على مدار أربعة أعوام، بدأت روسيا الاستعداد لمواجهة رغبة أوكرانيا للانضمام لحلف الناتو. ودرست تبعات العملية العسكرية التي تجريها حاليا، حتى إن العقوبات الغربية التي تم فرضها عليها لم تضرها بقسوة بل على العكس ستضر الأوروبيين أكثر.

على مدار سنوات، نجحت الحكومة الروسية في تقليص  الواردات إلى الربع وقلصت من الاستهلاك غير الضروري. في الوقت ذاته تم التعامل مع ملف الدين الخارجي، وتخفيض مديونيات الشركات بمقدار 35%.

الدين الخارجي العام لروسيا انخفض إلى 4% في 2020 وهو أدنى دين في العالم، وكان قد سجل  في 2017 نحو 453.7 مليار دولار. وطال انخفاض الدين الخارجي حينها جميع القطاعات المؤسسية.

حصة الحكومة والبنك المركزي بلغت ـ طبقا لإحصائيات 2018 ــ من إجمالي الدين 56 مليار دولار فقط. فيما يقع باقي الدين 398 مليار دولار على عاتق الشركات والمصارف والأشخاص.

احتياطي ضخم

كونت روسيا احتياطيًا ضخمًا من الذهب بتكوين احتياطيات من الذهب والعملات الأجنبية إذ ارتفعت بنهاية أكتوبر الماضي إلى 623.2 مليار دولار. وهو أعلى مستوى في تاريخها كما نوعت الاحتياطيات لتتضمن أصولا أجنبية عالية السيولة تشمل النقد الأجنبي والذهب وحقوق السحب الخاص.

يملك البنك المركزي الروسي صندوقًا بـ630 مليار دولار “للأيام العصيبة”. يكفي باستيراد احتياجات البلاد لمدة عام كامل بوتيرتها الحالية، دون أن تنفذ. ما يؤهل الشركات الأجنبية للقيام بأعمال تجارية في الغرب عبر شركاء ماليين بديلين.

العقوبة التي سيكون لها التأثير الأكبر، هي حجب نظام “سويفت” للمدفوعات العالمية بين البنوك عن روسيا. وهو النظام الذي تتبادل من خلاله البنوك الرسائل بشأن المدفوعات.

“سويفت” تتضمن 42 مليون شفرة يتبادلها 11500 مستخدم في 200 دولة يوميًا لتنسيق المدفوعات. ويفترض أنها محايدة تخضع لسلطة الاتحاد الأوروبي وليس سلطة الولايات المتحدة الأمريكية.

الغرب لن يخاطر بورقة سويفت

رغم الحديث عن ذلك النظام كثيرًا خلال الأيام الثلاث الماضية لكن لا يبدو أن الغرب لديه الجرأة على تفعيله. فرئيس الوزراء الروسي سابقًا ديميتري ميدفيديف ونائب سكرتير مجلس الأمن القومي حاليًا. قال في 2018 إن الاستبعاد من نظام سويفت “سيكون في الواقع إعلان حرب. واستحوذت روسيا على 1.5٪ من إجمالي المعاملات على شبكة المدفوعات الدولية “سويفت” عام 2020.

أسست موسكو وبكين خدمات الرسائل المالية الوطنية الخاصة بهما لضمان استمرار عمل مؤسساتهما. موسكو والنموذج الروسي يسمى SPFS، وهو يعالج حوالي خمس المدفوعات المحلية. لكنه سيكون بطيئًا وغير آمن، وهو قريب من رسائل البريد الإلكتروني أو التلكس أو الفاكسات.

وتعارض ألمانيا ودول أخرى في الاتحاد الأوروبي، مثل إيطاليا والنمسا والمجر وقبرص. اتخاذ مثل خطوة سويفت في الوقت الراهن لأن من المتوقع أن تؤدي إلى تداعيات سلبية على اقتصادياتها أيضا.

وقال المستشار الألماني أولاف شولتس إنه يجب الاحتفاظ بإمكانات للعقوبات “تحسبا لموقف تكون فيه هناك ضرورة للقيام بأشياء أخرى”. لكنه لم يوضح ما هو هذا الموقف وهل يتضمن نظام سويفت أم لا.

تأثير هامشي  

“ساكسو بنك”، المنشأة الاستثمارية المعروفة، تقول إن تأثير العقوبات الاقتصادية التي فرضت حتى الآن على روسيا “هامشي جدا” بالنسبة إلى موسكو. وحال “توجيه ضربات قاسية” تأثيرها قد يكون “هائلا” على الاقتصاديات الأوروبية.

كريستوفر دمبيك، رئيس دائرة الأبحاث والإستراتيجية بالبنك، يقول إن الاقتصاد الروسي يتمتع بمستوى قياسي من الاحتياطات النقدية. وهذا يشكل صمام أمان بالغ الأهمية كما لديه فائض ملحوظ بالميزان التجاري.

الاقتصاد الروسي لا يحتاج إلى اللجوء للأسواق المالية العالمية منذ عام 2014. نحن إزاء اقتصاد بات مقاوما جدا. كما شهد تطويرا بالغ الأهمية للعلاقات التجارية مع الصين عبر عقود لتصدير الغاز وقعت لمدة 25 عاما. وتضم احتياطات البنك المركزي الروسي اليوان وكميات كبيرة من الذهب، الأمر الذي يجعل الاقتصاد الروسي أقل ارتهانا إلى حد بعيد لنظام الدولار.

وحال فرض عقوبات على النفط والغاز والمواد الأولية الزراعية على شكل حظر، سيكون التأثير على الاقتصاديات الأوروبية هائلا ًأيضا. كما أن موسكو تستطيع أن توجه صادراتها نحو جنوب شرق آسيا وبدأت ذلك بالفعل.

فرض الرئيس بايدن ما وصفه لعقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا. استهدفت البنوك الكبرى والمقربين من بوتين ومنع الصادرات إلى روسيا الضرورية لتطوير قطاعات التكنولوجيا الفائقة التي يفضلها بوتين مثل الطيران.

وردا على سؤال حول سبب عدم قيامه بالمزيد وبسرعة أكبر، قال بايدن للصحفيين: “دعونا نجري محادثة في شهر آخر أو نحو ذلك لنرى ما إذا كانت العقوبات فاعلة”.

أوروبا المتضرر الأول من تشديد العقوبات

حجم الديون في العديد من البلدان الأوروبية مرتفعة بشكل كبير، ولم يعد لدى البنك المركزي الأوروبي الكثير من الوسائل لصنع السيولة. لذلك يمكن أن تصبح سياسات التقشف في أوروبا حتمية.

في 2021، كشفت بيانات من مكتب إحصاءات الاتحاد الأوروبي “يوروستات” أن الدين الحكومي المجمع في دول منطقة اليورو البالغ عددها 19. قفز 1.24  تريليون يورو إلى 11.1 تريليون أو ما يعادل 98% من ناتجها المحلي الإجمالي في العام الماضي من 83.9% في 2019، إذ بلغ العجز 3.7 %. من الناتج المحلي الإجمالي من0.6%.

الدكتور عبدالمنعم السيد، رئيس مركز القاهرة للدراسات الاقتصادية، يقول إنه حال لجوء الدول الأوروبية لفرض عقوبات عنيفة على روسيا  فإن اقتصادها سيكون معرضاً للانهيار. إذ تعتمد علي تلبية احتياجاتهم من الغاز على 38% من الواردات من روسيا ونحو 30% من احتياجاتها من النفط الخام. وتعد روسيا ثاني أكبر منتج للنفط والغاز الطبيعي سويا في العالم.

ارتفاع معدلات التضخم

وفي حال تعطل الإمدادات وصعوبة توافر البدائل بشكل سريع فإن دول القارة الأوروبية قد تغرق في الظلام. وتتضاعف فيها معدلات التضخم بالإضافة إلى تعطل النشاط الصناعي، وارتفاع أسعار الغاز والنفط، وستكبد الدول الصناعية الكبرى خسائر فادحة. إذ سترتفع تكلفة منتجاتها بما يهدد وجودها في سوق المنافسة العالمي أمام الصين واليابان.

وأيضًا الاستثمارات الأوروبية في روسيا ستكون معرضة للخطر أيضا حيث تصل حجم الاستثمارات إلى 236 مليار يورو. كما أن حاملي السندات السيادية لأوكرانيا من أوروبا قد يتعرضوا لمخاطر عدم السداد في ظل ارتفاع معدل المخاطرة. ويصل حجم السندات السيادية الأوكرانية إلى 23 مليار دولار.

يقول السيد إن الولايات المتحدة تسعى للسيطرة على سوق الغاز العالمي. وضمان السيطرة على الإمدادات العالمية منه وتقليص النفوذ الروسي في أوروبا وتوفير البدائل له من خلالها أو من خلال دول شرق المتوسط فواشنطن تسعى لتحرير أوروبا من الغاز الروسي وتعطيل تشغيل خط أنابيب “نورد ستريم 2”.

ومشروع “نورد ستريم 2″ الذي سينقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا  وبعض الدول الأوروبية الأخرى عبر بحر البلطيق. تم الانتهاء منه منذ أسابيع وبلغت تكلفته 11 مليار دولار  وكان ينتظر القرار بشأن التشغيل. إلا أن  الحكومة الألمانية اتخذت قرارا بتعليق مشروع ستريم 2” ردا على الاعتراف الروسي بدونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين.

يقول السيد إن الولايات المتحدة تعمل على زيادة صادراتها إلى أوروبا من الغاز الطبيعي. لكن الأزمة ليست فقط في الغاز والبترول من الصادر من الروس لكن ممتدة إلى القمح فروسيا وأوكرانيا اكبر منتجي القمح عالمًيا.