1946 مرة أخرى
انتهى الجزء السابق من هذا المقال بخروج عن النص كان واجبًا لإيضاحٍ يتعلق بِوَضعِ السودان في مشروع “صدقي-بيفن”، لأعود هنا موضِحًا أثر هذا المشروع على الواقع المصري والذي كان سببًا أساسيا في اندلاع التظاهرات التي وُلِدَت من رحمها “اللجنة الوطنية للطلبة والعمال” والتي اعتبر “الأستاذ” تاريخ إنشائها علامة فارقة بين حقبتين ثقافيتين بأثرٍ من ارتباط الخطاب الثقافي بانكشاف التركيبة السياسية الاجتماعية حين انزوت النُخَب التى تمثلها.
احتوى مشروع “صدقي-بيفن” في مادتيه الثانية والثالثة على ما يشير إلى عودة القوات البريطانية إلى مصر في حال تعرضت الأخيرة لعدوان مسلح، وتكوين لجنة دفاع مشتركة من السلطات الحربية المختصة لدى الحكومتين، وأن يعاونها من ترى الحكومتان ضمه إليها من المندوبين، وهو الأمر الذي يعكس “صورية” الاتفاق حيث لا استقلال حقيقي به لتندلع الاحتجاجات الرافضة لهذا العبث.
تمكن صدقي باشا من القضاء على “اللجنة الوطنية للطلبة والعمال” كهيكل تنظيمي” لكنه لم يستطع القضاء على المد الثوري المتصاعد الذى أججت نارهُ نتائج حرب فلسطين ليُسقِط الشعب أحزاب الأقلية ويعود بحزب الوفد الذي ألغى معاهدة 1936 وشرع في تنظيم كفاح مسلح ولكن حدث حريق القاهرة في يناير 1952 ثم حراك الجيش في يوليو من نفس العام.
في مجال عرضه للحالة الثقافية وقد اختص الشعر بها في مقاله المُبدع بعنوان “الشعر المصري الحديث”، كان “الأستاذ” يرى أن المرحلة منذ بداية القرن العشرين وحتى العام 1946 قد أنتجت ثلاثة تيارات شعرية:
تيار مرتبط بالنظام السياسي القائم اقتصاديًا واجتماعيًا يروج للاستقلال من ملعب النظام، فهو تيار وطني -لا شك- لكنه لم يكن يحرض على أي تغيير اجتماعي، ومَثَلَه حافظ وشوقي ومطران الذين كانوا متمسكين فنيا بالصياغة التقليدية إلا أنهم تمكنوا من تطوير قيمها في حدود اللفظ والمعنى فقط بينما احتفظوا بالقيم الشكلية القديمة مع استحداث تغيرات جانبية. هو إذن تيار يعكس في أعماله أفراح وأحزان ومشاعر وأحاسيس الطبقة العليا من بورجوازية وإقطاع بصورة تعكس فلسفتها السياسية والاجتماعية. كان تيارًا “تقريريًا”.
تيار من الفئة الصغيرة من الطبقة الوسطى، ومَثَلَه المازني والعقاد، وهم ثائرون ساخطون قلقون بدرجة ما، لكنهم مترددون وتقليديون في نفس الوقت حيث استخدموا نفس أدوات التيار الأول في الصياغة وإن تميزوا بأنهم حاولوا التخلص من التعبير عن القضايا العامة كما كان الحال بالتيار الأول إلى التجارب الذاتية. كان “للأستاذ” نقد متميز لأصحاب هذا التيار وكان العقاد على رأسهم. كان تيارًا “تحليليًا”.
تيار شَكَلَ امتدادًا للتيار الثاني ومَثَلَه أبوشادي وناجي وعلي محمود طه، حيث كان أصحابه يمارسون التجارب الذاتية، لكن الأمر انتهى بهم إلى الانفصال عن قضايا المجتمع، فغرقوا في قضاياهم الخاصة فاندفعوا “إلى سياحاتهم الخاصة داخل ذواتهم المنفردة المنعزلة، وامتلأت أشعارهم بالتهويل والرؤى والأشباح وتشنجت بالموسيقى المفرغة من الدلالات” حسب تعبير الأستاذ. كان تيارًا انعزاليًا”.
كان هذا هو حال الشعر إلى أن حل العام 1946 المُزَلزِل ليتطور حال الحركة الثقافية بمفهومها الواسع على وقع أعمال المقاومة والكفاح من ناحية، والتوق للديمقراطية من ناحية أخرى، والحلم بتغيير اجتماعي من ناحية ثالثة فأخذ الشعر -على سبيل المثال- اتجاهًا حديثًا في كل من “المضمون” و”الصياغة” حيث لم يعد مرتبطًا بطبقة اجتماعية يقوم بتسليتها أو يحلق بها بعيدًا فيما وراء الغمام والبحار حسب تعبير “الأستاذ” لكنه صار يطرح قضايا مختلفة بمفردات مختلفة على خلفية رؤى اجتماعية ارتبط بها فلم يَعُد يقدم القضايا العامة بصورة “تقريرية” بل صار يتمثل القضايا العامة من خلال تجارب ذاتية فخَلَص القضايا العامة من الجمود والتقريرية و-في نفس الوقت- خَلَص التجربة الذاتية من الخصوصية والانعزال كما بَيَّن “الأستاذ” حين ضرب على ذلك مثلا بعبد الرحمن الشرقاوي في خطابه إلى ترومان، وكمال عبد الحليم على لسان طفل لم يولد، وأحمد كمال زكي عن قضية استشهاد الفلاحة “أم صابر” في معارك القنال.
كانت معركة “الصياغة والمضمون” قد بدأت حين نشر الدكتور “طه حسين” مقالًا بعنوان “صورة الأدب ومادته” معتبرًا أن اللغة هي “صورة” الأدب وأن المعاني هي “مادته”، فكان نقد “الأستاذ” وشريكه أنهما يفضلان استخدام “الصياغة والمضمون” بديلًا عن “الصورة والمعنى” لتُفتَح بعد هذا النقد أبواب الجحيم بمعركة فكرية استمرت أسابيع بينهما وبين كل من الدكتور “طه حسين” والأستاذ “محمود عباس العقاد” حين عَقَب الدكتور “طه حسين” عليهما بأن مقالهما “يوناني لا يُقرأ”، وقال الأستاذ “العقاد”: “أنا لا أناقشها، لكني أضبطهما، إنهما شيوعيان”! (سأفرد الجزء القادم والأخير من هذا المقال بالكامل للمعركة الشيقة بالغة الحدة والثراء في آن “بين الأستاذ” والعقاد).
للحديث بقية، إن كان في العمر بقية.