في 28 فبراير من عام 1922 أصدرت الحكومة البريطانية إعلان استقلال مصر دولة مستقلة حديثة ذات سيادة. وهو الإعلان الذي جاء بعد سنوات طويلة من الحراك الشعبي والجماهيري والانتفاض والثوران.

القرن المصري الأول الذي جاء بعد قرون طويلة من تتابع الحكم الأجنبي بين ولاة ومناديب وسلاطين كانوا في تبعية مباشرة أو غير مباشرة لدول وممالك وإمبراطوريات أجنبية.

وعلى الرغم من الثراء الثقافي والاجتماعي من تتابع وتنوع أشكال وأجناس الحكم قابله قرون من نهب واستنزاف مواردنا وقدراتنا وضعف شديد في الموروث السياسي. خاصة على مستوى القيادة والحكم. وبعد أن انقضت المئة الأولى من الاستقلال: ثلاثون عاماً تحت حكم ملكي وسبعون تحت حكم جمهوري. هل آن لنا أن نتأمل ماذا فعلنا فيها وماذا فعل فينا خلالها؟

في البداية وقبل ذلك التصريح بنحو ثمانية أعوام -تحديداً في 18 ديسمبر 1914- كانت بريطانيا قد أعلنت إنهاء السيادة العثمانية على مصر وفرض الحماية البريطانية عليها. تلك السنوات الثماني التي شهدت حراكاً مصرياً مشتعلاً لم ينطفئ في سبيل رحيل الاحتلال البريطاني ونيل الاستقلال كانت ذروته هي ثورة 1919. والتي كان لها عظيم الأثر في إجبار الإمبراطورية البريطانية على إنهاء الاحتلال. والذي راوغت لبقائه سنوات بين القمع والتحايل لإعطاء اعتراف باستقلال منقوص لترضخ في النهاية بهذا الإعلان الصريح. ورغم ذلك كان التطبيق الفعلي دون ذلك.

وقد بدأ القرن المصري الأول بحكم شبه ملكي شبه دستوري شبه مستقل. كان نزاعاً مستمراً لأعمال الحكم والسيادة بين الملك ومجموعات تابعة له. والإنجليز وقواتهم وحلفائهم في الداخل. وأحزاب شتى كان على رأسها حزب الأغلبية “حزب الوفد” صاحب الجماهيرية والأغلبية الشعبية. واستمر هذا الصراع المصحوب بحراك شعبي وسياسي ودستوري 14 عاما من حكم الملك فؤاد -أول ملوك المملكة المصرية- التي كانت رسمياً مملكة دستورية فيها الملك يملك ولا يحكم بموجب دستور مصر الأول عام 1923.

وقد حاول الملك استبداله بدستور 1930 لجعلها ملكية مطلقة. وهو ما قوبل بمعارضة وحراك سياسي وجماهيري أجبره على التراجع إلى دستور 1923 مرة أخرة بعد 5 سنوات من إلغائه. وذلك عقب انتفاضة جماهيرية ضخمة قادها الطلاب والعمال. وقد توفي الملك بعد هذا التراجع بشهور قليلة أعقبها معاهدة 1936. ومجيء ولي عهده الطفل القاصر فاروق ذي الستة عشر عاما.

لم تتغير معادلة الحكم كثيرا بعد وفاة الملك الأول -فؤاد- وطوال سنوات حكم نجله فاروق إلا بمزيد من التردي المتزامن مع أجواء الحرب العالمية الثانية ومزيد من التدخل البريطاني في الشؤون المصرية. مع استمرار النزاع على أعمال السلطة بين الأحزاب والملك حتى تمت الإطاحة به في 23 يوليو 1952 وبالملكية بعد ذلك بعام وإعلان جمهورية مصر في 18 يونيو 1953 برئاسة اللواء محمد نجيب.

وسرعان ما تمت الإطاحة بنجيب في 14 نوفمبر 1954 ثم تولى مجلس قيادة الثورة برئاسة جمال عبد الناصر -الضابط ذي الـ36 عاما- ورفاقه من الضباط في مثل سنه. والذين حكموا البلاد حكماً مطلقاً خاضوا خلاله معارك ومغامرات اجتماعية وعسكرية ودولية كانت خليطاً من الحماس والطيش والمغامرة والمقامرة والتهور والزعامة والشعبوية والحكم المطلق والديكتاتورية وعدالة اجتماعية وقمع واستبداد وفساد. وغيرها من صفات متضاربة لنظام حكم دولة جديدة خرجت لتوها من عباءة الاحتلال إلى حكم مجموعة من الضباط الشباب الذين انتهت تجربتهم بهزيمة عسكرية شديدة في 1967.

وقد ورث الحكم والتجربة أحد هؤلاء الضباط -وهو أنور السادات- الذي سرعان ما سار في طريق مختلف عن تلك التجربة. كان خليطاً من التبعية الأجنبية وحكم الفرد المغطى بقشرة شبه ديمقراطية هشة وفساد ضرب جوانب البلاد ورهانات داخلية أدى بعضها إلى اغتياله في 1981. ليخلفه نائبه حسني مبارك الذي حافظ على نهج سلفه مع لا مبالاة شديدة استمرت لثلاثة عقود كان عنوانها الأبرز هو التردي: تردي ثقافي وسياسي وإداري.

وقد استفحل الفساد الاقتصادي والإداري والمالي. ما أدى لانهيار البنية التحتية وزيادة معدلات الفقر والجهل والمرض واليأس في التغيير. وعلى الرغم من النقلة التي حدثت في عام 2005 بانتقال مصر من عصر الاستفتاءات إلى عصر الانتخابات الرئاسية من بين عدد من المرشحين فإنه كان تغييراً صورياً ليغطي على الفساد السياسي الذي كان تكلل بمشروع توريث الحكم لنجل الرئيس تحت غطاء من القمع الشديد والإجرام الشرطي. وهو ما انتهى بثورة شعبية ضخمة أتت على رأس النظام وأعوانه. وقد تبعها فترة اضطراب شديدة قبل أن تعود الدولة ويعود الحكم إلى الديكتاتورية من جديد والحكم المطلق لفرد واحد لا شريك له.

لقد كانت السمة الأبرز على الإطلاق في هذا القرن المصري الأول هو استبعاد الشعب من معادلة الحكم تماما. مائة عام تغيرت خلالها الأنظمة والحكام لكن اتفقوا جميعاً على احتقار واحتكار هذا الشعب. اختلفوا في كل شيء تقريبا لكنهم اتفقوا على عدم أهلية هذا الشعب لحكم لنفسه ولا حتى المشاركة فيه وأهليتهم وأحقيتهم وقدرتهم وحدهم على الاستحواذ بزمام السلطة المطلقة. مائة عام كانت -ولا تزال- الديكتاتورية وحكم الفرد هي القاعدة الوحيدة للسياسة المصرية. والقمع هو الأسلوب الوحيد للحصول والاحتفاظ بها. ورغم تكرار الفشل وتكرار الهزائم والنكسات بسبب هذه الديكتاتورية لا تزال تجد من ينظّر لها ويحمل لها المباخر ويمجد فيها. ويلقي باللوم على الشعب في كل المصائب التي لم يكن له من أمرها شيء.

وعلى عكس ما تم ترديده خلال هذا القرن. فقد كان حضور الشعب تصويباً ومحاولة لإعادة السلطة إلى رشدها خلال مرات قليلة وأيام معدودة. في يناير عام 1952 انتفض الشعب ضد منظومة الحكم الهشة والفاسدة. وتكرر ذلك في يناير أيضاً من أعوام 1977 و2011. ولكن صمّت الأنظمة آذانها عن كل صوت للعقل ولم يتعلم أحد الدرس.

مائة عام كاملة استبدل خلالها الوصاية الأجنبية بالاحتلال ثم استبدلت بالوصاية الأجنبية الوصاية العسكرية. وجاء كل حاكم ونصب عينيه مهمتان جوهريتان: هما محو تاريخ من كان قبله والقضاء على كل منافس وبديل قد يأتي من بعده. ويظل يسعى وراء ذلك طوال سنوات حكمه كمثل فرعون الذي يسخر جنوده فقط لإيجاد موسى ثم تكتمل الآية بأن يخرج موسى من قصر فرعون.

فأزاح الملك ضباط جيشه بل ومنهم بعض أفراد حرسه الحديدي السري. وجاء من بين الضباط أحدهم “أنور السادات” ليقضي على كل ما أعلنت عنه ثورتهم في يوليو. ليتم اغتياله وسط جنوده وضباطه ويتسبب نجل مبارك في الإطاحة بأبيه ويرثهما مدير المخابرات. ويأتي الجديد ليمحو القديم. وكل منهم يبحث عن إنجازات سريعة تمجده بغض النظر عن مدى تفاهة وكذب وهشاشة ما يسميه منافقوه “إنجازات”. وبغض النظر عن حجم الثروات والمقدرات المهدرة والضائعة في تلك الإنجازات الوهمية.

عند التأمل في هذا القرن المصري الأول تتجسد أمامنا مقولة الشاعر والسياسي الفرنسي “لامارتين” عندما وصف السلطة والحكم في بلادنا قائلاً: “في الشرق لا وجود للنظم والأجهزة بمفهومها الصحيح. ولا أثر للتقاليد السياسية. لا وجود فيه إلا لسيد من ناحية وعبيد من ناحية أخرى. والرجل الكبير فيه يقوم بأعمال كبيرة يسخر لها آلافا من الناس الذين يحكمهم ولكنه لا يغير شيئا في مستوى هذا الشعب. ولا يؤسس دولة وطيدة الأركان. ولا يخلق أجهزة أو يضع قوانين. فإذا غادر هذه الدنيا طوى عبقريته كما يطوي البدوي خيمته وتوارى معها تاركاً المكان خاليا كما كان قبل قيامه”.

ومع بداية القرن المصري الثاني لا أرى ملجأ لنهضة وتقدم هذا البلد إلا بسيادة أبنائه عليه عبر ديمقراطية حقيقية يختار خلالها من يخدمه لا من يتسيده. ويحاسب ويراقب عبرها ثرواته وأمواله وسلطاته ويحدد خلالها أولوياته. وأستحضر هنا ما قاله الزعيم “مكرم عبيد” منذ ثمانين عاما: “إننا حررنا المواطن المصري من استغلال الأجانب وآن الأوان أن نحرره من الاستغلال المصري”.