تسبب الغزو الروسي لأوكرانيا في أزمة إنسانية ضخمة. بنزوح أعداد كبيرة من الأوكرانيين للهروب من آثار الحرب المدمرة التي شنتها روسيا. فيما استعدت العديد من الدول الأوروبية مثل رومانيا وسلوفاكيا وبولندا لاستقبال أعداد كبيرة من اللاجئين الأوكرانيين المتوقع أن يصلوا بالملايين. في حين آثار تعامل بعض الدول الأوروبية مع تلك الأزمة الإنسانية وترحيبهم بالنازحين الأوكرانيين الهاربين الكثير من الجدل. بسبب المعاملة التمييزية بين اللاجئين بناء على خلفياتهم وأعراقهم. كما أن خطاب المسؤولين ووسائل الإعلام الغربية أظهر التوجهات العنصرية والاستشراقية ضد غير الغربيين.

تحمي مبادئ حقوق الإنسان جميع البشر باختلافاتهم إقرارا لحق الإنسان في الحياة والحرية والأمان. حيث حمت تلك المبادئ الحق في عدم التعرض لأي معاملة غير إنسانية أو قاسية من أي نوع. ولقد ضمنت اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئ حقوق جميع اللاجئين بلا تمييز على أساس الدين أو العرق أو الموطن. وحقوق جميع اللاجئين في الحصول على عمل وتعليم وسكن مناسبين وغيرها من الخدمات الأساسية. مع عدم جواز إعادة اللاجئين إلى الظروف الخطر التي هربوا منها والتي قد تعرضهم للاضطهاد.

ذلك الخطاب العنصري الذي ظهر مع بداية الأزمة الأوكرانية فرق بين اللاجئين بناء على أصولهم ولون بشرتهم. هذا الخطاب الذي استهان بأوجاع النازحين الذين يتعرضون لظروف صعبة بسبب الصراعات والحروب الأهلية لكونهم ذو أصول عرقية مختلفة وليسوا ذو بشرة بيضاء وعيون ملونة. تلك الممارسات التمييزية وخطاب الكراهية الذي يؤجج العنف ضد قطاعات كبيرة من سكان الكرة الأرضية. وبشكل خاص الأقليات العرقية التي قد تتعرض لأخطار تهددهم في البلدان الغربية من قبل المتطرفين اليمينيين. المآسي الإنسانية هي واحدة وتؤثر على الجميع بشكل قاس ومروع ولا تفرق بين العرق أو اللون أو القومية أو غيرها من الاختلافات. فلا يجوز بأي حال من الأحوال، التعاطف مع مجموعة عرقية معينة ونشر الكراهية ضد الأخرى. والاثنان يمرون بنفس الظروف العصيبة، حيث من المفترض أن تلك الأهواء العنصرية أو التمييزية لا مكان لها في بلاد تحترم حقوق الإنسان بلا تمييز.

قلعة أوروبا الحصينة

قبل التطرق إلى المأساة الإنسانية التي حدثت في أوكرانيا، من الضروري التطرق إلى تعامل الدول الأوروبية مع اللاجئين غير الأوروبيين في الأزمات السابقة. عندما حدثت الأزمات الإنسانية والصراعات في الشرق الأوسط، الأمر الذي أدى إلى نزوح أعداد كبيرة من البشر إلى أوروبا، قامت العديد من الدول الأوروبية بتشديد سياسات اللجوء الخاصة بها. وقاموا بتشديد الرقابة على الحدود لوقف تدفق اللاجئين إلى البلاد.

كما يتعرض النازحون القادمون من أفريقيا والشرق الأوسط إلى عنف من قبل حرس الحدود على الحدود الأوروبية. بالإضافة إلى التعرض لاحتجازات في أوضاع غير إنسانية كما تشير تقارير مؤسسات حقوق الإنسان الدولية. أشهر تلك الدول كانوا بلغاريا واليونان. فضلا عن خطاب الكراهية الذي تعرض له طالبي اللجوء واللاجئين. لتصبح أوروبا نتيجة لتلك الممارسات القاسية والعنيفة القلعة الحصينة التي لا تترك مجال لدخول غير الأوروبيين إليها.

في نهاية العام الماضي قامت بيلاروسيا باستدراج عدد كبير من اللاجئين القادمين بشكل أساسي من العراق وأفغانستان. والتخلص منهم على الحدود الأوروبية بغرض الانتقام من أوروبا بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضت على بيلاروسيا. تم ترك اللاجئين عند الحدود البولندية-البيلاروسية عالقين لفترات طويلة في الغابات. مما أدى إلى مقتل ما يقارب الـ 20 شخص بسبب الأجواء القارصة والظروف غير الإنسانية. عقب هذه الأزمة اقترحت المفوضية الأوروبية على الدول المجاورة لبيلاروسيا بإطالة إجراءات اللجوء والبت في الطلبات. بينما رأت بولندا أنه من الأفضل تعليق إجراءات اللجوء وليس تمديدها.

كما تم اتهام بولندا بأنها تعيد طالبي اللجوء الذين يصلون إلى حدودها إلى ناحية بيلاروسيا مجددا، مما يمثل انتهاك للقانون الدولي وقوانين الاتحاد الأوروبي ومبادئ حقوق الانسان. كما يتم احتجاز طالبي اللجوء في بولندا في ظروف مهينة وغير إنسانية.

في الحالة السابق ذكرها تركت الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي، اللاجئين الذين كانوا ضحية لصراع بين بيلاروسيا وأوروبا لا شأن لهم فيه. عالقين في ظروف تهدد حياتهم، كما استمرت العديد من الدول الأوروبية باتخاذ سياسات لمنع اللاجئين القادمين من الشرق والأوسط وأفريقيا من الوصول إليها. بينما أبدت جميع الدول الأوروبية في الازمة الأوكرانية، استعدادها لاستقبال الملايين من اللاجئين الأوكرانيين وتوفير الخدمات المناسبة لهم. وكانت بين تلك الدول أكثرهم عنصرية وأصحاب توجهات يمينية معادية للاجئين مثل بولندا وبلغاريا والمجر.

الخطاب العنصري وأزمة أوكرانيا

مع بدء المأساة الإنسانية في أوكرانيا، ظهر الخطاب العنصري والتمييزي والذي يحض على الكراهية في خطابات وسياسات المسؤولين الأوروبيون.

لعل أبرز وأهم التصريحات العنصرية هي تصريحات رئيس وزراء بلغاريا. الذي قال إن اللاجئين الأوكرانيون، ليسوا كاللاجئين الذين اعتادوا عليهم، فهؤلاء اللاجئين هم “أوروبيين”. وأضاف رئيس الوزراء بأن اللاجئين الأوكرانيين “متعلمون” و”أذكياء”. على عكس موجات اللجوء السابقة التي كانت تحتوي على أشخاص غير متأكدين من “هويتهم” وأصحاب ماضي غير واضح. ومن الممكن أن يكونوا إرهابيين. كما أضاف “ليس هناك أي دولة أوروبية قلقة من هذه الموجة من اللاجئين”.

أما فيكتور اوربان رئيس وزراء المجر اليميني المعروف بخطابة وسياسته العنصرية المعادية للاجئين والرافضة لدخولهم المجر. أبدى ترحيبه لاستقبال اللاجئين الأوكرانيين.

كما قال ديفيد ساكفاريليدزي نائب المدعي العام الأوكراني السابق إنه يشعر بالحزن الشديد لرؤية أوروبيين ذوات “شعر أشقر” و”عيون زرقاء” يتم قتلهم.

هذا الخطاب الذي التمييزي ظهر أيضا في الإعلام. فقد قال مراسل “سي بي اس نيوز” إنن هذا المكان، ويقصد أوكرانيا. يختلف عن مناطق أخرى مثل العراق وأفغانستان الذين شاهدوا صراعات طويلة. وأضاف المراسل أن هذا المكان “متحضر نسبيا” و”أوروبي نسبيا” وأن هذه مدينة لا يتوقع أو يأمل حدوث ما حدث فيها.

كما شاركت قناة الجزيرة الإنجليزية أيضا في هذا الخطاب العنصري والتمييزي. فقد قال أحد مذيعي القناة إن الأوكرانيين “بكل وضوح”، على حد تعبيره، بناء على مظهرهم ينتمون للطبقة الوسطى وليسوا لاجئين هاربين من الشروق الأوسط او شمال أفريقيا، فهم يبدون كأي عائلة أوروبية “تسكن بجانبك”.

ولم يتوقف هذا الخطاب العنصري في الإعلام عند هذا. فقد قالت مراسلة قناة “ان بي سي نيوز” إن اللاجئين من أوكرانيا يختلفون عن القادمون من سوريا لأنهم “بيض” و”مسيحيون”. كما قالت مراسلة شبكة أي تي في البريطانية هناك قذائف يتم إطلاقها كأننا في العراق وأفغانستان “هل تتخيل؟”. كما قال أحد مراسلين قناة “بي اف ام” الفرنسية “نحن لا نتكلم عن سوريون هاربون من النظام السوري.. نحن نتكلم عن أوروبيين يغادرون في عربات مثلنا للنجاة بحياتهم”.

أما أحد الصحفيين في جريدة ديلي تلغراف كتب أن اللاجئين الأوكرانيين يبدون “مثلنا”، وهذا ما يسبب “صدمة”. الحرب لم تعد تحدث لسكان البلاد “الفقيرة” و”النائية” فقط، بل قد تحدث في كل مكان.

المرور لذوي البشرة البيضاء فقط

لم يتوقف الأمر عند تفشي الخطاب العنصري فقط، بل وصل إلى منع بعض النازحين من العبور بسبب لون بشرتهم.

20% من الطلاب الأجانب في أوكرانيا قادمين من دول أفريقية، واضطروا إلى النزوح بسبب الغزو الروسي مثلهم مثل الاوكرانيين. ولكنهم واجهوا عوائق وصعوبات في محاولتهم للعبور للدول المجاورة بسبب أصولهم وعرقهم.

ظهر في المنصات الإعلامية المختلفة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تقارير وشهادات من نازحون ذوي البشرة السوداء. تشير إلى وجود عنصرية وتمييز في إجراءات العبور. اشتكى العديد من الطلاب القادمين من أفريقيا ذوي البشرة السوداء من المعاملة العنصرية من قبل ضباط الشرطة البولنديين والأوكرانيين على الحدود.

يقول النازحون ذوي البشرة السوداء في تلك التقارير والشهادات المختلفة إنه يتم إعطاء الأولوية للنازحين الأوكرانيين. مما يجعل الضباط على الحدود يتركونهم بالساعات ويتم منعهم من ركوب الحافلات. كما أشارت بعض الشهادات بأنه يتم طرد ذوي البشرة السوداء من الحافلات من قبل الضباط حتى إن وصولوا أولا، مبررين هذا بأولوية إخلاء الأوكرانيون أولا. حيث يوجه هؤلاء الطلاب اللوم على سفاراتهم التي أهملتهم. كما أشارت التقارير إلى تعرض الهنود الذين يحاولون الهروب لنفس المعاملة العنصرية.

الخطاب الاستشراقي والمعارضات الثنائية والعنصرية المؤسساتية في الأزمة الأوكرانية

هذا الأمر ليس بجديد. يسيطر على الخطاب الغربي والأوروبي منذ قرون منطق استشراقي يرتكز على المعارضات الثنائية. ذلك المنطق يفرق بين “الغرب” و”آخر”، وبين “الأبيض” و”الأسود”، و”نحن” و”هم”. من خلال هذا الخطاب يتم صنع الآخر، كذوات في مرتبة أدني من الغرب المتفوق. فيصبح “الغرب المتحضر” في مواجهة الاخر “غير المتحضر”. تضع تلك الثنائيات تراتبية زائفة مبنية على أساطير التفوق الحضاري أو العرقي أو الثقافي. ذلك الخطاب له جذور تاريخية ترجع لفترات الاستعمار الأوروبي.

ظهر هذا في الازمة الأخيرة بوضوح. فقد تم وضع ثنائيات تفرق بين “نحن” أي الأوروبيين أو الغربيين. و”هم” أي اللاجئين غير الأوروبيين مثل اللاجئين القادمين من أفغانستان أو العراق أو سوريا. فتم وصف اللاجئين الأوكرانيين بأوصاف مثل “متحضرين” و”متعلمين” و”أذكياء” وتم مقارنتهم بالآخر غير الغربي. الذي تم الإشارة إليه بأنه غير متحضر وإرهابي ومجهول الهوية ويناقض جميع الصفات الأوروبية “المتفوقة”. وتم إلصاق مصطلحات مثل “الصراعات” والفوضى والإرهاب بالمناطق والبلدان خارج الغرب، بينما تم وصف البلدان الغربية بأنها تتسم بالسلام والأمن، لذلك اعتبروا ما حدث “صدمة” على حد وصفهم.

يجب الإشارة أيضا بانه في بعض الأحيان لم ينجو حتى اللاجئون الأوكرانيون من ذلك الخطاب التمييزي. فقط وصف مراسل “سي بي اس” نيوز بأن اوكرانيا “متحضرة نسبيا” و”أوروبية نسبيا” مما يشير إلى أن حتى الأوكرانيين لا يعدون أوروبيون ومتحضرون بما يكفي في الخطاب الغربي في بعض الأحيان. هذا الأمر يرجع إلى الجدال التاريخي حول هوية البلدان في تلك المنطقة وعلاقتها بأوروبا وروسيا.

وعند المقارنة بين تعامل المؤسسات الأوروبية مع اللاجئين الأوكرانيين وغير الأوكرانيين، في السنوات السابقة وخلال الأزمة الحالية. تتضح العنصرية المؤسساتية المتفشية في المؤسسات والنظم الأوروبية. فتم التعامل بشكل تميزي بين الاثنين. بينما تفتح البلدان الأوروبية أبوابها بلا تردد للنازحين الأوروبيين وتوفر لهم كل سبل الراحة الممكنة. يتم معاملة اللاجئين غير الأوروبيين القادمين من الشرق الأوسط وأفريقيا بشكل عنصري ويتم تركهم عالقين. ويتم تشديد رقابة الحدود والقيود البيروقراطية للحصول على اللجوء واحتجازهم في ظروف غير إنسانية. وتصبح تلك السياسات والممارسات أكثر سوءا واشد قسوة في البلدان التي يسيطر عليها اليمين الأوروبي.

ثقافة تمييزية

تلك الخطابات والسياسات العنصرية والتمييزية يتم إعادة إنتاجها بشكل دوري وبشكل روتيني. ويكون هذا في أغلب الأحيان بغير وعي بسبب ترسخها في الثقافة والمجتمع والنظام السياسي الغربي. وفي أحيان أخرى يستخدم اليمين الأوروبي هذا الخطاب الشعبوي لكسب التأييد والحصول على مكاسب سياسية.

لذلك أعادت تلك المأساة الإنسانية التي سببها النظام الروسي الخطاب العنصري الأوروبي إلى الواجهة مجددا. فتم وصف اللاجئين الأوكرانيين، لأنهم يشبهون الأوروبيين ثقافيا وشكلا، بصفات اعتبرها خطاب الغرب الاستشراقي لقرون أنها صفات مرتبطة بالغرب مثل “التحضر” و”الذكاء”. بينما تمت مقارنتهم، في هذا الخطاب الذي يعتمد على ترسيخ المعارضات الثنائية بين الغرب وباقي العالم، باللاجئين “الاخريين” أي غير الأوروبيين الذين لا ينتمون لأوروبا المتفوقة والمتحضرة. ذلك الخطاب نزع إنسانية اللاجئين غير الأوروبيين وحولهم إلى مجرد “خطر” على أوروبا. بينما الأوكرانيون ليسوا خطرا لأنهم ليسوا “الآخر” بل ينتمون إلى أوروبا أي “نحن”.

وصل الخطاب العنصري إلى القيام بالتمييز بناء على الصفات الجسدية والعرقية، فاعتبر هذا الخطاب بأن ذوات العيون الملونة والشعر الأشقر يستحقون التعاطف. أما ذوات البشرة الداكنة لا يستحقون هذا التعاطف، ويلمح هذا الخطاب العنصري بأن هذه الصراعات من الاعتيادي حدوثها عند غير الأوروبيين أي غير “المتحضرين”. كما صور ذلك الخطاب الاستشراقي العنصري المناطق “الأخرى” بأنها لا تحتوي إلا على الحروب والصراعات. ومن الاعتيادي حدوث هذا الأمر عند هؤلاء “الهمجيون” أو “الإرهابين”، بينما حدوث صراعات في الغرب المسالم المتحضر هو أمر “صادم”.

تلك الظواهر ليست بجديدة فهي ليست إلا استمرار للخطابات والممارسات العنصرية والتمييزية المستمرة. منذ سنوات في قلعة أوروبا الحصينة، تلك الممارسات والخطابات التي تتسبب في انتهاك الحقوق الأساسية لللاجئين القادمين من مناطق غير غربية مثل الشرق الأوسط وأفريقيا.