيقة على لسان هؤلاء المهاويس والمجانين والسكارى في نظر الناس، المهرج والريفي البسيط يمكنهما خلق معنى للعبث المحيط.
رجل إنجليزي
شكسبير جزء من تكوين شخصية الرجل الإنجليزي، ستجد أفكاره مُعاد تدويرها كإتفاق ضمني بأهميتها، من ضمنها سيخرج بطله ماكبث، محارب يسعى للترقي ولفت أنظار الملك، يفاجيء أنه سيصبح الملك يومًا ما على لسان عرّافة، تخطف الفكرة عقله، ويسعى بمساعدة زوجته إلى قتل الملك أثناء زيارته إليه لأخذ مكانه دون أن يدري نتيجة الأمر، التحول الأكثر درامية وأهمية سيبدأ من اللحظة التي حصل فيها ماكبث على الملك الذي تمناه ليزداد سعادة دون أن يدري الحفرة التي سيسقط في قلبها روحيًا.
ذات مرة كتب شكسبير أشعار ناعيًا ذاته وربما في قلبها كان ينعى ماكبث الذي خلقه للتملك، يقول “انتهى الأمر سوف يسدل ستار مشهد الحياة سريعًا/ الطموح غير المجد والأحلام الحادعة هربت/ والآن استيقظ لأجد الظلام والذنب والهلع/ لا أستطيع تحملهم لأهرب منهم/ ولا مفر لقد انحشرت روحي في الدماء/ لا أستطيع النهوض ولا أجرؤ على طلب الرحمة/ لقد فات الأوان، يجرني الجحيم إلى الأسفل، إنني أغرق أغرق _ آه روحي تفارقني إلى الأبد”. هكذا عاش ماكبث حياته المرعبة.
في اللحظة التي استقبل فيها ماكبث بأنه سيطبح الملك على البلاد ليس مجرد محارب، استقبل صديقه وقتها أنه هو الأخر سيصبح أولاده ملوك، ستحقق النبوءة بملك ماكبث الذي سيسعى لقتل صديقه ونسله خوفًا من انتقال الملك منه وزوجته العقيم لكنه لن يمكنه قتل الابن.
أوهام السلطة
السؤال المذهل الذي تطرحه المسرحية والفيلم هو تساؤل السلطة، هل يمكن للإنسان أن يحصل على السلطة دون قتل؟ سواء مجازًا أو فعليًا. على الإنسان أن يتخلص من أوهام كثيرة للحصول على السلطة التي ستجعله -دون أن يدري- أسيرًا لرغبات وأوهام أخرى. تمامًا مثل ماكبث وزوجته اللذان تصورا أن راحتهما الأبدية في الحصول على السلطة.
سؤال تمت صيغته مسرحيًا بشكل مذهل جعله مستمر منذ كتبه شكبير إلى الآن. سعي المخرج والكاتب جون كوين الذي قرر للمرة الأولى العمل بمفرده دون أخيه كالمعتاد. إعادة طرحه في فيلم سيء سطحي نوعًا ما بالرغم من عظمة أصله.
نموذج بصري اختار أن يكون بالأبيض والأسود. للسيطرة على التصور الصلب لماكبث ذاته عن العالم الذي لا يراه سوى من خلال السيطرة الكاملة. أو الموت أساسًا دون أن يرى أي شيء بينهما. وحوارات مسرحية لا زال يصعب تقديمها سينمائيًا.
لم تحدث ثمة حركة حداثية مفاجئة من المخرج نحو إنتاج سينمائية من نص مسرحي صرف. سنشاهد مساحات طويلة من الحوار الذاتي المُلقى مسرحيًا. والمونولوجات الشخصية المعتادة من شكسبير التي يحكيها الأبطال. إلى جانب حركات وأداء مسرحي ملفت.
عن التملك والسلطة والحرب
فيلم مأسآة ماكبث هو مجرد “سينمائية” للنص المسرحي المذهل وحواراته الشخصية الذاتية عن التملك والسلطة والحرب، لماذا نحارب؟ وماذا نجني من رغباتنا في السيطرة؟ وهل يمكن التراجع بعد إراقة الدماء؟
هل تعي مدى عظمة نموذج شكسبير؟ بالرغم من تواضع الفيلم الأخير. لا يزال هناك ما يقال عن الأصل المأخوذ منه الفيلم وأصالة التساؤل الفلسفي الوجودي غير المُجاب. يسعى هو من خلاله عن الحرب الداخلية التي يسعى إليه إنسان لا يرى ذاته سوى من خلال إثبات قوته للأخرين. وكنس أي مصدر آخر محتمل للقوة.
هذه الكلمات تُكتب أثناء إعادة بناء معسكرات جديدة مع بدايات حرب عالمية ثالثة. لإعادة خلق مساحات قوى تحاول خلال روسيا أن تثبت ذكورتها على حساب الولايات المتحدة. على حساب شعوب أخرى ستضرر على كافة المستويات. تمامًا مثلما حدث في دول عربية تُعتبر فئران تجارب لم تنل التضامن الدولي حتى. في قلب ذلك سيبقى تساؤل شكبير عن الحرب. الحرب التي تخلق في البداية من داخل إنسان مثل ماكبث. لا يرى في العالم أي متعة سوى إثبات قوة تزداد في كل مرة إلى ما لا نهاية.
إدانه ماكبث تقابلها إدانة مماثلة لسيده الذي قتله. الرجل الذي كان يسعى لإثبات قوته وملكه والسعي للحفاظ عليه بالتخلي عن كل من يهدده. تمامًا مثلما يمكن إدانة بوتين روسيا بالتوازي مع إدانة بايدن أمريكا. الذي فهم كل متابع للحرب قبيل اندلاها استفزازاته وتصريحاته الطفولية فقط لإثبات التفوق الأمريكي. صراع ماكبث القديم مثل صراع الحرب الآني في جوهره. لا يوجد خاسر سوى عائلات تصادف تواجدها في الجوار. سينهي عالمهم في حرب خلقتها عقول مهاويس السلطة هؤلاء.