في عام 1934 كتب المؤرخ البريطاني والوزير الحكومي هيربرت فيشر أنه لم يعد بإمكانه رؤية أي نوع من الإيقاع أو “النمط المحدد مسبقًا” في أي مكان من أحداث العالم كما كان شائعًا في الماضي. وعلّق قائلا: “أستطيع أن أرى فقط أزمة طارئة واحدة تلو الأخرى مثلما تتابع أمواج البحر”.. وبعد أقل من قرن، تبدو كلماته صالحة الآن.

تتلاحق الأحداث التي تعيد تشكيل السياسات في عالم تحركه الشكوك: جائحة عالمية تُظهر مكامن قصور النظام العالمي، انسحاب أمريكي مذل من أفغانستان يبعث برسائله إلى جميع الحلفاء، وصعود صيني وروسي يسعى لمجابهة الأحادية القطبية.

ولكن المثير للقلق، مثلما يقول براين ستيوارت، أحد أبرز الصحفيين الكنديين والمراسل الذي غطى لأكثر من أربعة عقود العديد من النزاعات حول العالم، أن “الصراع بين الأيديولوجيا الذي ميز الحرب الباردة قد تم استبداله بصراع الثقافات”.

في القلب من كل ذلك يظهر الشرق الأوسط كنقطة صراع أزلية على النفوذ الجيوسياسي، “وإلى أن يصعد النظام الجديد، ستكون منطقة الشرق الأوسط: أقل مشكلة يجب حلها، أكثر من ظرف يمكن إدارته“، بكلمات ريتشارد هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك.

أطلقت روسيا حربها على أوكرانيا في مواجهة مع الولايات المتحدة والغرب. مواجهة تمتد آثارها إلى الشرق الأوسط، وستصعد أو تهبط تفاعلاتها تبعا لمدة استمرار الحرب ومسارها. صراع تملك فيه موسكو الكثير من الأوراق التي يمكن توظيفها بالشرق الأوسط:

تواجد قوي في سوريا وليبيا، مصالح متناقضة ومتشابكة مع تركيا، تقارب مهم مع إيران، وتنسيق حيوي مع إسرائيل، وعلاقات اقتصادية وعسكرية متزايدة مع دول الخليج وشمال إفريقيا. وهنا يتوجب على الجميع السير بحذر على حبال مشدودة؛ مخافة الانحياز المبكر وبالتالي الخسارة.

 

لعبة التوازنات

مع حاجة الولايات المتحدة وأوروبا إلى الطاقة -إذ تمدها روسيا بـ40% تقريبا من احتياجاتها للغاز الطبيعي- قد تلعب بعض الدول العربية، مثل السعودية وقطر، دورا في سد جزء من النقص، والحفاظ على استقرار أسعار النفط عالميا، ما “قد يمنحها مساحة لتقوية أو ترميم علاقاتها مع الدول الأوروبية والولايات المتحدة وممارسة درجة من النفوذ” بحسب مدير برنامج الشرق الأوسط في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، جوليان بارنز ديسي.

لكن ديسي يحذر من التحديات التي قد تواجهها دول المنطقة، التي ستجد نفسها مضطرة إلى الموازنة بين علاقاتها مع الدول الغربية من جهة، وعلاقاتها مع روسيا التي تربطها بها مصالح عديدة من جهة أخرى.

ويقول لـ”بي بي سي”: “هذه البلدان ستكون مضطرة إلى السير بحذر شديد لضمان الاستفادة من الفرص التي قد تخلقها الأزمة، دون أن تخلق مزيدا من الضغوط على نفسها أو تضر علاقتها بروسيا إذا بدا كما لو أنها تنحاز إلى أحد طرفي الأزمة”.

ظهر ذلك في الموقف الإماراتي الممتنع عن التصويت -رفقة الصين والهند- ضد قرار يدين الغزو الروسي في مجلس الأمن. وقد يحد أيضًا من رغبة السعودية في استغلال الأزمة لمحاولة الاستيلاء على جزء من حصة روسيا الحالية في سوق النفط؛ نتيجة شراكتها معها في “أوبك بلس”.

ووفقا للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية يريد ولي العهد محمد بن سلمان الهروب من وضع “المنبوذ” الذي كان عليه منذ مقتل جمال خاشقجي. وعليه يمكن أن تسعى الرياض لاستخدام الطلبات الأمريكية والأوروبية لزيادة إمدادات النفط لاستعادة حظوتها لدى الغرب. وقد يتضمن ذلك لقاءً طال انتظاره مع الرئيس الأمريكي جو بايدن وتخفيفًا عامًا للانتقاد الأمريكي للسعودية.

“شهد العقد الماضي ازدهارًا في العلاقات الأمنية والاقتصادية بين روسيا والعديد من الدول في الشرق الأوسط، مدفوعا بإحساس تناقص الاهتمام الأمريكي بالمنطقة”، يشير المجلس.

أما تركيا فتتنافس روسيا والغرب الآن على جذبها في صفهما بشأن أوكرانيا حيث تحرص واشنطن على أن تواصل أنقرة مبيعاتها من الأسلحة إلى كييف. و”من غير المرجح أن تتحالف تركيا بشكل كامل مع الغرب ضد روسيا، نظرًا لعلاقتها المعقدة مع الدولة”.

لكن هذه الديناميكيات -بحسب المجلس الأوروبي- ستؤدي بلا شك إلى سياسة خارجية تركية أكثر ثقة بالنفس خاصة في البحر الأبيض المتوسط ​​وسوريا، وتخفيف حدة الانتقادات الغربية لسلوك الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الداخلي. لذا “من المرجح أن تطغى الأولوية الغربية على المخاوف بشأن القيم وحقوق الإنسان”.

وتفاقم التوتر بين روسيا والغرب حول أوكرانيا، قد يؤدي إلى زيادة الاستقطاب في العلاقات الدولية، وما قد يتركه أمر كهذا من أثر على الوضع في دول عربية تشهد انخراط أطراف دولية في الصراع الدائر فيها مثل سوريا وليبيا.

يلحظ ديسي، أن التفاهمات الدولية حول ملفات الشرق الأوسط عرفت خلال السنوات والأشهر الماضية نوعا من التعاون رغم الاختلاف. مثال ذلك، التعاون بين روسيا والصين والدول الأوروبية في ملف إيران النووي على الرغم من التوتر حول أوكرانيا.

لكنه يشير إلى أن ملفات أخرى، كالملف السوري والليبي “عرفت إلى جانب بعض التعاون، كثيرا من الإحباط والعداء، ووجد فيها الغرب وروسيا نفسيهما على طرفي نقيض”، وعندها سيؤدي تصاعد التوتر والنزاع المسلح في أوكرانيا إلى “ترسيخ” الاختلاف في المواقف، وتراجع فرص تحقيق أي تقدم يضمن الاستقرار السياسي في دول مثل سوريا وليبيا.

الورقة السورية

في الثامن من فبراير/شباط الجاري حذر مايكل كوريلا، القائد العام للقيادة المركزية الأمريكية، التي تشرف على العمليات العسكرية في الشرق الأوسط، من أن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يؤدي إلى عدم استقرار أوسع في الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا: “إذا غزت روسيا أوكرانيا، فلن يترددوا في أن يكونوا بمثابة مفسد في سوريا أيضًا”.

سوريا إذا هي المكان الذي قد تجد فيه التوترات الروسية الأمريكية في أوروبا مكانًا في الشرق الأوسط.

اتبعت دمشق خطى موسكو في الاعتراف باستقلال منطقتي لوهانسك ودونيتسك الانفصاليتين في شرق أوكرانيا في غضون ساعات. يشير بروس ريدل مستشار شؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأمريكي “الأزمة في أوكرانيا هي مسألة فورية وهامة لنظام الأسد، يجب أن يقف إلى جانب موسكو حتى لو أدى ذلك إلى تعقيد حروبه المتداخلة المتعددة في الداخل (..) من الواضح أن الأسد يريد أن يظهر لـ[فلاديمير] بوتين أن سوريا تقف وراءه بالكامل” -بعدما أنقذ نظامه من الانهيار.

تمتلك روسيا في سوريا قاعدة بحرية وأخرى جوية في مدينة طرطوس، كنقطة انطلاق في شرق البحر المتوسط، ما مكنها من إبراز قوتها في شبه جزيرة القرم وأوكرانيا. إذ أعطاها وصول بحري أكبر إلى مضيق الدردنيل ومن ثم البوسفور حيث تطل أوكرانيا على البحر الأسود.

الباحثة في السياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط آنا بورشفسكايا ترى أن “هذا يخلق نقطة ضغط استراتيجية أخرى مهمة للغاية” إذ تعتقد أن انتقال روسيا إلى سوريا عام 2015 كان “أكبر بكثير” من مجرد الرغبة في دعم نظام الأسد.

وتوضح “في الأساس، كان التدخل حملة معادية لأمريكا. لقد أرادوا تأسيس موطئ قدم استراتيجي في ذلك الجزء من العالم والذي من شأنه أن يسمح لروسيا بإبراز قوتها على كل الأطراف الجنوبية لحلف الناتو في جنوب أوروبا، وكذلك في الشرق الأوسط. إنه موقع استراتيجي حاولت الدولة الروسية دائمًا الوصول إليه تاريخيًا”.

تداخل المصالح مع إسرائيل

خلال الأشهر الماضية، نسقت إسرائيل مع الجانب الروسي في هجماتها على الأهداف الإيرانية داخل الأراضي السورية، وكانت حريصة على إظهار أهمية استمرار التعاون مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

أدان وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد رسميا “الهجوم الروسي على أوكرانيا”، واصفا إياه بأنه “انتهاك خطير للنظام الدولي”. لكن رئيس الوزراء نفتالي بينيت كان أكثر حذرًا، إذ أعرب عن تعاطفه مع المواطنين الأوكرانيين الأبرياء متجنبًا أي ذكر لروسيا.

ومع أهمية الأزمة الأوكرانية للولايات المتحدة ، يترك ذلك خيارا ضئيلا أمام إسرائيل: “عليها أن تعطي الأولوية لعلاقتها مع أمريكا والنظام الدولي” من وجهة نظر ناثان ساكس، مدير برنامج الشرق الأوسط في معهد “بروكنجز”.

ومع ذلك، مثل العديد من البلدان “لا تزال إسرائيل تأمل في إزالة العوائق بالحد الأدنى، مع وضع عين على واشنطن وأخرى على موسكو”.

عند حديثه، هذا الأسبوع، عن وجود روسيا لمدة سبع سنوات في سوريا ذكر لابيد أنه قال للأمريكيين إن إسرائيل تشبه دول البلطيق أكثر من كونها دولة في الشرق الأوسط “لأنها أيضًا لديها روسيا كجار” في إشارة إلى حضور الأخيرة بسوريا بمحاذاة مرتفعات الجولان المحتلة.

تسفي ماجن، السفير الإسرائيلي السابق في روسيا وأوكرانيا، أشار إلى أن “هناك وضع قد تؤدي فيه روسيا إلى إشعال الشرق الأوسط لخلق أزمة أخرى خاصة بها للضغط على الغرب “.

ويلفت ماجن، الباحث في معهد دراسات الأمن القومي، إلى أن الردود الروسية الأخيرة على الضربات العسكرية الإسرائيلية في سوريا خلال الأسابيع الماضية كانت بمثابة إشارات واضحة للغرب بأن الروس لديهم القدرة في سوريا على خلق اضطراب.

ويقول إن هناك احتجاجا كبيرا في وسائل الإعلام الروسية في وقت سابق من هذا الشهر بعد هجوم صاروخي إسرائيلي بالقرب من دمشق، معتبرا أن جوهر هذه المقالات هو: إسرائيل لا تتصرف بشكل صحيح، وتسمح لنفسها بجميع أنواع الامتيازات وبينما ينظر الغرب إلى الوضع في أوكرانيا، فإنه يتجاهل ما يجري في الشرق الأوسط.

“إنهم يقولون: انظروا ماذا تفعل إسرائيل. هذه محاولة لإرسال رسالة، ليس إلى إسرائيل ولكن إلى العالم مفادها أننا [الروس] يمكن أن نخلق الفوضى”.

وإذا قرر الروس ذلك، فبإمكانهم تقييد حرية إسرائيل في التصرف في الأجواء السورية بشدة، مما يصعّب عليها محاربة وكلاء إيران في المنطقة ومنع ترسيخ تواجد الميليشيات الإيرانية وحزب الله في سوريا، بكلمات السفير السابق.

.. والورقة الإيرانية

تعلق الباحثة في السياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط بورشفسكايا قائلة إن السمة المميزة لنهج بوتين في الشرق الأوسط هو وضع نفسه كوسيط وشخص يمكنه التحدث إلى جميع الأطراف.

“لقد نصب نفسه وسيطا بين إيران وحماس وحزب الله وإسرائيل.. أقامت روسيا علاقات جيدة مع جميع الحكومات وحتى مع الحركات المعارضة لها. هذا نهج مختلف تمامًا [عما كان عليه في عهد السوفييت]، مما يمنح موسكو قدرًا أكبر من المرونة”.

وهنا تتبدى أهمية ملف المفاوضات الإيرانية مع الولايات المتحدة وأوروبا حيث تلعب روسيا دور “الوسيط المحايد”، في ظل علاقاتها مع طهران التي عرفت تقاربا كبيرا خلال الفترة الماضية، توّج باتفاقات اقتصادية ودفاعية استراتيجية.

وقد أظهرت طهران موقفها بوضوح من الأزمة، مؤكدة أن “استفزازات” الناتو سبب الوضع الحالي، وأن “الناتو بتحريضه يؤزم المنطقة المحيطة بإيران وتحليق طائراته بالقرب من الحدود الإيرانية مبعث قلق لنا ويزعزع الاستقرار”.

ما لا نعرفه، حتى الآن، هو إذا كانت الحرب في أوكرانيا ستؤثر على مفاوضات استعادة الاتفاق النووي الإيراني أم لا. لعبت روسيا دورًا بناء في المحادثات الأخيرة، حيث عملت عن كثب مع الجهات الغربية لإعادة إيران إلى الامتثال، بحسب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية.

ويذكر التحليل أن الأزمة في أوكرانيا قد تدفع موسكو نحو نهج أكثر إرباكًا لتخفيف الضغط على طهران. من جانبها، قد تشعر إيران أن التوترات المتصاعدة بين الولايات المتحدة وروسيا وارتفاع أسعار النفط يمنحها فرصة لالتقاط الأنفاس ويزيد من نفوذها في المفاوضات.

لاجئون وأزمات غذائية وإنسانية

من خلال الحضور الروسي في ليبيا حيث تتواجد في قاعدة الجفرة القوية، ودعمت قائد قوات الشرق خليفة حفتر، فإنه يمكنها اللعب بورقة اللاجئين. وتخشى المحللة السياسية سينزيا بيانكو أن تحاول موسكو الضغط على أوروبا من خلال موجة جديدة من اللاجئين القادمين من ليبيا. وتقول لـ DW: “يتم استخدام اللاجئين كوسيلة ضغط. يمكنك أن ترى كيف عمل ذلك الخريف الماضي على الحدود بين روسيا البيضاء وبولندا”.

وهو الأمر ذاته في سوريا، إذ تصر روسيا على أنه لا يمكن إرسال المساعدات الإنسانية إلا عبر الحدود الخاضعة لسيطرة نظام الأسد. والتحكم في تدفق المساعدات الإنسانية يرتبط بدوره بالحركة المحتملة للاجئين.

تشير الباحثة كيلي بيتيلو إلى أن عوامل مثل تغير المناخ ووباء كورونا أدت إلى “زيادة تعقيد إنتاج المساعدات الإنسانية وإمداداتها إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا”، وتضرب مثال اليمن، حيث تم تمويل نصف خطة الاستجابة الإنسانية فقط في عام 2021.

وتحذر من الأثر الذي قد تتركه زيادة الضغط على المساعدات الإنسانية على الوضع في سوريا، كما في دول المنطقة التي تستضيف أعدادا كبيرة من اللاجئين السوريين، والتي قد تواجه مزيدا من عدم الاستقرار “وربما الصراع”.

أخيرًا، فإن الصراع المتصاعد بين روسيا وأوكرانيا يُنبئ بخطر على صادرات القمح من البلدين، والتي تمثل ما يقرب من 29% من العرض العالمي. ففي وقت ترتفع فيه أسعار المواد الغذائية إلى حد كبير بسبب اضطرابات سلاسل التوريد المرتبطة بالوباء، قد يزيد ذلك خطر انعدام الأمن الغذائي.

ارتفاع آخر في أسعار الخبز -إلى جانب الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة- يمكن أن يكون له تأثير مزعزع بشدة للاستقرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ووفقا للمجلس الأوروبي، تعاني المنطقة بالفعل من بعض أعلى مستويات انعدام الأمن الغذائي في العالم، ويمكن أن تؤدي الزيادات الإضافية في الأسعار إلى تعميق الأزمات الإنسانية وتغذية الاضطرابات على نطاق أوسع.

“قلة في الشرق الأوسط ستنجو من هذه الآثار. الدول التي تحوم بشكل خطير بالقرب من المجاعة، مثل اليمن ولبنان (كلاهما مشتر رئيسي للقمح الأوكراني)، ستواجه أسوأ العواقب. لكن ارتفاع الأسعار سيشكل أيضًا تهديدًا لدول مثل ليبيا ومصر، وكذلك تونس والجزائر، حيث أثار ارتفاع أسعار المواد الغذائية غضبًا شعبيًا”.

تتراكم الأوراق الروسية في المنطقة.. وكل هذه الدول ستراقب بحذر تطورات المشهد المثير للقلق.