تشكل المعطيات الراهنة في الأزمة السودانية إنذارا لكل الأطراف الداخلية السودانية والإقليمية المتأثرة به سواء في نطاق الجوار المباشر أو في النطاق الإقليم العام، وذلك بشأن إمكانية تدهور الأوضاع لحد الصراع المسلح في السودان.

الشواهد الواقعية عن تدهور المشهد السوداني يمكن تلخيصها  في عدد من المعطيات منها توقف العملية السياسية داخليا بشكل شامل، حيث فقد المكون العسكري الحاجز الذي وفره المكون المدني بينه وبين جيل كامل من الشباب وأصبحت المواجهة حاليا مباشرة بين المكونات العسكرية السودانية وبين قطاع غالب من السكان، يرفض صيغ الحكم الشمولي وعودة السودان إلى مربع ما قبل ديسمبر ٢٠١٨، بكل معطياته سواء في النظام السياسي أو مكونه المعارض من الأحزاب السياسية، وخطورة هذا التطور أن هذا الجيل مازال قادرا على الحركة في الشارع ويملك منظومة تواصل قاعدية منطلقة من العاصمة إلى المدن السودانية والأطراف، كما ينتج ويبلور مشروعات سياسية أفقية، تطرح مخارج قد يكون الاتفاق معها نسبي، وماتزال تحتاج مزيدا من حوار ونضج سياسي، ولكنها فاعلة ومؤثرة على الأرض.

هذا السياق عجز المجتمع الدولي ممثلا في المبادرة الأممية في تقديم حلول لهذه الأزمة وهو ما يشكل معطى سلبيا إضافيا، وذلك رغم طرح مبادرته من شهرين كاملين، ومن ثم فإن النطاق الإقليمي الأفريقي قد فقد خارطة الطريق للتدخل، خصوصا وأن إثيوبيا من مصلحتها استمرار الأزمة الداخلية السودانية بما تشكله من خسائر لمصر من فقدان لحليفها في أزمة سد النهضة ولو نسبيا، كما أن الأزمة الداخلية السودانية تخصم من القدرات السودانية في المعادلة الإثيوبية المأزومة أصلا، بينما النطاق الإقليمي العربي يعاني من تناقضات ثانوية سوف تتسبب في خسائر للجميع  في السودان في حال عدم التوافق.

أما المعطى السلبي الثالث فهو سعي المكون العسكري عبر تموضعه الخارجي في ممارسة مرواغات بين مكونات النظام الدولي المتصارعة، والمضي قدما في إنتاج أزمات خارجية للسودان تحت مظلة وضع داخلي مأزوم، وهو ما أسفر مؤخرا عن موقف للاتحاد الأوروبي ضد السودان، مطالبا بتوضيح موقف الخرطوم من الحرب على أوكرانيا بعد أن أقدم نائب رئيس المجلس السيادي (محمد حمدان دقلو) على تقديم اعتراف سوداني بسيادة إقليمي أوكرانيا المنفصلين.

تحت هذه مظلة المعطيات السياسية فإن المعطيات الاقتصادية الداخلية تتجه نحو الانزلاق للأسوأ، ذلك أن التردي الاقتصادي المرتبط بسيولة الدولة يزداد حدة، فقد توقفت المساعدات الخارجية، كما أن توقف طريق الشمال أثر بشكل مباشر على زيادة أسعار السلع الأساسية من سكر ودقيق وزيوت بنسب تتجاوز ٣٠٪، وغياب لوازام التصنيع أوقف وحدات التصنيع السودانية الصغيرة والمتوسطة.

الانعكاسات اليومية على الأرض لهذه المعادلات الداخلية والخارجية أسفر عن بيئة أمنية تتصاعد فيها التهديدات، فهناك قطاع من الشباب مع يأسه من إقناع المكون العسكري بالتراجع خطوات للخلف عن واجهة المشهد السياسي، بات يتجه للكفر بالمناهج السلمية، وعلينا هنا ملاحظة أن سياسيات نظام البشير التي كانت تعتمد على مايسمى بقوات الدفاع الشعبي قد وفرت تدريبا عسكريات لقطاعات واسعة من هؤلاء الشباب في الفئة العمرية من 25 حتى 40 عاما.

في سياق مواز فإن منسوبي الحركات الدارفورية المسلحة يمارسون حاليا تفلتا شبه يومي، ضد السكان سواء في العاصمة أو الأطراف، سعيا وراء المال بعمليات نهب للمنازل أو للأفراد في الشوارع، وذلك في ضوء فقدانهم مواردهم من ناحية وسيولة انضباطهم العسكري من ناحية أخرى.

وبطبيعة الحال تردي المستوى الاقتصادي وارتفاع مستويات التضخم لابد وأن يؤثر على منسوبي الأجهزة الأمنية والقوات النظامية الذين لديهم متطلبات والتزامات عائلية وهو أمر له شواهد وحوداث، وهو ما نجده طبيعيا في ضوء أن الموازنة العامة السودانية باتت متأثرة بتوقف المساعدات الخارجية الاقتصادية، وفي ظني أن الموارد التي يملكها حميدتي رغم ضخامتها لا تستطيع سد مثل هذا العجز الكبير .

على المستوى السياسي، فإن هناك خلايا مسلحة للجبهة القومية الإسلامية وقواعدها الاجتماعية أغلب الظن مسلحة أيضا وهي التي تستشعر قلقا من تطورات الحالة السياسية السودانية، خصوصا وأن الخطاب السياسي الشبابي، ومنتجاته المتاحة  نرصد فيه ملمحا يساريا، وفاعلية لجان المقاومة على الأرض تشير إلى أن للحزب الشيوعي وزنا فيها طبقا لبعض التقديرات، وهو أمر له تداعيات مقلقة إذا ما عرفنا بوجود حالة ثأر سياسي تاريخي بين الإسلامويين والشيوعيين في السودان عابرة للتاريخ السياسي الحديث.

هذه البيئة المرشحة لإنتاج الاحتكاكات المسلحة، تملك خبرة الثأر السياسي العنيف، سواء على صعيد الحروب الأهلية، أو الصراعات المسلحة في الخرطوم مؤخرا، أو -وهو الأهم- ما جرى في الخرطوم على وقت اغتيال جون جارنج من حوادث عنف من جانب  الجنوبيين ضد سكان العاصمة، والعنف المضاد الذي مارسه هؤلاء السكان ضد الجنوبيين في اليوم التالي، وذلك في سيناريو مرعب مازال ماثلا في الأذهان،. وربما هذه الذاكرة العنفية في السودان هي ما جعلت كل قادر على حمل السلاح، هو حاليا حامل له خصوصا في قطاعات الشباب، وجعل بعض العائلات السودانية تفر إلى القاهرة خشية تطور الأوضاع لحد المواجهات.

هذا الوضع الشائك، نرى أنه لابد من محاولة احتواءه على وجه السرعة، وهو أمر كان محل نقاش مع رموز سياسية وصحفية سودانية زارت القاهرة وحظيت بشرف لقائها على نيل القاهرة حيث أجرينا حوارات معمقة في جو أعترف أنه مشحون بالتوتر والمخاوف بشأن المخارج الممكنه للأوضاع السودانية في هذه اللحظة، وربما يكون أهم ما نتج عن هذه الحوارات هو ضرورة السعي إلى خلق مكون مدني مستقل عن تحالف الحرية والتغيير، المكبل حاليا برفض الشباب له، على أن يكون هذا المكون من  شخصيات مستقلة تحظى بقبول عام، يكون تموضعها بين المكون العسكري والمكون الشبابي بهدف إدارة عملية تفاوض بين الطرفين بآليات تناسب أجيالنا الشبابية الجديدة ومفاهيمهم السياسية، وتلبي أيضا المتطلبات الاستراتيجية للدولة التي يطرحها المكون العسكري كمحاذير.

هذه العملية لابد وأن تستند إلى تراث من المبادرات الداخلية والمواثيق الشبابية، وتأخذ بعين الاعتبار اتفاقية جوبا للسلام، والترتيبات الأمنية المطلوبة لوحدة المكون العسكري ولكن الأهم هو توافر إرادة سياسية من المكون العسكري بهجران مناهج نظام البشير في المرواغات السياسية الداخلية والخارجية، والإيمان بأن الذهاب للانتخابات لا يمثل حلا لهذه البيئة السياسية المسمومة حاليا.

تدشين مكون مدني سوداني مستقل يدير عملية تفاوض بين الأطراف لابد وأن يكون له روافع إقليمية، متفقة على أهمية دوره في هذه المرحلة الحساسة من تاريخ السودان المهددة لكيان الدولة ذاته، ولا يمارس أي من هذه الأطراف الإقليمية أي نوع من المرواغة لتحقيق أغراض أو مصالح ذاتية، ستكون مهددة في حال فقدان كيان الدولة، ولعل الدرس اليمني يمكن استحضاره في هذا السياق.

التوافق الإقليمي إزاء السودان ومعادلة استقراره في تقديرنا لابد  وأن يكون مستهدفا حوارا مع الأطراف الدولية بهذا الشأن بعد إنتاج الأجندة الإقليمية المتوافقة على ضرورة استقرار وأمن السودان، وربما يكون من المطلوب تدشين آلية جيدة ذلك أن أصدقاء السودان والرباعية ستكون أطرافها مشغولة بالحرب على أوكرانيا، وستكون أولوياتها مختلفة في وقت ينفرط عقد السودان واقعيا .

ظني أن أي تأجيل لكل هذه المهام ليس في صالح أحد في ضوء ما عرفت وماسمعت عن واقع الأحوال السودانية راهنا.