رغم الهزيمة القاسية والضربات المتلاحقة التي تعرضت لها “دولة تنظيم داعش” في العراق وسوريا. لم يغب حلم إقامة “دولة الخلافة” عن قادة التنظيم ورعاته. ليجدوا في القارة الأفريقية “الملاذ الآمن” لدولتهم المزعومة. في ظل توافر المقومات لتلك الدولة التي تأخذ في التمدد على حساب حدود عدد من دول القارة الغنية بالثروات اللازمة. لتمويل أنشطة وعمليات التنظيم كما حدث في المناطق التي سيطر عليها “تنظيم الدولة” سابقا في سوريا والعراق.

وجد التنظيم الإرهابي ضالته في منطقة الغرب الأفريقي التي تضم 16 دولة. هي بنين وبوركينافاسو والرأس الأخضر وساحل العاج ونامبيا وغانا وغينيا وغينيا بيساو وليبيريا ومالي وموريتانيا والنيجر ونيجيريا والسنغال وسيراليون وتوجو المليئة بالمواد الخام والثروات الطبيعية.

وخلال فترة قصيرة وجه التنظيم بوصلته إلى دول القارة التي تعاني حالة من الفقر المدقع وهشاشة أنظمتها الأمنية والعسكرية. وتمددت ولايات التنظيم عبر الجماعات المحلية التي أعلنت بيعتها له. محاولة تخليق دولة افتراضية لترسم الخطوط الأولية لخريطة الدولة البديلة لتلك التي سقطت في سوريا والعراق. بدءا من مالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو والكونغو وأفريقيا الوسطى ونيجيريا. لتشهد توسعاً موازياً للساحل الأفريقي داخل الصحراء الكبرى. ويمتد من السودان شرقا إلى السنغال غربا عبر ممرات ودروب صحراوية ربما تصل البحر الأحمر بشواطئ المحيط الأطلسي.

وأنشأ التنظيم 4 ولايات في منطقة بحيرة تشاد لخلافته المزعومة في القارة تحت قيادة مركزية بولاية بورنو في نيجيريا. وهي ولايات “سامبيسا” في نيجيريا و”تومبوما بابا” في بورنو بالدولة ذاتها. و”تمبكتو” في شمال مالي وولاية مستحدثة في تشاد. بخلاف ولاية وسط أفريقيا التي تتخذ من شمال موزمبيق مركزا لها. و لكل منها حاكم خاص وتحت قيادة زعيم داعش الموجود بين أطلال الدولة المنهارة في سوريا والعراق.

محفزات دولة داعش الأفريقية

استغل التنظيم ضعف المؤسسات الأمنية والعسكرية بدول القارة وعدم قدراتها على إحكام السيطرة على حدود دولها. وهو ما وظفه في تسهيل حركة عناصره وحصولهم على السلاح وتنامي قدراته القتالية. حيث يعمل دائما على استغلال الفراغات الأمنية في مناطق الحدود الهشة وتلك التي يغيب عنها وجود الدولة الوطنية من أجل تحقيق الهدف المبتغى وهو إقامة دولة الخلافة.

كما وظف التنظيم الأوضاع السياسية والاجتماعية في تلك البلدان وهشاشة الحياة السياسية بها. وعجز الحكومات عن فرض سلطاتها وسيطرتها خارج المدن الرئيسية. بخلاف الظروف الاقتصادية والنزاعات القبلية التي أسهمت في اتساع عمليات التجنيد كعوامل دفع لبسط خرطية دولته التي لا تزال في مرحلة التأسيس.

ولتأمين مصادر التمويل أخذ التنظيم في توسيع شبكته المالية بالسيطرة على طرق التجارة وفرض الضرائب على سكان المناطق الزراعية المسيطر عليها. وتقديم المراعي الآمنة للرعاة مقابل المال. والحصول على إتاوات السماح بمرور السلع وتجارة السلاح وتهريب البشر عبر الحدود المسيطر عليها.

السعي لتأمين موارد مالية للدولة المزعومة

مكمن الخطورة الأبرز في تحركات عناصر داعش في أفريقيا مؤخرا هو توجه التنظيم لاستنساخ التجربة العراقية السورية. من خلال الاستيلاء على مناطق الثراوت على أمل توفير موارد دائمة لـ”وزارة مالية الدولة المزعومة” التي يسعى لإقامتها. وهو ما ظهر جليا في تحرك المجموعات التابعة للتنظيم نحو مناطق تعدين الذهب في جنوب شرق السنغال وبالتحديد في منطقتي كيدوغو وتامباكوندا المتاخمتين لمنطقة كايس في مالي.

وفي الوقت الذي كانت دولة موزمبيق تتأهب لصعود مسرح الطاقة العالمي بعد اكتشاف احتياطيات للغاز الطبيعي تقدر بـ150 تريليون قدم مكعّب. تعادل 24 مليار برميل من النفط. كان التنظيم حاضرا بالساحة هناك من خلال سيطرته في أغسطس 2020 على ميناء “موكيمبوا دا برايا” الرئيسي والغني بالغاز الطبيعي. والذي يقع بمدينة يقطنها أكثر من 100 ألف نسمة.

وأتبع عناصر التنظيم تلك الخطوة بأخرى سيطروا خلالها على القرى المحيطة بالمدينة وجزيرتين بالمحيط الهندي. بالإضافة إلى إعلان السيطرة على مدينة بالما في مارس 2021. والتي توجد بها قاعدة تطوير الغاز الرئيسية على بعد 60 كلم شمال موكيمبوا دا برايا.

ولم يكتف عناصر التنظيم بالسيطرة على مناطق النفط والغاز. بل تحركوا نحو مناطق صناعة تعدين الجواهر. حيث تحوي موزمبيق أكبر رواسب للياقوت الأزرق الوردي في العالم.

انقلابات على وقع التمدد الداعشي

أسهمت ظاهرة التمدد الداعشي في أفريقيا مؤخرا في تزايد الانقلابات العسكرية. ففي غضون 9 أشهر شهدت القاهرة 6 انقلابات بدأت في تشاد التي تشهد تصاعدا لعمليات التنظيم. في إبريل من العام الماضي ثم مالي في الشهر التالي وغينيا في سبتمبر من العام ذاته والسودان في أكتوبر قبل أن يعلن مجموعة من عسكر بوركينا فاسو انقلابهم على النظام الحاكم هناك. وذلك بخلاف محاولة الانقلاب الفاشل التي وقعت مطلع فبراير الماضي في غينيا بيساو.

وبالعودة للقراءة في أسباب تلك الانقلابات يمكن القول إن أنظمة الأمن الفاشلة في هذه البلدان كانت سببًا رئيسيا في تزايد الانقلابات. حتى اتخذ مجموعة من العسكريين في بوركينا فاسو على سبيل المثال من تدهور الوضع الأمني في بلدهم نتيجة للعمليات المسلحة والمجازر التي نفذها تنظيم داعش هناك سببا لإعلانهم الانقلاب.

داعش وإعادة تشكيل النفوذ بالقارة

من غير المحدد ما إذا كان داعش الأفريقي تحول إلى كارت ضغط في صراع النفوذ بين أمريكا وأوربا من جهة. والصين وروسيا من جهة أخرى. أم أنه وظف هذا الصراع لصالحه ليتحرك بين بلدان القارة عبر الفراغات التي يخلفها هذا الصراع.

فأمام ضعف الحضور الغربي في أفريقيا والانسحاب الفرنسي مؤخرا وعدم قدرة الدول الغربية على تقديم أي شيء لدول الساحل والغرب الأفريقي. وجدت روسيا المتحالفة مع الصين صاحبة الحضور الكبير في أفريقيا منفذا لتعظيم وجودها عبر الذراع غير الرسمية المتمثل في مرتزقة “فاغنر”. والتي باتت حاضرة بساحات المعارك في بعض الدول الأفريقية مثل موزمبيق وبوركينا فاسو لمواجهة عناصر تنظيم داعش. وتأمين المناجم بخلاف ووجودها في جمهورية أفريقيا الوسطى بطلب رسمي من النظام الحاكم هناك لمواجهة المتمردين. إضافة إلى ما كشفته تقارير غربية مؤخرا بشأن وجود لمجموعات المترزقة الروس في دولة مالي.

وواكب التمدد العسكري الموالي لروسيا في دول القارة إعلان فرنسا وحلفائها عن سحب قواتهم المشاركة في قوتي “برخان” و”تاكوبا” من مالي بسبب تدهور العلاقات مع السلطات الانتقالية الجديدة هناك.

وأكدت فرنسا والدول الأوروبية الأخرى المشاركة في العمليتين وكندا أن “الظروف السياسية والعملياتية والقانونية في مالي لم تعد ملائمة لمواصلتها أنشطتها العسكرية في مجال مكافحة الإرهاب على نحو فعال “في هذا البلد”. وفق بيان أصدره قصر الإليزيه في السابع عشر من فبراير الماضي.

الخطوة الفرنسية أثارت مخاوف العديد من السلطات في الدول الأفريقية التي تواجه زحفا داعشيا. في ظل الحالة المتردية للجيوش وأجهزة الأمن في هذه الدول وعدم قدرتها على صد هجمات التنظيم.

“جي فايف”.. قاعدة يمكن البناء عليها

ختاما يمكن القول إنه في الوقت الذي تنشغل فيه القوى الدولية الكبرى بصراعات النفوذ العالمي. يتمدد تنظيم داعش في أفريقيا محاولا نسج خيوط دولة جديدة على مساحات متصلة من أراضي القارة في المناطق التي تعاني أوضاعا أمنية هشة وظروفا اجتماعية تمثل عوامل دفع لدولته بالشكل الذي دفع ولاية غرب أفريقيا التابعة للتنظيم تصل إلى مستوى من القوة بحسب تقرير صادر عن مركز السياسة العالمية. جعلها تسيطر على القاعدة العسكرية متعددة الجنسيات في نيجيريا على الجانب الآخر من بحيرة تشاد.

وباتت تسيطر على نحو 1% من مساحة القارة وهو ما يستلزم حراكا مكثفا لوأد تلك المحاولة في مهدها ومنع تكرار ما حدث سابقا في سوريا والعراق. خاصة وأنه في حال نجاح التنظيم هذه المرة فستكون عملية مواجهته حال تمكنه وتقوية قواعده هناك بالأمر شبه المستحيل. في ظل جغرافيا وتركيبة مجتمعية أكثر تعقيدا من تلك التي كانت في دولة الخلافة التي دمرتها عمليات التحالف الدولي.

وفي هذا الإطار يمكن للقوى الدولية إذا ما كانت ترغب في اتخاذ خطوات سريعة وفعالة. أن تسعى لتوسيع قاعدة التحالف الذي تأسس في الثامن والعشرين من ديسمبر 2018 تحت اسم مجموعة “جي فايف”. وهو يضم (النيجر-وتشاد-ومالي- وبوركينا فاسو-وموريتانيا). بعدما اتفقوا على العمل المشترك للتصدي لتحركات وأنشطة دعم وتمويل تنظيمي القاعدة وداعش وجماعة بوكو حرام في أفريقيا وتوجيه ضربات أمنية وعسكرية وتشكيل قوة مشتركة قوامها 5 آلاف مقاتل لتحقيق هذا الهدف.