في مثل هذا العام من ألف سنة (1022)، صدر واحد من أمتع الكتب، هو الكتاب الشهير باسم «طوق الحمامة» ومؤلفه واحد من أكبر وأشهر فقهاء الأندلس، «أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدِ بنِ حَزْمِ»، أحد أهم علماء المسلمين في القرن الخامس الهجري، وصاحب المؤلفات الكثيرة والمعروفة في الفقه والتاريخ ومقارنة الأديان، وهو من أكبر علماء الإسلام تصنيفًا وتأليفًا بعد الطبري.

فوق ذلك كله، كان «ابن حزم» من أول الفقهاء الذين أنصفوا المرأة، ومن أوائل من أجازوا أن تتولى وظيفة القضاء، وأفتى بجواز نبوة النساء، وكان له رأي في قوامة الرجال على غير ما يذهب إليه ما شاع من الفقه، وأباح الغناء، ولم يعتبره من لهو الحديث، وإلى جانب انتصاره لحقوق المرأة انتصر «ابن حزم» لحقوق العبيد والأرقاء من ألف سنة.

كان الفقيه الأندلسي صاحب مشروع كبير لإعادة تأسيس الفكر الإسلامي من فقه وأصول فقه، ويُعَدُ «ابن حزم» المؤسس الثاني لما يعرف ﺑ«المذهب الظاهري»، الذي يرفض القياس الفقهي الذي قام عليه الفقه الإسلامي التقليدي، وكان ينادي بالتمسك بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، ورفض ما عدا ذلك في دين الله، ويذهب إلى وجوب إقامة دليل شرعي واضح من القرآن أو من السنة لتثبيت أي حكم فقهي، ولا يقبل القياس والاستحسان والمصالح المرسلة التي يعتبرها محض الظن.

**

تبنى «ابن حزم» بعض الأفكار التي لم يسبقه إليها أحد من العلماء، وعلى رأس تلك الأفكار التجديدية يأتي احترامه لمكانة النساء العلمية، حتى أنه في كتابه «الفصل في الأهواء والملل والنحل»، يصرح بجواز نبوة المرأة، ووافق المحتجين بقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ)، وقال: «إن هذا أمر لا يُنازعون فيه، ولم يدعِ أحد أن الله تعالى أرسل امرأة، وإنما الكلام في النبوة دون الرسالة، فوجب طلب الحق في ذلك بأن ينظر في معنى لفظة النبوة في اللغة التي خاطبنا الله بها عز وجل، فوجدنا هذه اللفظة مأخوذة من الإنباء، وهو الإعلام، فمن أعلمه الله عز وجل بما يكون قبل أن يكون، أو أوحي إليه منبئاً له بأمر ما، فهو نبي بلا شك»، وضرب على ذلك بعض الأمثلة من القرآن الكريم، منها «مريم بنت عمران»، و«سارة» زوجة «إبراهيم»، وأم «موسى» عليهم جميعاً السلام.

ارتفع «ابن حزم» بالنظرة إلى المرأة فوق مستوى أنها محل للشهوة، ورفض التعامل معها على أنها مجرد أداة للجنس، لا تصلح في شيء من جوانب الحياة غير ذلك.

في كتابه الماتع «طوق الحمامة في الأُلفَةِ والأُلَّاف»، كما في سائر تراث «ابن حزم» الفقهي ظهرت المرأة في صورة المتعلمة والمعلمة، المثقفة والشاعرة، العفيفة التي لا تطمع فيها الأبصار، الوفيَّة ذات الصفات الراقية، التي تستحق أن يبكيها الرجل، بل أن يموت أسفًا عليها إذا فارقها: حية أو ميتة.

من أهم آراء «ابن حزم» في شأن المرأة أنه أجاز أن تتولى وظيفة القضاء، وهي وظيفة لها خطرها وجلالها العظيم، وقد منعها أكثر الفقهاء من ذلك، ويؤكد الفقيه الأندلسي على مساواة المرأة بالرجل في حدود تخصصها، وكان لاجتهاداته وآرائه دور كبير في تحسين مكانة المرأة في الأندلس، ويكفي أن نلقي نظرة على كتاب «طوق الحمامة» لنجد ابن حزم يرفض النظرة الدونية على المرأة، وينادي بتحريرها، واحترام حرياتها، ويقص علينا الكثير من أسرارها دون حرج أو إنكار.

أما القوامة المنصوص عليها في قول الله سبحانه وتعالى في سورة النساء: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ) فكان «ابن حزم» يرى أنه لا علاقة لها بالحقوق والطبيعة الإنسانية، أو القدرة على تصريف الأمور، وأشار إلى أنه لو كانت قوامة الرجل بهذا المعنى للزم أن يكون كل رجل أفضل من كل امرأة، وهذا في نظر الفقيه الأندلسي لا يستقيم في لغة العقل، وفي نظره أن المرأة هي التي تُعلم الأطفال القرآن والحديث والشعر والخط، وهو نفسه كان واحدًا من الذين تلقوا تربينهم وتعليمهم الأولي على يد النساء، وكان لظروف نشأته التي تميزت بالرخاء أثرُ كبير في الصورة الإيجابية للمرأة.

إلى جانب انتصاره لحقوق المرأة نادى «ابن حزم» أيضاً بحقوق العبيد والأرقاء، وردَّ في كتابه المشهور «المُحلى» على الفقهاء الذين رفضوا الإقرار بحق العبد إن ظُلم أو أهين، بقوله: «وأما قولهم لا حُرمة للعبد، ولا للأمَةِ، فكلام سخيف، والمؤمن له حُرمة عظيمة، ورُبَّ عبدٍ جلف خير من خليفة قرشي عند الله تعالى».

**

ما يزال خصوم «ابن حزم» يأخذون عليه حتى يومنا هذا أنه أباح الغناء، وقد ناقش أدلة الذين يحرمونه مناقشة فقهية وحديثية، وقال إنهم استدلوا على حرمته بما روي عن ابن مسعود وابن عباس وبعض التابعين: أنهم حرموا الغناء محتجين بقول الله تعالي: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا أولئك لهم عذاب مهين)، وفسروا لهو الحديث بالغناء.

وقال «ابن حزم»: ولا حجة في هذا لوجوه:

أحدها: أنه لا حجة لأحد دون رسول الله صلي الله عليه وسلم.

والثاني: أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة والتابعين.

والثالث: أن نص الآية يبطل احتجاجهم بها، لأن الآية فيها: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوًا)، وهذه صفة من فعلها كان كافرًا بلا خلاف، إذ اتخذ سبيل الله هزوًا.

وأكد «ابن حزم» على أن النصوص التي استدل بها القائلون بتحريم الغناء إما (صحيح غير صريح، أو صريح غير صحيح)، ولم يسلم حديث واحد مرفوع إلي رسول الله يصلح دليلاً للتحريم، وكل أحاديثهم ضعفها جماعة من الظاهرية والمالكية والحنابلة والشافعية، وقال «ابن حزم»: كل ما رُوي فيها باطل وموضوع.

واستدل على إباحة الغناء بأثر صحيح الإسناد عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما أنهما استمعا للعود، واحتج أيضاً بحديث أن ابن عمر سمع مزمارا فوضع إصبعه في أذنيه ونأى عن الطريق، وقال: يا نافع هل تسمع شيئاً؟ قال: لا، فرفع إصبعيه وقال: كنت مع الرسول عليه السلام فصنع مثل هذا. قال ابن حزم: فلو كان حراما ما أباح رسول الله لابن عمر سماعه، ولا أباح ابن عمر لنافع سماعه.

**

ثورة «ابن حزم» الفكرية تكمن في أنه حرر الفكر الفقهي والكلامي، بل وسائر أنواع التفكير من هيمنة التقليد، واتّسم منهجه بالتجديد، ساعده على ذلك أنه كان (موسوعي الثقافة، شمولي الفكرة، فلسفي النظرة، عقلاني النزعة)، إلى جانب أنه كان ظاهري المذهب والمنهج، ولهذا فقد عانى كثيرا في سبيل الدفاع عن آرائه ومنهجه الذي ارتضاه، صحيح أنه اعتمد على أفكار بعض من سبقوه سواء في ظاهريته أو في عقلانيته ومنطقيته، إلا أن ذلك كله لا ينال بأي مقدار من قامته الرفيعة كفيلسوف أصيل ذو إبداع فكري متميز، وأنا مع من قالوا إن القارئ لأعماله يزداد شغفاً لإعادة قراءتها، بعدما ينتهى من مطالعتها.

وليس من شكٍ في أن كتابه الشهير «طوق الحمامة» من كتبه التي يزداد شغفك بها حين تنتهي من قراءتها، وقد كتبه «ابن حزم» بأسلوب أدبي مشوق، وترجم الكتاب الى لغات كثيرة، وصار تراثاً إنسانياً، ويعزو البعض دقة «ابن حزم» في وصف مشاعر النساء، وحسن اطلاعه على صورة المرأة الأندلسية في عصره، يعزون ذلك كله إلى نشأته في مجتمع نسائي.

ويعتبر الكتاب أحد الأعمال التي ركزت على تحليل المشاعر الإنسانية وفهم النوازع البشرية وليس مجرد كتاب للتسلية ومجرد ذكر القصص والحكايات أو المواعظ.

يضم «طوق الحمامة» عددا من الفصول التي تتحدث عن عوارض الحب وعلاماته، ودلائل تصرفات المحبين، ووصف أحوالهم في الوصل، وذكر الأمور المنغصة كالعاذل والرقيب، وما إلى ذلك من أمور كانت موضوعا للحديث في العصور الوسطى.

ولا شك عندي في أن «طوق الحمامة» من أجمل الكتب في بابه، ومن أدق ما صوره أديب كاتب وشاعر من أحوال الحب وقضاياه، وقد خاض «ابن حزم» خلاله في تجاويف النفس البشرية ولم يبخل على قارئه ببعض أحواله وتجاربه الشخصية حتى عد الكتاب أحد المصادر الرئيسية لسيرة ابن حزم الذاتية، وقد أورد المؤلف في الأبواب الثلاثين التي يتألف منها الكتاب قطعا وقصائد من شعره جعلها في خدمة فكرة الكتاب وتفصيلات مقاصده.

والكتاب في الأصل مكتوب على صورة رسالة إلى صديقٍ طالبه أن يصنِّف «رسالةً في صفة الحب ومعانيه، وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة لا مُتزيِّدًا ولا مفننًا، لكنْ مُوردًا لما يحضُرني على وجهه وبحسب وقوعه، حيث انتهى حفظي وسَعة باعي فيما أذكره، فبدرتُ إلى مرغوبك».

وفي أول أبواب الكتاب تحت عنوان «الكلام في ماهية الحب» يقول ابن حزم: «الحب ـ أعزك الله ـ أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عز وجل، وقد أحب من الخلفاء المهذبين والأئمة الراشدين كثير».

**

سوف يلفتك بشدة دقة «ابن حزم» في متابعته لعاطفة الحب الإنسانية، ولماحية تحليله النفسي القائم على الملاحظة والتجربة، وهو يعدد ضروب المحبة فيقول: (أفضلها محبَّة المتحابِّين في الله عز وجل؛ إما لاجتهاد في العمل، وإما لاتفاق في أصل النِّحلة والمذاهب، وإما لفضل عِلْم يُمنحه الإنسان. ومحبة القرابة، ومحبة الألفة والاشتراك في المطالب، ومحبة التصاحب والمعرفة، ومحبة البر يضعه المرء عند أخيه، ومحبة الطمع في جاه المحبوب، ومحبة المتحابَّين لسر يجتمعان عليه يلزمهما ستره، ومحبة بلوغ اللذة وقضاء الوطر).

ويرفض «ابن حزم» فكرة أن المرء يمكنه أن يحب اثنين، إذ الحب لا يكون إلا مرةً واحدة، ولحبيبٍ واحد، ويعتبر أن هذا لا يتعدى أن يكون شهوةً تسمى محبةً، ويفرق بينها وبين محبة العشق، والتي في رأيه هي المحبة الوحيدة التي لا تفنى ولا تزيد ولا تنقص كأنواع المحبة الأخرى، «فكل هذه الأجناس منقضية مع انقضاء عللها، وزائدة بزيادتها، وناقصة بنقصانها، متأكدة بدنوها، فاترة ببعدها، حاشا محبة العشق الصحيح المُمكن من النفس؛ فهي التي لا فناء لها إلا بالموت.

ومن أذكى أبواب الرسالة وأكثرها طرافة ما جاء تحت عنوان «باب الإشارة بالعين»، واعتبر «ابن حزم» أن «العين أبلغ الحواس وأصحها دلالة وأوعاها عملا عن بقية الحواس. وذكر فيه إشارات المحبوب لمحبوبه بالعين، فالإشارة بمؤخرة العين الواحدة تعني النهي عن الأمر، وإدامة النظر دليل على التوجع والأسف، وكسر نظرها دليل على الفرح، والإشارة الخفية بمؤخرة العين تعني سؤال، وترعيد الحدقتين من وسط العينين تعني النهي العام».

«طوق الحمامة» كتاب ممتع، ورسالة في الحب فيها الكثير من الفائدة والمتعة الفكرية، والوجدانية، والكثير من القصص المسلية، التي لا تخفى دلالتها على كل لبيب، خاصة إذا كان من فئة العشاق أو من أهل الهوى، وهو إلى جانب ذلك شهادة عالم كبير بحجم ووزن وقيمة «ابن حزم» على أوضاع المجتمع والمرأة في الأندلس قبل عشرة قرون.