حدد خبير المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية، فلاديمير ايفسييف مستويان للأهداف الروسية من الحرب على أوكرانيا، الأول هو هدف «الحد الأدنى» من المهمة ويتركز في فصل أوكرانيا عن مناطق «روسيا الجديدة» التي ينطق أغلب سكانها الروسية، ضمن هذه المناطق، تقع دونيتسك ولوجانسك وخرسون ونيكولاييف وأوديسا وزابوروجي ودنيبر وبتروفسك وخاركوف.. في هذه الحالة، تفقد أوكرانيا عمليا إمكاناتها الصناعية وجزءا كبيرا من السكان.
عمليا سيؤدي تحقيق هذا الهدف إلى إنشاء منطقة عازلة، من شأنها أن تبعد «الناتو» عن روسيا، لكن هذا السيناريو لن يسمح بنزع السلاح في أوكرانيا بأكملها، وفقا لايفسييف، الذي يرى أن كييف سوف تغدو أقل خطورة بكثير بالنسبة إلى روسيا، لكن التهديد الناتج عنها سوف يعود إلى الازدياد تدريجيا.
أما الحد الأعلى، أو المهمة القصوى، للعملية العسكرية كما يراه ايفسييف فهو يشمل السيطرة على كل أوكرانيا، ومن المحتمل تماما أن يتم تقسيم البلاد إلى نوفوروسيا (روسيا الجديدة)، التي تتكامل بشكل كبير مع الاتحاد الروسي، وباقي مناطق أوكرانيا، التي من المرجح أن تخضع لنظام حكم موالي لموسكو.
أهداف موسكو التي تحدث عنها الخبير العسكري الروسي، تبقى حتى هذه اللحظة مجرد توقعات لا يمكن التنبؤ بتحقيقها في المدى المنظور، فالقوات الروسية لم تتمكن حتى تاريخه من تحقيق أهدافها المعلنة على الأرض رغم تفوقها العددي والعتادي، غير أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تمكن بلغة كرة القدم من «إحراز هدف في فريقه»، حيث دفع ألمانيا إلى تحقيق ما فشل حلفاؤها الأمريكان في محاولة إقناعها به لسنوات طويلة دون نجاح.
فبعد ثلاثة عقود من انهيار جدار برلين الذي بناه الاتحاد السوفيتي، انعكس الغزو الروسي لأوكرانيا على استراتيجيات ألمانيا التي طالما اعتمدت على الدبلوماسية والحوار بدلا من القوة العسكرية.
في جلسة للبوندستاج تم تخصيصها لبحث موقف ألمانيا من الحرب في أوكرانيا قبل يومين، أعلن المستشار الألماني، أولاف شولتز عن أن بلاده ستقدم أسلحة لأوكرانيا، وذلك في تحول كبير في السياسة الخارجية لبرلين التي كانت ترفض تقديم أسلحة لأي طرف في مناطق الصراعات.
وأضاف شولتز ف كلمته أمام برلمان بلاده إن الهجوم الروسي على أوكرانيا مثّل نقطة تحول في تاريخ القارة الأوروبية «بوتين باعتدائه على أوكرانيا لا يحاول فقط تدمير الحرية والديمقراطية فيها، وإنما أيضا تدمير نظام الأمن القائم في أوروبا منذ قرابة خمسين عاما».
موقف أوروبا غير الحازم والموحد من كثير من القضايا الإقليمية والدولية وعلى رأسها العلاقات مع روسيا، أغرى بوتين باتخاذ قراره بغزو أوكرانيا، دون التفكير لعواقب وانعكاسات هذا القرار على دول القارة العجوز الذين شعروا بأن النار اقتربت من أقدامهم، ولا يجوز أن ترهن أوروبا أمنها على مظلة الحليف الأمريكي الذي قد تتعارض مصالحه وسياسات إدارته العسكرية والاقتصادية مع الأمن القومي الأوربي.
شولتز اعتبر في كلمته أن العالم بات على أعتاب «حقبة جديدة» بعد الغزو الروسي، مشيرا إلى أن السؤال هو إن كان لدى الحلفاء الغربيين ما يكفي من القوة لوضع حد لدعاة الحرب مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين؟
جيك سولفيان مستشار الأمن القومي للرئيس الأمريكي جو بايدن قال مؤخرا: «نحن نملك 50% زيادة على الناتج العالمي»، مقارنا ذلك بحصة روسيا غير المبهرة والبالغة 3% فقط من الناتج الاقتصادي العالمي، غير أن الاقتصاديات لا تخوض الحروب، لكن تقودها الجيوش، بحسب تعبير كريس ميلر الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية.
ميلر أضاف في مقاله المنشور أمس: لقد اختُبرت قوة أمريكا الاقتصادية عندما هدد بايدن بفرض عقوبات صارمة إذا أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا، ولقد فعل بوتين ذلك على أي حال، مراهنا بأن القوة الصارمة سوف تكون المسيطرة.
وأشار ميلر إلى أن ترك التوازن العسكري في أوروبا يتحول لصالح روسيا كان خيارا، «الواقع أن الولايات المتحدة تتحمل جزءا من اللوم على هذا.. وهناك المزيد الذي يتعين على الحلفاء الأوروبيين أن يتحملوا المسؤولية عنه، والإفاقة من وهم أن السلام حق مكتسب.. لقد كانوا يملكون قوة قتالية كبيرة، وقد حان الوقت لإعادة بناء هذه القدرات».
ويختم ميلر مقاله «لماذا تخوض روسيا الحرب مجددا» بقوله: كان من الشائع في الماضي السخرية من الرئيس الروسي بسبب نظرته إلى العالم الراهن كما لو أنه في القرن الـ19، لكن استخدامه القوة العسكرية لتعزيز نفوذ روسيا نجح أيضا في القرن الـ21.. إن افتراض الغرب أن قوس التاريخ ينحني في اتجاهه بشكل طبيعي يبدو ساذجا. وينسحب نفس القول على القرار بالسماح للميزة العسكرية بالانفلات. صحيح أن القوة الناعمة والنفوذ الاقتصادي يشكّلان قدرات جيدة لاكتسابها، ولكنها لا تستطيع وقف المدرعات الروسية في طريقها إلى كييف.
المستشار الألماني، خاطب نواب برلمانه في الجلسة المشار إليها قائلا: إن القوة الاقتصادية لأوروبا ستضاعف إنفاقها العسكري وستشتري مقاتلات أميريكية الصنع للمرة الأولى منذ عقود تتمثل في جوهرة التاج (F-35)، وستخلق احتياطيات طاقة استراتيجية للابتعاد عن إمدادات الطاقة الروسية.
كانت ألمانيا تقاوم منذ مدة طويلة الدعوات من جانب الولايات المتحدة ودول أخرى لزيادة إنفاقها العسكري ليصل إلى ما نسبته 2 % من ناتجها الاقتصادي، وذلك في ضوء تاريخها الدموي في القرن العشرين والميل القوي للسلام لدى مواطنيها نتيجة لذلك.
ويرى شولتز أن ألمانيا تحتاج إلى قدرات عسكرية جديدة، «بوتين يريد إمبراطورية روسية، ويريد أن يفرض سيطرته على أوروبا بحسب رؤيته للعالم.. علينا أن نحمي حريتنا وديمقراطيتنا. وهذا سيحتاج إلى عمل قوي على الصعيد الوطني». قال المستشار الألماني معلنا أن بلاده ستستثمر مئة مليار يورو في المعدات العسكرية هذا العام وستخصص أكثر من 2 بالمائة من إجمالي ناتجها الداخلي للدفاع سنويا.
وكانت حكومة شولتز المكونة من أحزاب الاشتراكي الديمقراطي والخضر والديمقراطي الحر، ترفض رفع ميزانية الدفاع، لكن المستشار تحدث في خطابه عن «نقطة تحول بدأت مع الغزو الروسي لأوكرانيا».
وتابع شولتز: سنؤسس صندوقا خاصا للجيش الألماني لاستخدامه للاستثمارات في مجال الدفاع، بعدما دفع غزو روسيا لأوكرانيا أكبر قوة اقتصادية في أوروبا إلى تغيير سياستها العسكرية، مشيرا إلى ضرورة إدراج الصندوق الخاص للجيش في الدستور.
وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر أشار إلى أن الوقت قد حان لإحداث نقطة تحول في الاستثمار الدفاعي الألماني الذي طالما كان هدفا لانتقادات الحلفاء الغربيين، «أخشى أننا أهملنا القوات المسلحة كثيرا في الماضي الى درجة أنها لم تعد قادرة على أداء واجباتها كما ينبغي..تراجع الإنفاق الدفاعي لم يعد يتناسب مع زماننا».
قرارت شولتز الأخيرة جاءت بعد انتقادات لاذعة من ساسة وعسكريين سابقين للسياسة الألمانية التي جعلت من أكبر دولة اقتصادية أوروبية أضحوكة، فوزيرة الدفاع السابقة في عهد أنجيلا ميركل أنجريت كرامب-كارينباور اعترفت بعد ساعات من بدء الحرب الروسية على أوكرانيا بفشل تاريخي لبرلين في تعزيز نفسها عسكريا.
لحقت تصريحات كرامب الغاضبة على حسابها بـ«تويتر» تصريحات مماثلة لقائد الجيش البري الألماني ألفونس مايس الذي قال إن «الخيارات التي يمكننا تقديمها للسياسيين لدعم حلف شمال الأطلسي محدودة للغاية»، معترفا بأن الجيش الألماني «عارٍ بصورة أو بأخرى»، معتبرا أن الوقت حان لتعزيز الجيش، وإلا «لن نكون قادرين على تنفيذ مهماتنا الدستورية أو التزاماتنا تجاه حلفائنا».
أما إريك فاد، العميد المتقاعد الذي كان مستشارا للسياسة العسكرية للمستشارة السابقة ميركل، فطالب قادة بلاده بتغيير طريقة تفكيرهم لمواءمة قدرات قتالية أكثر فاعلية مع إرادة سياسية قوية، «إنفاق روسيا أعلى بنسبة بسيطة من الإنفاق الألماني، ومع ذلك فإن جيشنا أضحوكة وجيشهم يهدد العالم».
كان الحلفاء قد سمحوا لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية بإعادة تسليح نفسها مجددا عام 1955، وذلك بعد مرور نحو 10 سنوات على إعلانها الاستسلام غير المشروط وتوقيعها على وثيقة الهدنة التي بموجبها انتهت الحرب.
واشتركت ألمانيا في أول مهمة عسكرية دولية منذ الحرب العالمية الثانية، عام 1993 حينما منحت الحكومة الاتحادية تفويضا للجيش الألماني للمشاركة في مهام قوات الناتو في يوغسلافيا السابقة.
ويقدر عدد قوات الجيش الألماني بحوالي 185 ألف فرد دون الاحتياط، وينقسم إلى 5 فرق قتالية، وبحسب تصنيف «جلوبال فاير باور» لأقوى جيوش العالم، يحتل الجيش الألماني المرتبة 16 بين 140 جيشا ضمهم التصنيف. ويمتلك الجيش الألماني 617 طائرة متعددة المهام، و266 دبابة و9 آلاف و217 مدرعة، ويتكون أسطوله الحربي من 80 وحدة بحرية.
صحيفة «وول ستريت جورنال» اعتبرت أن القرارت الألمانية الأخيرة الخاصة بإعادة بناء القدرات العسكرية تمثل «لحظة فاصلة لأكبر دولة في أوروبا الغربية وتظهر كيف أن غزو أوكرانيا شكل صدمة قوية في جميع أنحاء القارة».
وذكرت الصحيفة الأميريكية أن الإجراءات الألمانية الجديدة بعكس سياستها الخارجية السابقة تؤكد مدى تأثير هجوم روسيا على أوكرانيا على السياسة الأوروبية.
القرارات الأخيرة لم تكن سوى رد فعل حتمي على التحركات الروسية التي اعتبرها الساسة الألمان تمثل خطرا على مستقبل القارة التي يؤمن كثيرا منهم بأنهم الأولى بقيادتها في حال عززت من قدرتها العسكرية.
اندفاع هتلر أوروبا الجديد إلى غزو جيرانه إثر استفزاز دول الناتو له غير قواعد اللعبة في القارة العجوز ودفاع جيرانه إلى إعادة ترتيب أوراقهم، الأمر لن يتوقف عند قرار ألمانيا بإعادة تعزيز قدراتها العسكرية، فالسويد تخلت عن عقيدتها المحايدة وقررت دعم أوكرانيا، فيما أعلنت تركيا أمس عن إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية تطبيقا لاتفاقية مونترو، وهو ما يعني أن دول الاتحاد الأوروبي الذي تكلس بفعل الخلافات والمصالح المتعارضة لن تقف موقف المتفرج أمام زحف الخطر الروسي.
قبل 100 عام شعر أدولف هتلر بفائض قوة ودفعه جنونه وعدم قدرة أحد في ألمانيا على مراجعته أو نقده إلى اتخاذ قرار بإخضاع أوروبا، وانتهت التجربة بهزيمة دولة الرايخ الثالث وانتحار زعيمها الفوهرر، بعدما قضى في الحرب العاليمة الثانية نحو 50 مليون قتيل ودُمرت مئات المدن حول العالم، فإلى أي طريق يجر بوتين أوروبا والعالم خلفه؟