“هل تستطيع أن تنتقد البابا تواضرس أو الرئيس السيسي؟”

هذا ما علّق به أحد الأصدقاء على تدوينة لي، أشكر فيها الشيخ أحمد الطيب وأدعوه إلى مزيد من الفتاوى (الآراء) الجسور فيما يتعلق بالمرأة، بعد كلامه عن إحياء فتوى “الكد والسعاية” للمؤسس “عمر بن الخطاب”، مذكرًا إياه بأن إنصاف المرأة ماليًا قضية تناولها الكُتّاب كثيرًا من قبل، ولا يجب أن يأتي الأزهر متأخرًا هكذا..!

فقد اعترض عليّ الصديق، وتعليقه كما ترى، فيه قدر كبير من الاستنكار على ما اعتبره تطاولًا مني على مقام الشيخ الطيب، وما كان لمثلي أن يتطاول على مقام الشيخ أو غيره من عموم الناس، ولكن الذي لفت انتباهي أن هذا لم يكن هو الاعتراض الوحيد الذي صيغ على هذا النحو؛ فهناك تعليقات كثيرة تحمل المضمون نفسه تابعتها على صفحات الأصدقاء، فكان ضروريًّا أن أسأل نفسي: لماذا يربط المتابعون بين الرجال الثلاثة هكذا؟!

ولأني أعتبر نفسي كاتبًا يشير إلى ما يتصور أنه يستحق التوقف إزاءه، سواء بالتعديل أو بالتطوير أو حتى بالإلغاء.. ولذلك فكّرت في تعليق الصديق بجدية، فقلتُ: لعلّ الرجل يشعر كما يشعر كثير من المسلمين أن الإسلام يتعرض لحملة تشويه غير مسبوقة، تقوم بها دوائر مختلفة في الخارج، كما يتعرض بالقدر نفسه إلى انتقادات موسّعة يقوم بها كُتّاب محسوبون على المسلمين، وأن هذه الانتقادات تستهدف الشيخ الطيب، الرجل الذي اتخذ مواقف صلبة ضد هذه الحملات، وصاحب الصوت القوي الذي تتكسر على جسده الأزهري هذه السهام التي تتتابع دون تراجع أو تردد..!

كان يمكنني بالتأكيد، أن أردّ على صديقي مستنكرًا: وما العلاقة بين شيخ الأزهر والرئيس؟! فالجهة– كما يقول المناطقة– منفكَّة، لعلكَ تقصد أن الكتاب يتناولون آراء الشيخ ويخشون من تناول قرارات الرئيس؟ كان يمكنني أن أجازف وأكتب منشورًا أعترض فيه على الرئيس السيسي أو على أيّ من قراراته أو تصريحاته، وهي كثيرة، كي أؤكد لصديقي أنه يمكنني أن أفعل، ولكن ذلك لن يقنعه، ولن ينهي المشكلة، هذا فضلا عن أنه بالتأكيد، لا يريد أن يزجّ بي في متاهات السياسة، إنه فيما يبدو، يريد أن يقول لي: لماذا لا يكون المسلمون كالمسيحيين، لا يسمحون بانتقاد الإمام الأكبر..!

ثم تابعتُ بعد ذلك فيديوهات كثيرة سجّلها أزهريون مشهورون في فضاء البثّ المباشر يتحدثون فيها عن قيمة الشيخ الطيب، وأنه لا يجب انتقاده، وإذا فكّر مسلمٌ في انتقاده أو ردّ اجتهاد له، فيجب أن يكون مثله في القيمة العلمية، أمّا إذا قال الشيخ الطيب قولًا أو رأيًا، فعلى عموم المسلمين (أي غير المختصين، وتحديدًا غير الأزهريين) أن يسمعوا وألا يجادلوا..!

بالتأكيد هناك تشدد (تطرف) من قبل الأزهريين فيما يخصّ هذا الأمر، لا سيما وكلّهم يرددون هذه المقولة الشهيرة التي تنسب إلى مالك:

“كلّ إنسان يؤخذ منه ويردّ إلا صاحب هذا القبر”.. وأشار إلى قبر النبي الأعظم..!

وهذا كلام -كما ترى- لا خلاف عليه، فنحن إزاء مقولة شديدة التسامح، إنها تقبل اختلافات المختلفين.. إنها تتحدث عن حق الجميع (كل إنسان)، بمعنى أنها تقبل أن يردّ المسلم (العاقل البالغ) رأي فضيلة الشيخ إذا لم يرتح له عقله وقلبه، حتى لو كان هذا المسلم (غير أزهري)، فحق الرد مكفول، لأن هذا المسلم ببساطة، عاقل وبالغ ومسؤول عن اختياراته وأفعاله، والله سوف يحاسبه – وحده– على هذا الاختيار، حتى لو كان رأيًا لشيخ الأزهر نفسه…!

يردد الأزهريون مقولة الإمام مالك المتسامحة، إلا أنهم للأسف يقيدون هذا التسامح، ويجعلونه حصرًا على طبقة محددة، هم الذين يدرسون علوم الدين وينقطعون لها في الأزهر سنين عددا، أمّا عموم المسلمين فما عليهم سوى التوجه إلى هذه الطبقة بالسؤال، فإذا أجابت الطبقة على لسان المتحدث باسمها فعلى الناس أن تقبل وتسمع.

والمفارقة هنا أن المسلم كثير الفخر بأن الإسلام دين لا كهانة فيه؛ أي أنه لا يوجد وسيط بين المسلم وربه، أو بين المسلم وقرآنه، إنه يتعبد إلى الله بالقرآن، ويحاول أن يفهم ويعي، مهما كان حظّه من التعليم والثقافة وإلا فما معنى أن نتعبد بقراءة القرآن..؟ ولا بأس من أن يسأل أحدنا من هو أكثر منه معرفة، ولكنه لا يُسلّم في النهاية بأي رأي أو اجتهاد إلا إذا وقر في قلبه وارتضاه عقله.

هل أقول: إن التخصص الديني بات كهانة أو اكتسب بعض صفاتها؟!

لا شك أن الشيخ أحمد الطيب يمثّل ظاهرة، وكل ظاهرة يجب قراءتها داخل سياقها؛ فالرجل يقف على رأس أكبر مؤسسة دينية في العالم السُّنيّ، وهي مؤسسة ثقيلة الخُطى؛ فلديها تراث ثقيل، وهي تنظر إليه في المجمل بإجلال كبير، ولعلك تتذكر بالتأكيد دعوة الرئيس إلى تجديد الخطاب الديني قبل سنوات، ولكنها بدت – ولا زالت- دعوة غامضة، كما أنها أخذت بعدًا سياسيًا بحكم منصب الرئاسة نفسه؛ فانقسم الناس حولها ما بين مؤيد ومعارض، وما بين متشكك وخائف، فالناس يرتابون في أمر أي تجديد يتعلق بالدين، ولم يتقدم أحد ليشرح لهم بوضوح: ما التجديد المقصود هنا؟

هنا يعود الأزهر بخطاه الثقيلة إلى الواجهة، ليمثّل جبهة الرفض، ويُطمئن الناس على ما عرفوه واستقروا عليه قرونًا طويلة، وليقول لهم: إنه لن يجدد، أو كما قال الإمام في رده على رئيس جامعة القاهرة: “ما يحدث تبديد، وهناك فرق بين التبديد والتجديد”..!

بالتأكيد كان الأزهر أكثر انفتاحًا وترحيبًا بالآراء عمّا هو اليوم، وكذلك كان أشياعه ومحبوه، ولا يمكننا فهم هذا التشدد فيما يتعلق بالشيخ الطيب بمعزل عن التشدد العام في الخطاب السياسي،  لا يمكنك فهم ظاهرة اجتماعية بعيدًا عن الظواهر التي تؤثر فيها وتتقاطع معها، فالخطابات المتعاصرة تؤثر في بعضها بعضًا، ويغذو بعضها بعضًا، أحيانًا دون وعي.. يريد الأزهر ألا يعارضه أحد، وكذلك يريد السياسي، حتى إن البرلمان المصري- كما صرح أحد أعضائه- لا يوجد به سوى ثلاثة معارضين فقط ..!

نحن أمام خطاب سياسي يصنعه الرئيس وحده، بل لنقل: إن السياسة كلها تدور حول الرئيس، ولا يوجد صوت آخر ولا صانع آخر، لا من المعارضة أو الموالاة؛ فالرئيس– وحده– يحتلّ الواجهة تمامًا.. كان طبيعيًا والحال كذلك أن يتطور الأمر لنجد أنفسنا أمام مؤسسة الأزهر، وأمام فكرة التخصص التي يحاول الأزهريون من خلالها احتكار الرأي الديني وإلزام الناس به، رغم أنك لو فكّرت قليلا لوجدت أسماء كثيرة مهمة انشغلت طوال القرن الماضي بالفكر الإسلامي، وقدمت اجتهادات ورؤى حضارية تليق بهذا الدين، وأغلب هذه الأسماء لا علاقة لها بالأزهر ولم تتخصص فيه.

هذا زمان الناس

والمفارقة في الأمر كله، أن هذا ما انتهى إليه الحال بعد ثورة خرجت بالأساس كي تطالب بالحريات السياسية والدينية، وأن هذه الثورة جاءت مصاحبة لتطورات غير مسبوقة في عالم التواصل؛ فالناس يتحدثون في كل شيء، ولا يمكنك إلزام الناس بالسكوت، أو عدم الحديث في هذا الموضوع أو ذاك، كما لا يمكن لشيخ أزهريّ أن يمنع الناس من البحث والتفتيش عن الأحاديث الغريبة والآراء الفقهية (الشاذة) أو البعيدة عن دائرة ما ارتضاه جمهور الفقهاء. لا أحد بمقدوره أن يمنعهم من السؤال عن هذا الحديث أو تلك الفتوى، إنهم سوف يفعلون ذلك دائمًا، وربما بجرأة أكبر إذا ظلت أسئلتهم دون أجوبة..!

وهذا يعني أنه ليس من مصلحة الأزهر أن يمنع غير المختصين من الكلام والسؤال، كما أنه ليس من مصلحة السياسة أن تمنع المعارضين لها، وليس من مصلحة الجميع أن نعيش خارج سياق العصر وجوهر تجربته الفريدة، فهذا عصر شعاره: الجميع يتكلم..!

فلا يُوجد متن ديني اليوم، كما لا يوجد متن سياسي أو قيمي؛ فكثير من الأفكار التي كانت في الهامش البعيد قبل عقد أو عقدين فقط من الآن وجدت لها مكانًا للتعبير عن نفسها، وكثير من الأفكار والمفاهيم التي كانت مستقرة لسنوات طويلة صارت الآن في حاجة إلى إعادة تعريف من جديد..!

قد يرضيك هذا الواقع السيّال أو لا يرضيك، وقد تقبل أن يتحدث غير المختصين أو لا تقبل، ولكن هذا هو الواقع الذي نعيشه، وعلينا أن نتعامل معه وفق منطقه، كي نكون جزءًا منه، قد يحلم بعضنا بالحياة في زمن فات، زمن (الـ وان مان شو)، ولكنك تدرك بالتأكيد، أن الأحلام كثيرًا ما تختلط بالأوهام..!