كثيرا ما نعتقد أننا نملك الحق في اختيار أن نتسامح أو لا. تفعيل خاصية العفو عند المقدرة تمنحنا شعورا بالقوة والإنسانية في آن واحد، القدرة على الغفران يجعلنا نرضى عن ذواتنا ونخبر أنفسنا” يا له من سمو حين فعلت هذا”. ولكن أحيانا كثيرة ومع مرور السنوات والنضج نُدرك أن هذه الخاصية لا نستطيع للأسف تفعيلها مع أشخاص محددين، وللغرابة هؤلاء الأشخاص المفترض أن يكونوا أقرب وأعز من الآخرين، فلو نستطيع الاختيار بين أحد هؤلاء المقربين وبين أحد الأصدقاء العابرين لنسامحهم، فالمنطق يقول إن الأقربون أولى بالمعروف. ولكن، ولهذا السبب تحديدا، يصعب التسامح.

يعز علينا أن يأتي الأذى من هؤلاء. نحاول كثيرا أن نتسامح ولا نستطيع فنقرر الأبتعاد لنتلاشى الاحتكاك والمناوشات المعبأة بغضب مكتوم. فكيف نستطيع الهروب من المواجهة؟ فلا نستطيع أن نغفر ولا نستطيع أن نستمر في التعامل وكان شيئا لم يكن. محاصرون وعاجزون عن البوح، ولكن يصُعب الأمر. لأن من نريد التنصل من رؤيتهم وكتم غضبنا ومشاعرنا هم آباؤنا وأمهاتنا.

(1)

في رمضان الماضي تم عرض حلقات مسلسل ” خلي بالك من زيزي”. البطلة كانت تعاني منذ طفولتها من مرض فرط الحركة وقلة الانتباه، لم تحظ بأهل متفهمين فلم يهتموا ولم يلاحظوا أصلا أن ابنتهم بها خطب ما. كانت تُعاقب بالحبس وحيدة في حجرة الغسيل، استمر التعامل معها لسنوات على أنها مجنونة أو “مطيورة” لم تجد دعما أو تفهما أو حتى مناقشة. فكانت النتيجة فشل حياتها الزوجية.

إنسانة وحيدة بلا عمل وبلا هدف، شخص يبدو للناس أنه عصبي وطائش وغير نافع، وحين بدأت زيزي في المتابعة مع طبيب نفسي عرفت بالصدفة أنها تعاني من هذا المرض وأن هذه أعراضه فاستعادت ذكرياتها منذ الطفولة وكيف كان سلوكها وعرفت لماذا كانت تتصرف هكذا. وتذكرت أيضا كيف تعامل معها أبوها وأمها، تفهم زيزي وتتضح لها أشياء كثيرة وتبدأ في السيطرة على غضبها والاستفادة من طاقتها. بل ومساعدة فتاة صغيرة تعاني من نفس مشكلتها، تنتظم حياتها كثيرا وتدرك امكانياتها، وتهدأ.

ثم في أحد المشاهد تصارح أمها بأنها كانت تنتظر دعما في طفولتها ولو بمجرد حضن. تُخرج زيزي ما بداخلها من غضب وعتاب، فتعتذر لها الأم وتحضنها للمرة الأولى تقريبا. حين شاهدت هذا المشهد تساءلت ” هل يجب أن نتصارح ونخبر أمهاتنا؟ هل يبدو أن المصارحة نافعة حقا؟ ثم هل سيعترف الأب بأنه كان مقصرا أومؤذيا مع ابنه؟ ثم هل حقا -بجد يعني- من الممكن أن “يعتذر” الأب والأم لأبنائهم؟” يبدو لي هذا وكأنه خيال علمي. أو أمرا غرائبيا من ملفات ما وراء الطبيعة التي كتبها الدكتور أحمد خالد توفيق قد نطلق عليها اسم “اسطورة الأب الذي اعتذر”.

(2)

حين طرحت أسئلتي على بعض الأصدقاء كانت ردودهم كما توقعت. فالبعض استطاع أن يواجه والبعض فشل في اتخاذ الخطوة، ومن واجه تم انكار الأمر في بعض الحالات. وفي الأغلب تحولت جلسة المصارحة لخناقة جديدة ولوم من الأهل وغضب شديد والكثير من حركات “قلب الطرابيزة”. قليلا ما أعترف أحدهم بالخطأ ونادرا ما اعتذر منهم أحد.

(أ. ر) قالت لي: ” حدث وأن تكلمت وتحولت جلسة المصارحة لجلسة بكاء، ثم لا شيء تغير، نفس الممارسات المؤذية مستمرة وكل الحكي الذي حدث مجرد عبث لم يؤثر في الأفعال”.

(ه. ن) يقول: ” من الممكن طبعا أن أتسامح لو اعتذر لي أبي، ولكنني أعلم يقينا بانه لن يحدث. بالعكس، كلما كنت في موقف صعب احتاج لدعمه كلما ازداد صلفا وغرورا. ولا أجده داعما، بل يصبح عامل ضغط يُضاف للمشكلة. فكيف أصلا سيعترف ويعتذر!” أما ( علاء. أ) فقال: ” يا ريت بس يعتذروا ويحاولوا يعوضوا أكيد ساعتها هاسامح”.

(3)

دراسة من جامعة كوليدج لندن قالت إن الآباء المسيطرين الذين يتحكمون نفسيا في أطفالهم قد يدمرون فلذات أكبادهم طوال حياتهم. فالمبالغة في عدم السماح للطفل باتخاذ قراراته بنفسه وانتهاك حريته ومحاولاته للتفكير المستقل تؤدي إلى إحداث ضرر لا يستهان به بصحته النفسية. وبمتابعة أكثر من 5 آلاف شخصا -هم عينة البحث- وجدوا أن تحكم الآباء وتسلطهم وممارسة ضغوط نفسية على الطفل مرتبط بعدم رضا الشخص عن نفسه عند الكبر واعتلال صحته النفسية.

هذا بالطبع في لندن، أقسى ما قد يواجهه طفل هو التسلط والضغط النفسي. أما هنا في مصر، فالوالدين يرون أن التربية هي الضرب والاهانة والسخرية من أبنائهم أمام الجيران والأقارب وفي بعض الحالات يتم ربط -تقييد- الطفل في السرير وضربه. وبعض الفتيات يتم حلق شعرهن للتأديب. وحتى بعد خروج الابن من منزل والديه حين يتزوج يظل يخضع للابتزاز العاطفي والضغط عليه بجعله يشعر دائما بالذنب تجاههم أو أنه مقصر في واجبه نحوهم. وأنه مهما فعل فهو لن يوفي حقهم عليه.

تخبرني (أ. ي) أنها قررت أن تنهي هذا الضغط النفسي بمقاطعة والدتها “جربت كثيرا أن أعبر لها عن حاجتي لعطفها. وأن أخبرها بغضبي تجاهها حتى أصفو لها. ولكنها كانت دائما ما تعتبر هذا نكران لتربيتها وجحودا مني، وكلما زرتها انقلبت الزيارة لجلسة حساب عسير منها. فقررت أن ابتعد. وللأسف اشعر براحة في بعدي عنها، فلم أستطع الوصول لحل وسط سواء بالحكي أو بالصمت. فأنا دائما في نظرها مقصرة”.

(4)

يخبروننا أننا حين نكبر ونصبح أمهات وآباء سنتفهم ما يقومون به. وما “يقومون به” هو ما يترجمونه حرصا وخوفا، ولكننا كبرنا، وأصبحنا آباء وأمهات. وحرصنا ألا نكون مثلكم: أنصاف آلهة تتحكم في أبنائها وكأنها قطعة أثاث تمتلكها. أصبحنا ندرك أن أبنائنا مسئوليتنا وليس “بتوعنا”. وأدركنا أن الحب هو الحرية والنصح والتوجيه والمتابعة واختيار الكلمات التي لا تؤلم. عرفنا أهمية الحضن والتشجيع بدلا من كلمة “والله ما انت نافع” أو ” شوف فلان بقى فين وأنت زي مانت فاشل”. عرفنا أن العقاب ليس بالضرب أو الأهانة أمام الجيران والطرد من المنزل. كبرنا وأصبحنا أمهات تدرك الغلط فتعتذر لابنتها وتخبر ابنها أنه لا يجب أن يقارن نفسه بزميله. فكل واحد عنده موهبة ما وكلنا متساوون بشكل ما فلا يجب أن يزعل لو أخفق فيما ينجح هو فيه. وتبدأ تبحث معه عن موهبته التي يجيدها، نجلس ونتحدث ونصيح فيهم ونضحك معهم ويحترموننا بينما كنا نحن نخاف منكم ونشعر بالغضب ولا نزال.

نحاول أن نتصالح ونتناسى ونفكر كثيرا في المصارحة ولكن الكثير من الآباء والأمهات يعتبرن هذه المواجهة خذلان ونكران للجميل، لا يريدون ان يسمعوا وإن استمعوا أنكروا وغضبوا، فقط نريد الاعتراف بالخطأ جتى نتجاوز ونستمر خفافا في حياتنا، ولكن يبدو أنه شيئا مستحيلا.