في أعقاب إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قرار الحرب على أوكرانيا، قال وزير الخارجية الصيني وانج يي إن بلاده “تحترم سيادة أوكرانيا وتتفهم المخاوف الأمنية الروسية“.. هكذا يمكن ببساطة تلخيص الموقف الصيني من الأزمة، وفيه -على عكس ما قد يتصوره البعض- محاولة الموازنة بين الطرفين. ويجسده دعوة الرئيس الصيني شي جين بينج للتفاوض.

تتفق الصين مع روسيا في الخط العريض المتعلق بإقامة نظام عالمي جديد يقوم على تعددية الأقطاب، ولها في الحرب على أوكرانيا مصلحةً استراتيجية وانتظارًا لما تؤول إليه نتائجها التي قد تحدد طريقة تحركها مستقبلا.

لكنها في ذات الوقت تتخوف من أن إظهار أي دعم علني للموقف الروسي قد يضر بمصالحها الاقتصادية مع الغرب، التي تنظر إليها كخيار تكتيكي أول في الوقت الحالي. ذلك حفاظا على استقرار سوقها الاقتصادية، وعدم ذبذبة السوق المتقلب بالأساس.

ورغم توقيع الرئيسين، الروسي والصيني، على إعلان مشترك طويل حول ما سمي “دخول الشؤون الدولية في عصر جديد”، والذي قدما فيه نفسيهما “كزعيمين لعالم ما بعد عالم الغرب”، إلا أنه يمكن وصف العلاقة بينهما على أنها “شراكة وثيقة” أو تقارب غير مسبوق” وليس تحالفًا.

ففي الوقت الذي تنظر فيه الصين إلى الولايات المتحدة كعدو فإنها لا تنظر إلى روسيا كصديق. وذلك لأسباب تاريخية أثار فيها الاتحاد السوفييتي القلاقل على ما اعتبرته أراضيها ودعم النزعات الانفصالية في أقاليم عدة منها “شينجيانج” أو “تركستان الشرقية”. حيث موطن عرقية الإيغور، التي تُتهم الصين بممارسة “التطهير العرقي” تجاههم في الأعوام الماضية.

“حتى في ذروة الأخوة الشيوعية، كان للجانبين نزاعات إقليمية وأيديولوجية طويلة الأمد. واستاءت بكين من موقفها كشريك صغير لموسكو” تعلق صحيفة “نيويوركر”. ويتفق معها تحليل في “فورين بوليسي”. يقول: “يعتقد قادة الصين أن الحقيقة الدائمة الوحيدة حول علاقة بلادهم مع القوى العظمى الأخرى هي التنافس. وهذه الحقيقة تنطبق على الولايات المتحدة ولكنها تنطبق على روسيا أيضا”.

كذلك تنظر إليها روسيا بتوجس. إذ تخشى من أي تحالف معها قد يجعلها الطرف الأصغر والأضعف، فلا مقارنة بين قوتيهما الاقتصادية. وبتعبير الصحيفة الأمريكية “الاقتصاد الروسي، الذي تقدر قيمته بـ1.7 تريليون دولار، بالكاد أكبر من اقتصاد ولاية نيويورك”.

أضف إلى ذلك أن الخطاب الدولي العام لجمهورية الصين الشعبية، ينادي بعدم التدخل في شؤون الدول والحفاظ على وحدة واستقلال أراضيها. وهو يتناغم مع إدعاءاتها أن بكين أو “تايبيه” -كما تسميها- هي جزءا من أراضيها. وهو النقيض -ظاهريا- من الموقف الروسي في أوكرانيا، الذي يدعّم النزعات الانفصالية في الشرق. خطاب تتعامل معه الصين بحذر؛ خوفا من إثارة تلك النزعات في أراضيها، بعدما كافحت لقمعها.

أما على صعيد المصالح التكتيكية من الحرب فينشأ عنها ربما تخفيفا من الضغط والتركيز الأمريكي على صعودها ومحاولة تطويقها في المحيطين الهندي والهادئ، ومكاسب اقتصادية على صعيد الطاقة، التي قد توجهها روسيا إلى الصين حال فرض العقوبات الغربية الموسعة.

الخطوط العريضة للتعاون.. وتعقيداتها

تقول مجلة “فورين أفيرز” إن التعزيزات البحرية المحطمة للأرقام القياسية لبكين، والعدوان المتواصل لموسكو ضد “الجيران العصاة”، وجهودهما لإحداث تغيير جذري في التوازن العسكري في مناطق رئيسية مثل أوروبا الشرقية وشرق آسيا، تُظهر أن القوة الصارمة لم تتلاشى.

كلا البلدين يستخدمان أيضًا “أساليب أكثر حداثة” لإضعاف منافسيهم ونشر نفوذهما: الهجمات الإلكترونية الروسية وحملات التضليل الرقمي الصينية، وجهود السيطرة على شبكات الجيل الخامس في العالم ، وغيرها من الإجراءات غير العسكرية التي توسع نطاقهما العالمي.

وبحسب ما تنقل المجلة الأمريكية فقد ورد “تبادل النصائح حول كيفية إدارة الإنترنت والسيطرة على المعارضة في الداخل. وعملوا أيضًا، من خلال منظمة شنجهاي للتعاون، على تحصين أصدقائهم الديكتاتوريين في آسيا الوسطى”. وتضيف أن العلاقات الثنائية التجارية والمالية والطاقة توسعت، وقدما لبعضهما دعمًا دبلوماسيًا مهمًا، وإن كان ضمنيًا أحيانا، في مجلس الأمن.

يبدو أن كل من بكين وموسكو قد تعلما درسًا حيويًا من الهزيمة السوفيتية في الحرب الباردة: وضع استراتيجية فقيرة للتنافس مع واشنطن على جبهة مع استعداء عدو ثان على جبهة أخرى. “وهكذا، قررت الصين وروسيا الوقوف ’ ظهرًا لظهر‘ على طول حدودهما المشتركة في منطقة أوراسيا”، بحسب ما يشير التحليل.

لكن شراكتهما تعاني كذلك من قيود حقيقية. فمن غير المرجح أن تأتي الصين وروسيا للدفاع عن بعضهما في نزاع مع الولايات متحدة. ذلك على الرغم من أنهما قد يسعيان إلى طرق خفية -مثل تبادل المعلومات الاستخباراتية أو وضع القوات بشكل خطير- لمنع الأخيرة من هزيمة أحدهما بشكل حاسم ومن ثم الهجوم على الخصم الآخر.

وتلفت فورين أفيرز إلى تعقيد آخر في آسيا الوسطى، حيث “لا يمكن أن يكون كلا البلدين متفوقًا في وقت واحد”، وفي إفريقيا “حيث تولد موسكو حالة من عدم الاستقرار التي بالكاد تحسن احتمالات سداد القروض الصينية”.

في نهاية المطاف، قد يكون تضارب المصالح بشكل عام حادًا “لأن روسيا لن تستمتع بالعيش في العالم الذي يتصوره شي (..) إلا أن التوترات الصينية الروسية ليست حادة بما يكفي لإحداث نوع الانقسام الذي حدث في أواخر الستينيات”.

فوائد محتملة

بعد أن غزت روسيا أوكرانيا وتعرضت لعقوبات من الغرب، فإن الصين لن تسعى لخرق واسع للعقوبات المفروضة. إذ أنها ليست حريصة على إغضاب النظام المالي الغربي. وتعد الصين الشريك التجاري الأول لأوكرانيا، وترغب في الحفاظ على علاقات جيدة مع كييف. “ولكن قد يكون من الصعب تحقيق ذلك عندما يكون من الواضح أنها متحالفة بشكل وثيق مع الحكومة التي ترسل قواتها إلى الأراضي الأوكرانية” بحسب “بي بي سي”.

يذكر “مجلس العلاقات الخارجية” في نيويورك أن الصين قوة تصنيعية لكنها فقيرة بالموارد. لذا فهي بحاجة إلى الطاقة الروسية. بينما تمتلك روسيا احتياطيات هائلة من الطاقة ولكنها بحاجة إلى الاستثمار والمساعدة في توسيع قاعدتها الاقتصادية. وكانت الصين أيضًا مشترًا رئيسيًا للأسلحة الروسية المتقدمة.

إلا أن الصين تدرك حدود دعمها الحالي لروسيا في الأزمة الأوكرانية. إذ أن الدعم العلني “سيضر بشكل خطير بعلاقاتها المتوترة بالفعل مع الديمقراطيات الثرية التي تعد شريكاتها التجارية الرئيسية، مثل الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي واليابان”.

لكنها يمكن أن تصبح بسهولة المشتري طويل الأجل للغاز والموارد الأخرى التي لا تستطيع روسيا بيعها للدول الغربية، بحسب المركز المعني بتحليل سياسة الولايات المتحدة الخارجية والوضع السياسي العالمي. كما أعلنت بكين أنها ستخفف القيود على واردات الحبوب الروسية.

“بشكل عام، لن يحدث تغيير تدفق الموارد بين عشية وضحاها. يستغرق إنشاء خطوط الأنابيب سنوات عديدة. لذلك لا يمكن للصين التدخل فجأة لشراء السلع الخاضعة للعقوبات، مثل الغاز الطبيعي الذي كان سينقله خط أنابيب نورد ستريم 2. لكن في السنوات المقبلة، يمكن للصين أن تعوض العقوبات عن طريق أن تصبح مشترًا للموارد الروسية بدون طرح أسئلة”.

وعلى جانب آخر، فهناك فائدة أخرى صينية. يقول يون سون، مدير برنامج الصين في مركز ستيمسون لصحيفة “بوليتيكو”: “عندما تنظر الصين إلى أوكرانيا، فإنها تفكر في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، لذا فإن ما يفعله (بوتين) هو تشتيت مفيد للغاية للضغط الاستراتيجي الأمريكي على الصين في المحيط الهادئ، لا سيما بالنظر إلى أن الولايات المتحدة قد أعلنت للتو عن استراتيجيتها في المحيطين الهندي والهادئ”.

وأضاف سون “يُنظر إلى الصين الآن على أنها أكبر مشكلة [استراتيجية] للولايات المتحدة، والصين في أمس الحاجة إما لتخفيف الضغط الاستراتيجي الذي يمكن أن تمارسه الولايات المتحدة… أو إيجاد المزيد من النفوذ الاستراتيجي لموازنة [ذلك]”.

تايوان في الصورة

ترى صحيفة “نيويوركر” أن الخطر الأكثر إلحاحًا هو أن الصين سترى مشروع بوتين كخطوة نحو تطبيع تكتيكات الضغط الأكثر عدوانية، بما في ذلك ما يُسمى “الحرب الإدراكية”: مزيج من المعلومات المضللة والتدخل السياسي والتحريض الذي يهدف إلى إثارة الانقسامات الداخلية المفتوحة في تايوان وجعل شعبها يائسًا من ضعفهم.

قالت وزارة الخارجية الصينية إن أوكرانيا وتايوان “ليسا نفس الشيء”. بينما تعتبر الصين تايوان جزءًا لا يتجزأ من أراضيها، فإنها تعتبر أوكرانيا دولة ذات سيادة كاملة. لكن على مستوى أعمق، فإن “المنطق مشابه”، وفقا لمجلس العلاقات الخارجية.

تنحدر الصين وروسيا من نسل إمبراطوريات قارية كبيرة ومتعددة الأعراق. وشهد القرن العشرين خسارة الصين لمنغوليا وتايوان في أعقاب انهيار أسرة تشينج. وبينما لم تعد الصين تطالب بمنغوليا، إلا أنها ما زالت تطالب بتايوان ولم تستبعد الاستيلاء عليها بالقوة.

أما روسيا فكان أدائها أسوأ فقد خسرت معظم آسيا الوسطى عندما انهار الاتحاد السوفيتي في عام 1991. فضلاً عن مناطق في أوروبا، بما في ذلك دول البلطيق وأجزاء كثيرة من القوقاز وبيلاروسيا وأوكرانيا.

يقول مجلس العلاقات الخارجية: “يبدو أن روسيا قد تخلت عن استعادة آسيا الوسطى (ربما قانعة من وجود رجال أقوياء مخلصين يديرون تلك البلدان). لكنها تريد بوضوح عودة أجزاء من أراضيها الأوروبية. ويمكن للقوميين في الصين أن يتعاطفوا بوضوح مع وضع روسيا”.

لذا، إن تمكنت روسيا من انتزاع أجزاء من أوكرانيا أو تثبيت “نظام دمية” وتحمل العقوبات الاقتصادية، فقد يشجع ذلك القوميين في الصين على التطلع إلى تايوان والاعتقاد بأن بإمكانهم فعل الشيء نفسه.

تجادل “فورين أفيرز” بأنه إذا أرادت الولايات المتحدة أن تعزز إعادة توجيه استراتيجي نهائي في موسكو، فعليها أولاً أن تثبت أن سياسة بوتين في التحالف مع بكين لا تعمل “مما يعني عدم شن حرب واحدة بل حربين باردتين على طول الطريق”.

في الوقت الحالي، لن تتحرك الصين مع روسيا ضد الغرب وستنأى بنفسها عن العدوان الروسي تجاه أوكرانيا، حيث تأمل في “مد غصن الزيتون إلى أوروبا الذي يمكن أن يعطل الجبهة الموحدة بين الولايات المتحدة وأوروبا، والتي تعمل على زيادة الضغط على الصين” بحسب ما توضح صحيفة “ذا ديبلومات”.

وبينما تراقب بكين انهيار السلام الأوروبي عن كثب فإنها ستفكر في أفضل السبل لتعظيم مصالحها من خلال اللعب على الطرفين.