دخل الجيش الروسي إلى أوكرانيا، فانطرحت كل الأسئلة عن مستقبل العولمة والطاقة والأمن الأوروبي والنظام الدولي والسلام والحرب. لن تدخل دول الغرب حربا ضد روسيا من أجل أوكرانيا. لكنها شرعت في فرض سلسلة من العقوبات الاقتصادية لعزل روسيا. وفي تقديم مساعدات عسكرية لأوكرانيا لتمكينها من الصمود والمقاومة، لعلها تصبح مستنقعا جديدا تغرق فيه روسيا.

المخاطرة الروسية كبيرة جدا، والتكلفة باهظة. فهل الأمر يستحق؟ إجابة هذا السؤال نجدها عند فلاديمير بوتين وحده. فالرئيس الروسي هو في النهاية من قاد الأحداث لتصل إلى هذه النقطة. فيما أبقى الآخرين جميعا عند حدود رد الفعل، عبر سلسلة من المناورات والمبادرات البارعة، رغم حرص الرئيس بوتين طوال الوقت على التأكيد أنهم لم يتركوا له خيارا، وأن الأمر قد فرض عليه فرضا.

عبر الرئيس بوتين عن فهمه وتحليله للأزمة مع أوكرانيا والغرب في مناسبات عدة. غير أن أشمل تفصيل لرؤيته نجدها في الخطاب الذي ألقاه يوم الاثنين 21 فبراير، قبل اندلاع الحرب بأيام قليلة، والذي أعلن فيه اعتراف روسيا باستقلال الأقاليم المنشقة في شرق أوكرانيا.

للرئيس بوتين رؤية مركبة، يتداخل فيها التاريخ والهوية والمظلومية والأمن. تتداخل في رؤية الرئيس بوتين وقائع التاريخ، ومخاوف أمنية، ومظلومية، وشعور بنقص الاحترام الغربي. ذلك في خليط يعكس مزاج الرئيس بوتين، والذي أظن أن كثيرين من أبناء الشعب الروسي يشاركونه فيه.

محاكمة التاريخ

تفكك الاتحاد السوفيتي هو أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين. هذا هو الرأي الذي عبر عنه الرئيس بوتين مرات عدة، علنا، داخل روسيا وخارجها، والذي كرره ثانية في خطابه الأخير. يستغرب الكثيرون في الغرب هذا التصريح ويأخذونه دليلا على رغبة بوتين، وربما نيته، في استعادة الاتحاد السوفيتي مرة أخرى. ما لا يلاحظه النقاد الغربيون هو أنه من الطبيعي لأغلب المواطنين الروس أن يروا الأمر بهذه الطريقة دون أن يسعوا بالضروروة للعودة إلى أيام الاتحاد السوفيتي.

عندما قال الرئيس بوتين هذا التصريح لأول مرة في عام 2005، فإنه تبعه بشرح قال فيه إنه نتيجة لتفكك الاتحاد السوفيتي “وجد عشرات الملايين من مواطنينا أنفسهم خارج الأرض الروسية، وانتقلت النزعات الانفصالية من جمهوريات الاتحاد السوفيتي إلى داخل روسيا نفسها، وفقد الناس مدخراتهم، وتم تدمير المثل والقيم القديمة، وجرى حل المؤسسات أو إعادة هيكلتها بإهمال شديد، وتعرضنا لهجمات الإرهاب، وأجبرنا على المصالحة مع الإرهابيين الانفصاليين (من الشيشان)، وانتشر الفقر وانهار الاقتصاد”. لا يبدو أن هناك أي مبالغة في تشخيص الرئيس بوتين لما حدث لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، فانهيار الاتحاد السوفيتي الذي يرى فيه الغربيون تحريرا للشعوب الروسية، مثل نقطة البداية لعشرة سنوات من الفساد والخراب الاقتصادي والإرهاب.

من الممكن تفسير الوصف الذي قدمه الرئيس بوتين للوضع في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي على أنه تبرير للرغبة في استعادة الاتحاد السوفيتي، كما يمكن تفسيره باعتباره مجرد تقرير واقعي لما حدث في روسيا بسبب انحلال الاتحاد السوفيتي. شرح بوتين موقفه من هذه القضية في حديث سابق له، فاستخدم المفارقة الشهيرة بين العقل والعاطفة، فقال أن من لا يشعر بالأسى على انهيار الاتحاد السوفيتي ليس له قلب، أما من يرغب في استعادته فهو بلا عقل. كما لو أنه ينفي عن نفسه محاولة استعادة الاتحاد السوفيتي، حتى وهو يرفض استمرار المآسي التي ترتبت على هذا الانهيار.

من المستحيل استعادة الاتحاد السوفيتي السابق. الرئيس بوتين يدرك ذلك جيدا. لكن ماذا عن الاستعادة الجزئية المعدلة للواقع الجيواستراتيجي الذي كان قائما قبل تفكك الاتحاد السوفيتي؟ وهل الرئيس بوتين يسعى وراء نوع من الاستعادة الجزئية المعدلة للعملاق الروسي الذي كان قائما حتى عام 1990؟

لا أسف على الاتحاد السوفيتي

لا يحمل الرئيس بوتين أي تقدير خاص للاتحاد السوفيتي، على العكس فإنه يرى أن القادة السوفييت ارتكبوا أخطاء جسيمة بحق بلاده، وأنهم عرضوا للخطر وأهدروا منجزات إمبراطورية استغرق بناؤها خمسة قرون، حتى ورثها الاتحاد السوفيتي بعد الثورة البلشفية عام 1917. في خطابه في 21 فبراير انتقد بوتين القادة السوفييت بمراراة، لانهم أقاموا الدولة “على مبادئ الحكم الذاتي، وإعطاء سلطات واسعة للجمهوريات والوحدات الإدارية والإقليمية المستقلة، وفقا لأفكار لينين وشعارها الدولة الكونفدرالية وحق الأمم في تقرير المصير بما في ذلك الانفصال”. تساءل فلاديمير بوتين في خطابه “لماذا كان من الضروري تقديم مثل هذه الهدايا السخية التي لم يحلم بها أكثر القوميين حماسة، حتى منح الجمهوريات الحق في الانفصال عن الدولة الموحدة دون أي شروط؟”. لقد فعل البلاشفة ذلك “من أجل البقاء في السلطة بأي ثمن على حساب المصير التاريخي لروسيا وشعوبها”. هكذا تحدث بوتين في خطابه.

يعلم بوتين أن ستالين جاء بعد لينين ليؤسس دولة مركزية استبدادية، وأن الأقاليم والقوميات لم تتمتع بالحكم الذاتي إلا على الورق فقط، غير أن مبادئ ونصوص لينين المسمومة – حسب وصف بوتين – عن الحكم الذاتي وتقرير المصير والانفصال ظلت موجودة في الدستور والقوانين السوفيتية، فبقيت بذور التفكيك كامنة في أسس قيام الدولة السوفيتية، حتى استخدمها الانفصاليون لحظة الانهيار.

لأوكرانيا وضع خاص

لم يتجاوز الرئيس بوتين لحظة تفكك الدولة عام 1991، فهو يقف عند هذه اللحظة ويرجع لها مرارا كلحظة تأسيسية. يتطابق موقف الرئيس بوتين هذا مع الكثيرين في روسيا ممن يصعب عليهم قبول واقع أن بلدهم قد أصبح أصغر مما كان عليه لقرون، فالأمر بالنسبة لهؤلاء أكثر من مجرد خريطة جديدة في كتب الجغرافيا، فالحديث يدور عن مدن وأماكن وبلاد زاروها وعاشوا فيها وحاربوا على أرضها وتعلموا في المدارس أنها جزء من بلدهم.

لم يكن من السهل على كثير من الروس التعامل مع الدول الخارجة من بطن بلدهم كدول كاملة الاستقلال والسيادة، فطورت المؤسسات الأكاديمية والسياسية الروسية مصطلح الخارج القريب near abroad للإشارة إلى أن هذه المناطق ليست أجنبية تماما بالنسبة لروسيا، وأنه سيكون من الصعب على روسيا قبولها كدول مستقلة فعلا، ناهيك عن التسامح مع اختيارها الالتحاق بالغرب.

ينطبق هذا بشكل خاص على أوكرانيا التي تتمتع بمكانة خاصة في السردية القومية للرئيس بوتين. “أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة لنا، فهي جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وفضائنا المعنوي. هؤلاء ليسوا رفاقنا وأقاربنا وزملائنا وأصدقائنا فحسب، بل هم أيضا أقاربنا، تربطنا معهم صلة الدم وروابط عائلية لفترة طويلة….إن أوكرانيا تأسست بالكامل من قبل روسيا حتى من قبل روسيا البلشفية”. هكذا تحدث بوتين في 21 فبراير.

لا يوجد الكثير من المبالغة في كلام الرئيس بوتين هذا، فلأوكرانيا مكانة خاصة لدى الشعب والنخب الروسية، ولو كان من الممكن اختزال الإمبراطورية الروسية ومن بعدها اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية إلى إقليمين فقط، فإن روسيا وأوكرانيا هما هذين الإقليميين. منذ القرن الثامن عشر منح القيص للنبلاء الأوكرانيين نفس الامتيازات التي حصل عليها النبلاء الروس؛ ومن أوكرانيا جاء نيكيتا خروتشيف وليونيد بريجنيف، اثنين ممن تولوا أعلى سلطة في الاتحاد السوفيتي، واللذين مجتمعين قادا الاتحاد السوفيتي لمدة 28 عاما من أصل 74 عاما هل كل عمر الاتحاد السوفيتي.

كان القادة السوفييت كرماء مع أوكرانيا بشكل خاص، فأطلق عليها الرئيس بوتين في حديثه يوم 21 فبراير تعبير “أوكرانيا فلاديمير إيليتش لينين”. أمر لينين بضم الأقاليم الشرقية، المعروفة بدونباس، لأوكرانيا رغم أن أغلب سكانها من الروس. بعد الحرب العالمية الثانية أضاف جوزيف ستالين أراض انتزعها الاتحاد السوفيتي من بولندا والمجر إلى أوكرانيا، ليقرر نيكيتا خروتشيف عام 1954 نقل تبعية شبه جزيرة القرم من روسيا إلى أوكرانيا.

لقد حكم الاتحاد السوفيتي بقادة من الأقليات القومية، خاصة الأوكرانيين، أكثر مما حكمه قادة من الروس، وربما لهذا لا يحمل الرئيس بوتين مشاعر طيبة للاتحاد السوفيتي. عاش الاتحاد السوفيتي 74 عاما بين قيام الثورة الشيوعية وتفكك الاتحاد، وفي أغلب هذه السنوات قاد البلاد حكاما من الأقليات لفترة لا تقل عن 57 عاما. أطول فترة حكم قضاها زعيم سوفيتي – 29 عاما – كانت لجوزيف ستالين القادم من جورجيا. بعده جاء نيكيتا خروتشيف القادم من أوكرانيا، والذي حكم البلاد لعشر سنوات، وفي عهده تم نقل تبعية شبه جزيرة القرم من روسيا لأوكرانيا. تلى خروتشيف في الحكم أوكراني آخر هو ليونيد بريجنيف الذي قاد الاتحاد السوفيتي لمدة ثمانية عشر عاما، كان الجمود الذي سيطر على الدولة الشيوعية خلالها سببا رئيسيا في انهيار الاتحاد السوفيتي. القائد الأخير للاتحاد السوفيتي هو ميخائيل جوربتشيف، والذي قاد البلاد ست سنوات بين عامي 1985 و 1991، انتهت بتفكك الاتحاد السوفيتي. ولد جوربتشيف في مدينة ستافروبول الروسية لأسرة أوكرانية، ولنا أن نعتبره روسيا أو أوكرانيا أو كلا الأمرين معا.

بسبب هذا “الكرم” والتاريخ الطويل من العلاقات بين روسيا وأوكرانيا، يشعر الروس بالخيانة وبطعنة في الظهر بسبب سياسات أوكرانيا التي تسعى للانسلاخ عن الفضاء الروسي، والاندماج في الغرب، عبر سعيها للانضمام إلى حلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي. خطاب الرئيس بوتين يوم الحادي والعشرين من يناير ينضح بالمرارة تجاه الجحود الأوكراني، وهو محمل بشحنة عاطفية سلبية قوية كافية لتشويش قدرة العقل الاستراتيجي الروسي على التفكير بصفاء، وهو ما يمكن أن نلمح آثاره في التحركات الروسية الأخيرة.

ثوابت ومؤامرات وتهديد

يتعامل الرئيس بوتين بسخرية وعدم تصديق مع الخطاب والسردية الغربية، فكل هذا الكلام عن حقوق الإنسان والديمقراطية هو بالنسبة للرئيس الروسي مجرد غطاء كاذب يقصد به التلاعب بالعقول، وتوفير الذرائع، من أجل الوصول إلى الغاية الحقيقية، وهي فرض السيطرة على الدول الأخرى.

بالنسبة للرئيس الروسي فإن شيئا لم يتغير في العالم منذ أيام الحروب النابليونية وحروب التوسع الاستعماري وحروب الهيمنة الكبرى الأولى والثانية، فالدولة هي الدولة، وهدفها الأسمى هو العلو والعظمة والسيطرة، أما الكلام عن الحقوق والحريات والديمقراطية فهو كلام يقوله القادة، لكن أحدا منهم لا يعنيه، وهم فقط يوظفونه من أجل تحقيق أهداف أخرى مسجلة في أجندات غير معلنة.

يوجد الكثير من الثوابت والقليل من المتغيرات في رؤية الرئيس بوتين. لقد تشكلت إمبراطورية روسيا الكبرى قبل قرون، وهذا من ثوابت الجغرافيا والسياسة والاستراتيجية. الدول وعلاقات التنافس والعداء بينها هو أيضا من ثوابت رؤية الرئيس بوتين، وهي رؤية لا تفسح مجالا كبيرا للشعوب والرأي العام وتغير القيم والتفضيلات والانحيازات.

نزع الرئيس بوتين الشرعية عن التغييرات والثورات التي حدثت في أوكرانيا، فما حدث في عام 2014 هو انقلاب الميدان، الذي تم بدعم مباشر من دول أجنبية، “فالدعم المالي الذي قدمته السفارة الأمركية لما يسمى بمعكسر الاحتجاجات في ميدان الاستقلال في كييف بلغ مليون دولار يوميا”، وأصبح البلد تحت السيطرة الأمريكية، فيما يتزايد الوجود العسكري الغربي في أوكرانيا تحت مسميات مختلفة، كل هذا لأنهم “لا يريدون وجود دولة كبيرة مثل روسيا، وهذا هو مصدر السياسة الأمريكية التقليدية إزاء روسيا”.

قد يكون الكثير من هذا الكلام مجرد أوهام أو دعاية لتشويه الخصوم، إلا أنه من الصعب إنكار جدية شعور روسيا بالتهديد بسبب توسع حلف الناتو المستمر شرقا، وبسبب تجاهل الغرب وعوده السابقة بالامتناع عن توسع الحلف في الجمهوريات السوفيتية السابقة، وبسبب ترشيح أوكرانيا لعضوية الناتو. هذا هو الجزء الأكثر صلابة وتماسكا وموضوعية في خطاب الرئيس بوتين، وهو الحقيقة الأكيدة التي ينبني عليها الكثير من الأوهام والمخاوف والتحيزات والأساطير. لقد تعامل الغرب بعدم اكتراث مع مخاوف روسيا الأمنية المشروعة، فأطلق العنان لمخاوف وأساطير قادمة من الماضي السحيق.