امتنعت الصين عن التصويت، ومعها الهند ودولة الإمارات العربية المتحدة. على قرار طرحته الولايات المتحدة على أعضاء مجلس الأمن منتصف ليل أمس الجمعة. لادانة “الغزو” الروسي لأوكرانيا ومطالبتها بسحب قواتها التي اقتربت من اسقاط العاصمة كييف. وليبدو الحكيم الصيني، كالمعتاد، في موقف المحايد، الممسك بالعصا من المنتصف والداعي دائما للحلول الدبلوماسية.

طبعا القرار لم يمر، واستخدمت روسيا حق النقض، الفيتو، كعضو دائم في مجلس الأمن، لمنع صدوره. الولايات المتحدة أرادت ان تحرج روسيا وتبعث برسالة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه معزول على المستوى الدولي. حيث صوتت 11 دولة لصالح القرار، ولكن، وربما الأهم، فإن واشنطن أرادت ان تختبر موقف الصين وترى إلى أي مدى ستذهب في دعم التحالف المتنامي. وعلى المستوى الشخصي، بين الرئيسين الصيني تشي جين بينغ، والروسي، بوتين.

فقبل نحو ثلاثة أسابيع فقط من تحرك الدبابات الروسية لغزو الجارة أوكرانيا، كان الرئيس الروسي بوتين على رأس قائمة ضيوف شرف افتتاح دورة الألعاب الشتوية الأولمبية التي افتتحها الرئيس تشي. والتي اعتبرها المراقبون احتفالا شخصيا بمرور عشر سنوات على تولي الرئيس الصيني لمنصبه، والتمهيد لحصوله على فترة ثالثة في اكتوبر المقبل على هامش اجتماعات الحزب الشيوعي الصيني. بعد أن عزز معجزة الصين في تحقيق النمو الاقتصادي ورسخ مكانتها على الصعيد الدولي.

وكان أكثر ما أزعج الولايات المتحدة وحلفاءها الأوربيين البيان المشترك الذي صدر في ختام اجتماع تشي وبوتين في 4 فبراير/شباط. والذي تجاوز الخمسة آلاف كلمة. مؤكدا أن الصداقة بين البلدين هي “بلا حدود” في كافة المجالات، وصب جام غضبه على الولايات المتحدة وتدخلها في الشؤون الداخلية للدول تحت زعم نشر الديمقراطية ودعم الثورات الملونة والسعي لفرض نموذجها الغربي على العالم. بغض النظر عن خصائص الشعوب وثقاقاتهم وحضاراتهم. حصل بوتين على ما أراده من الصين بإعلانها في ذلك البيان أنها تعارض توسع حلف الناتو في أوروبا واقترابه من الحدود الروسية. وهو المبرر الرئيسي لبوتين في قيامه بغزو أوكرانيا.

وأكدت روسيا بدورها دعمها لمبدأ “الصين الواحدة”. ورفض تهديدات حلف الناتو كذلك في منطقة جنوب شرق آسيا، في إشارة مماثلة إلى تمسك الصين بضم جزيرة تايوان التي تعتبرها جزءا لا يتجزأ من أراضيها رغم الحماية الأمريكية التي تتمتع بها منذ إعلان جمهورية الصين الشعبية في 1949. صحيح أن البيان المطول لم يذكر لا أوكرانيا ولا تايوان بالإسم، ولكن المعاني كانت واضحة وكذلك الممارسات على الأرض، والتي هي في الواقع أكثر أهمية بكثير من البيانات الرسمية، أو حتى طريقة التصويت في مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي الذي سعى لادانة الغزو الروسي، وقريبا، احتلال أوكرانيا.

صحيفة النيويورك تايمز كشفت الخميس أن المسؤولين الأمريكيين سعوا، بدون نجاح، منذ نهاية العام الماضي، إلى اقناع الصينيين باستخدام نفوذهم وتحالفهم مع بوتين لكي يمنعوه من غزو أوكرانيا. وذلك بإطلاعهم على معلومات استخباراتية بشأن تحركات القوات والدبابات الروسية لمحاصرتها من ثلاث جهات. ولكن الصينيين استخفوا بالتقارير الأمريكية. وتبنوا الرواية الروسية التي تمسكت بنفي نية غزو أوكرانيا رغم كل الدلائل والمعلومات التي كانت الولايات المتحدة تقدمها علنا. وبشكل لافت في محاولة لردع بوتين عن المضي قدما في خططه العسكرية ولتوحيد التحالف الغربي-الأوروبي لمواجهته.

كما سعى الأمريكيون، وباستمرار، على تذكير بكين بسياستها الصارمة القائمة على احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها. وهي الدولة التي تعاني من مشاكل تشكك في سيادتها على مناطق مثل تايوان وهونج كونج والتبت. ورغم استمرار تأكيد الخارجية الصينية على التمسك بمبدأ احترام سيادة الدول، فإن المتحدثة بإسمها وكبار المسؤولين الصينيين والاعلام الرسمي لا يتوقفون عن التذكير بأن الولايات المتحدة كانت السبب الحقيقي وراء تأجيج الصراع الدائر حاليا في أوكرانيا.

وقالت المتحدثة باسم الخارجية الصينية أن الولايات المتحدة قامت بـ”خمس موجات” من التوسيع لحلف الناتو حتى اقتربت للغاية من الحدود الروسية. وهو ما من المتوقع أن يؤدي إلى رد فعل من جانب موسكو. فبعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي وما كان يسمى بكتلة دول شرق أوروبا، أو حلف وارسو، انضمت كل دول ذلك الحلف تقريبا. مثل بولندا ورومانيا والتشيك والمجر، إلى حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، بما في ذلك جمهوريات سوفيتية سابقة مثل استونيا ولاتفيا وليتوانيا. دول شرق أوروبا وكذلك الجمهوريات الثلاث كانت تشكل حاجز الدفاع الأول عن الاتحاد السوفيتي السابق ومنطقة نفوذ الامبراطورية الروسية، تماما كما تنظر الولايات المتحدة مثلا إلى المكسيك على حدودها الجنوبية أو بقية دول أمريكا اللاتينية.

واذا انضمت اوكرانيا بدورها إلى حلف الناتو كما يدعو رئيسها الحالي، زيلينسكي، فذلك يعني ببساطة أن الصواريخ الأمريكية وتحالف الناتو ستكون على حدود روسيا مباشرة، وستلتزم دول الحلف بدعمها عسكريا بموجب البند الخامس من ميثاق الناتو، وهو ما لم يقبله بوتين، بدعم وتأييد من الصين.

النيويورك تايمز تقول أن ما يزعج إدارة الرئيس الحالي بايدن هو التصعيد الواضح في لهجة العداء الصيني لمواقف الولايات المتحدة، والاستعداد الواضح لتحدي واشنطن. وقبل التصعيد المفاجئ والسريع في الحرب الروسية-الأوكرانية، كانت ادارة بايدن تتصرف على أساس ان الصين، كعملاق اقتصادي في الأساس، تمثل التحدي الأكبر أمام الولايات المتحدة ونفوذها العالمي، وأكد كبار المسؤولين فيها أنها سيضغطون من أجل تحجيم نفوذ الصين ومواجهة أي سعي من بكين للهيمنة على منطقة جنوب شرق آسيا وتهديد استقلال تايوان، او الوضع الخاص لهونج كونج بعد عودتها للدولة الأم وانهاء الاحتلال البريطاني. ومنذ اقدام الرئيس الروسي على اتخاذ القرار بغزو أوكرانيا، متجاهلا ومستهينا بكل تهديدات بايدن وقادة أوروبا بفرض عقوبات اقتصادية وعسكرية غير مسبوقة، وهناك ترقب واضح وقلق كبيرين في الدول المحيطة بالصين، والتي تراها أيضا مصدر تهديد كبير لسيادتها، مثل اليابان وكوريا الجنوبية والهند، واذا كانت ما ستقدم بدورها على احتلال وغزو تايوان وضمها عنوة للوطن الأم كذلك.

ورغم الخلافات الكثيرة بين وضع أوكرانيا وتايوان، وتمسك الصين أنها لم تعترف يوما أساسا بسيادة تأيوان أو أنها دولة مستقلة، كما فعلت روسيا مع أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، فإن ما يدفع المراقبين إلى عقد تلك المقارنة في الأساس هو الشعور العام بأن نفوذ الولايات المتحدة قد تراجع وأنه قد انتهت اسطورة القوى العظمى الوحيدة في العالم التي سادت في بداية التسعينات من القرن الماضي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وأنها لم تعد قادرة، او حتى راغبة، في خوض مغامرات عسكرية، والتي لن تكون صغيرة أو محدودة في تلك الحالة كما العراق وأفغانستان، بل تشمل مواجهات بين دول نووية، كروسيا والصين.

وفي الوقت الذي تتباكى فيه محطات التلفزيون الأمريكية على مصير الشعب الأوكراني وتبث على الهواء مشاهد سقوط العاصمة كييف، فإن ذلك لم يمنع روسيا من غزو واحتلال أوكرانيا، وذلك لأن الرئيس بايدن أوضح ومنذ تصاعد هذا النزاع أن بلاده لن ترسل قوات عسكرية لمحاربة روسيا، بل أنه نفى أن تكون واشنطن وبقية دول الناتو ترغب في ضم أوكرانيا من الأساس.

ولكن بايدن رفض تقديم تعهد بعدم حدوث ذلك مستقبلا كما يتمسك بوتين. نعم سترسل واشنطن قوات إلى بولندا ورومانيا ودول حلف الناتو في اوروبا الشرقية. ولكن، في الواقع، ذلك سيبدو كرسالة مبطنة لبوتين أنه مسموح له بالتقدم حتى حدود أوكرانيا فقط، ثم مواجهة عقوبات اقتصادية صعبة بعد ذلك. والتي ستنتهي غالبا مع مرور الوقت او وصول ادارة امريكية مختلفة للبيت الأبيض وكذلك تغير مواقف الدول الأوروبية الرئيسية مثل ألمانيا وفرنسا.

هذه السياسة التي اتبعها بايدن دفعت الرئيس السابق ومنافسه الرئيسي دونالد ترامب إلى القول أنه لا يستطيع اخفاء اعجابه بصديق السابق بوتين، والمتهم بتقديم الدعم له لكي يفوز في انتخابات 2016 أمام منافسته هيلاري كلينتون. وقال ترامب أن الرئيس الروسي قد “استطاع الاستيلاء على أوكرانيا بكل ما تملكه من موارد وامكانيات مقابل عقوبات ستكلفه 2 دولار فقط.” ولم يفت ترامب ان يؤكد انه لو لم تكن انتخابات 2020 قد سرقت منه لصالح بايدن، لكان تمكن من منع بوتين من غزو اوكرانيا.

نفس هذه الميوعة الأمريكية في التعامل مع مغامرة بوتين الحالية، والمهانة التي لحقت بإدارة بايدن قبلها بسبب الانسحاب الفوضوي من أفغانستان بعد عشرين عاما من الفشل، كلها ستدفع الصين إلى التشجع نحو الاقدام على خطوة مماثلة لما قام به بوتين في ما يتعلق بتايوان، ولكن غالبا ليس الآن أساسا بسبب التداخل الكبير بين الاقتصادين الصيني والعالمي، وأنها ترغب أولا في مشاهدة تطور سيناريو النزاع الروسي-الأوكراني قبل أن تقدم على خطوتها بضم تايوان في الوقت الذي تراه مناسبا.

ويرى خبراء أن ما ما ترغب به الصين في الواقع هو أن تأتي لها تايوان لها طوعا وبشكل تدريجي مع استمرار نمو النفوذ والقوة الصينية على المستوى العالمي. ومن دون أن تضطر لاستخدام الوسائل العسكرية.

واذا كانت واشنطن غير قادرة او راغبة في مواجهة روسيا النووية ومنعها من احتلال أوكرانيا، فهل ستقدم على خوض مواجهة مع الصين. النووية أيضا، والتي يمكنها من دون مواجهات عسكرية أن تصيب الاقتصاد العالمي برمته بالشلل، بما في ذلك الاقتصاد الأمريكي، لو اقدمت غلى غزو واحتلال تايوان؟ قبل أسابيع فقط، خرجت عدة مؤسسات ومراكز أبحاث اقتصادية غربية لتؤكد أن اجمالي ناتج الاقتصاد الصيني سيتجاوز في العام 2030، أي بعد ثمانية أعوام فقط، الاقتصاد الأمريكي للمرة الأولى منذ بدء تجربة الصعود الصيني بعد وفاة المؤسس التاريخي للصين، ماو تسي تونغ، في منتصف السبعينات من القرن الماضي. وبلغ اجمالي ناتج الاقتصاد الأمريكي في 2021 نحو 23 تريليون دولار، مقابل نحو 16 تريليون دولار للصين في نفس العام.

وبعد العقوبات القاسية التي فرضها ترامب على الصين بسبب المنافسة التجارية بين البلدين، فإن أحد الانجازات الرئيسية التي تحسب للرئيس الحالي تشي أنه سعى لتجاوز تأثير تلك العقوبات التي حدت من الصادرات الصينية بتشجيع الاستهلاك المحلي وتوسيع السوق الصينية الداخلية. مليار و400 مليون نسمة، التي هي الأضخم في العالم، حتى لو كان المستهلك الأمريكي أكثر انفاقا من نظيره الصيني. وفي العام 2021 أيضا. وبرغم السياسة الصارمة المسماة ب”صفر تسامح” مع وجود أي حالات كوفيد في الصين والتي أضرت بالاقتصاد العالمي مع تراجع الصادرات الصينية. حقق الاقتصاد الصيني نموا بمعدل 8.1 في المائة، مقارنة ب5.7 في المائة حققها الاقتصاد الأمريكي.

قبل أيام، كتبت مادلين أولبرايت، وزيرة الخارجية الأمريكية السابق في إدارة بيل كلينتون. أنها التقت الرئيس الروسي بوتين في العام 2000 بعد شهور من توليه منصبه للمرة الأولى (حيث انه عدل الدستور لاحقا عدة مرات لكي يبقى في منصبه عمليا للأبد). وأنه أكد لها في ذلك اللقاء أنه “يحب الأكل الصيني واستخدام العصي الصينية” ولكن توجهه هو نحو الغرب في الأساس وتنمية الاقتصاد الروسي على النمط الرأسمالي الغربي. كان هذا هو موقف بوتين غالبا منذ عشرين عاما. أما الآن، فرهانه بوضوح هو على العملاق الصيني، وصديقه الشخصي تشي جين بينغ الذي التقاه 38 مرة على مدى السنوات العشر الماضية. ليواجها معا ما أسماه بوتين “بامبراطورية الأكاذيب” التي تقودها الولايات المتحدة وحلفاهءها الغربيين. في مرحلة التراجع الأمريكية هذه، سيتمسك بوتين باعادة رسم خريطة أوروبا التي فرضتها واشنطن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي قبل ثلاثين عاما. وستتمكن الصين، إن عاجلا أو آجلا، بتطبيق سياسة الصين الواحدة واستعادة تايوان، كما استعادت هونج كونج.