السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ

في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

هذا بيت شهير لـ”أبي تمام”، شاعر العربية وفيلسوفها الجليل وكثيرًا ما يستشهد به الناس ظنًّا منهم أن الشاعر يقدم السيف على الكتاب، والعمل على الفكر.. والحق أن هذا الكلام على غير مراد أبي تمام العظيم؛ فالكتب التي يزدريها هذا البيت الشعري هي كتب السحر وقراءة الطالع ومتابعة النجوم، وكأنه يقول: لا يجب أن تضع الأمم مصيرها بهذه الكتب وتلك الأفكار غير العقلانية؛ فالأمم الناهضة القوية تُفكّر وتُدبّر (أي تتكلم) ثم تعمل وتنجز..!

وهو يقول بعد ذلك مستنكرًا:

أَينَ الرِوايَةُ بَل أَينَ النُجومُ وَما

صاغوهُ مِن زُخرُفٍ فيها وَمِن كَذِبِ

ورغم ذلك، ففي ثقافتنا– لأسباب تاريخية متعددة- من لا يرى في الكلام فائدة، أو من يراه (فزلكة) وتضييعًا للوقت، رغم أنه من المستحيل أن نجد إنجازًا ماديا دون فكر نظري يسبقه، أو دون رؤية، لا يوجد بناء أو عمل دون وجهة نظر وفلسفة ما، وهذه الأفكار تقدمها النُّخب المختلفة في المجالات المختلفة..!

فمن النُّخبة؟

كثيرًا ما نردد كلمة “النخبة”  Elite ونحن نقصد جماعة الكتاب والمثقفين، وكثيرًا ما يكون ذلك في مقام القدح والذم، باعتبار أن هذه الفئة من الناس– أي الكتاب والمثقفين– لا تفعل شيئًا غير الكلام، والأمم– فيما يتصور بعضنا- لا تُبنى بالكلام..!!

ومن الضرويّ هنا أن نعود إلى البحث في دلالة مفهوم النخبة بعد عقود طويلة من التشويه والاختزال، شأنه شأن مفاهيم كثيرة، تمّ الزجّ به في دائرة السِّجال السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ لمحاصرة الخصوم وتشويه الدعاوى. فالأصل أن مفهوم النخبة يتسع على مستوى الممارسة ليشمل كل صُنّاع الوعي من القيادات السياسية والحزبية وصنّاع الدراما والسينما والكتاب والمثقفين والمدافعين عن الحقوق العامة من المنتسبين إلى الجمعيات المدنية والقانونية، وذلك بجوار المدافعين عن الحقوق الخاصة من القيادات النقابية والعمالية..الخ.

فـ”النخبة” Elite إذن جماعة ممتازة من كل طبقة أو جماعة أو فئة، تمتاز بفاعليتها وقدرتها على التأثير والتوجيه، وهذا يعني أن لدينا نخبة سياسية، وأخرى دينية واجتماعية وثقافية… وظلت النخب- لفترة طويلة من حياة المجتمعات- واضحة الوجود والتمييز، من حيث الماهية (من هم؟) ومن حيث التأثير والتوجيه، ولكني لا يمكنني- بشكل قاطع- تحديد السياق الذي شُحن فيه هذا المفهوم بدلالات سلبية، ليغدو في الوعي العام قاصرًا على فئة الكُتّاب والمثقفين الذين يزعمون أنهم يمثلون الناس ويتحدثون باسمهم، ولا يرضيهم أي إنجاز، وربما لا يدركون – بشكل كافٍ – الواقع الذي يعيش فيه الناس..!!

والمفارقة المدهشة هنا، أن هذا التصور يتعمَّد إغفال الأثر المباشر للنخبة الحاكمة (أي السلطة التنفيذية) سواء أكانت عسكرية أم مدنية، رغم أنها – بطبيعة الحال- الأكثر تأثيرًا على الوعي، بحكم مواقعها المتقدمة، وما تمتلكه من قدرة على تحويل الأفكار إلى دساتير وقوانين، وما تمتلكه من سلطة الإجبار على التغيير، بل ومعارضتها لأي أصوات تنتقد مسارها؛ فالنخب الحاكمة – في مجتمعاتنا- هي مركز المركز، ونخبة النخبة؛ إنها تحتكر السلطة كما تحتكر “تمثيل” الوطن ليغدو على مقاسها ووفق شعاراتها، بل إنها تماهي– عامدة- بينها وبين الوطن، وهي لا تفعل ذلك بمفردها، وإنما تستدعي أو تصطنع من يدور في فلكها ممن يصحّ وصفهم بـ”النخب الزّائفة” أو الشَّكلية، في كثير من المجالات: (الدينية والثقافية والسياسية)، وهذه النخبة تُسمع السلطة ما يرضيها، وتُدافع عنها، ليس هذا فحسب، وإنما تعمل– بكل سبيلٍ- على إزاحة المختلفين معها أو عنها إلى الهامش الأخرس، سواء بالمنع من الكلام أو بالنفي في غياهب السجون…!

 

  فكيف حدث هذا التحول في دلالة المفهوم لتغدو مفردة “النّخبة” قاصرة على الكتاب والمثقفين؟ وكيف وُجّهَتْ سهام النقد إلى جماعة المثقفين الذين يعيشون– غالبًا- على هامش السلطة ليصبحوا– بفضل الخطاب الدعائي مسؤولين عن التخلف الحضاريّ، رغم أنهم لم يتقلدوا سلطة تنفيذية ولم يشرِّعوا قانونًا، ولا يملكون إلزام أي إنسان باتباعهم؟  

النخبة في عالم معولم..!

وبعيدًا عن هذا المدار وتلك التساؤلات التي لا تخلو من شجون، فالبحث في تاريخ المفهوم وتحولاته الدلالية في مجتمعاتنا بات اليوم من الماضي، ولعله من الحكمة أن نعيد التفكير في دلالة المفهوم، بعد أن تغيّر السياق المحليّ والعالميّ، وصرنا نعيش ثورة معلوماتية وتواصلية غير مسبوقة، كان من نتائجها المباشرة أن تغيرت إلى حد كبير مواقع الفاعلية والتأثير، لم تعد موازين القوى الاجتماعية كما كانت في السابق، لقد أعيد تعريف كثير من القيم والمفاهيم، وعلى رأسها مفهوم النخبة نفسه.

ولعله من فضول الكلام هنا أن أذكّرك بحظِّ مجتمعاتنا الفقير من تلك الثورة المعلوماتية غير المسبوقة؛ فنحن– بكل أسف- أمة مستهلكة لمنتجاتها، ونتأثر بما ينتج عنها أو يصاحبها من قيم ومفاهيم كثيرًا ما تتعارض مع ما نعتبره قيمًا أساسية فيما نتحدث عنه تحت عنوان “الهوية العربية والإسلامية”، ونحن– كما تعرف- لا نملك ما يمكن اعتباره أدوات حماية، يمكنها أن تدفع عنا معايب العولمة، أو تمكننا من مقاومة استلاب سطوة المركز الأورو- أمريكي.

لقد تراجع دور “النخبة الحاكمة” بعد انخراط الدولة الوطنية في اتفاقيات عالمية تتصل بالاقتصاد ومنظمات المجتمع المدني..الخ. فلم تعد النخبة الحاكمة تسيطر بشكل مطلق كما كان عليه الأمر قبل عقدين من الآن، وبات انتقادها ممكنًا في كثير من الدوائر الداخلية والخارجية، بل بات طبيعيًّا أن تُضطر إلى اتخاذ إجراءات معينة لا ترغب في اتخاذها، كما نرى ذلك بشكل واضح في ملفات ذات طابع عالمي كالاقتصاد والحقوق والحريات..الخ.

وهذا التغيير أصاب مفهوم النخبة الثقافية بطبيعة الحال؛ فلم نعد إزاء جماعة محددة تلقت تعليمًا رفيعًا، تحتكر المعرفة أو الرأي في الشأن العام.. لقد تفكك المفهوم وأصبح المتلقي- بحد ذاته- مشاركًا في نقاشات النخبة؛ إنه لم يعد يتلقي الأفكار بشكل سلبي، وإنما تمكّن- بفضل ما نعيشه من ثورة عير مسبوقة في التواصل والتدفق المعرفي– من المشاركة وإبداء الرأي.. إنه “عصر الجماهير الغفيرة” وفق تعبير الدكتور حسين أمين.

ولقد أدى هذا بشكل واضح إلى تراجع دور النخبة، بكل أنواعهاا؛ فلم تعد تمتلك الحقيقة، ولم تعد مصدر التفسير والتحليل، فهناك من يشاركها ذلك، وكأننا فقدنا صورة المنصّة التي كانت تقدم المعرفة إلى جمهور القاعة، منصّة عالية، ومعرفة تسير على نحو رأسيّ من المنصة المرتفعة إلى الجمهور، لقد أزيحت هذه الصورة وتحولنا إلى صورة المائدة المستديرة، وفيها يجلس الجميع على نحو متساوٍ أو (شبه متساوٍ)، فهنا أنت تقول وتسمع، تقدم خطابك وتتلقى الاعتراضات في الوقت نفسه، معرفة أفقية، تداولية، ضمن مساحة مكفولة للجميع.

ومن الآثار الواضحة على ذلك التحول ما تلاحظه بنفسك من تراجع صورة النخبة الدينية والثقافية والسياسية في الوعي العام؛ فنتيجة للقدرة المذهلة على النقاش والاعتراض اهتزت صور الجميع، واتسع المفهوم ليضم شرائح واسعة لم تكن تجد مساحة فيما سبق.. لقد أدى هذا إلى تراجع صورة مُمثِّل النخبة الدينية أو السياسية أو الثقافية؛ فعلى سبيل المثال: كانت صورة الرئيس جمال عبد الناصر آخر صورة لحاكم يضعها المصريون والعرب طوعًا على جدران بيوتهم، وكذلك كانت صورة الشيخ الشعراوي..

لا يمكنك اليوم أن تجد مثل هذا الرضا الجماهيريّ عن الشيخ أو الزعيم، أو لا يمكنك أن تتحدث عن نخبة سياسية تُمثِّل – وحدها أو منفردة – الناس سياسيًا ودينيًّا على نحو ما كان قبل عقدين فحسب.. فما الذي يعنيه ذلك كله؟

يعني أن مفهوم النخبة صار أكثر انفتاحًا ولا أريد أن أقول أكثر سيولة؛ فكل خطاب– سياسي أو ديني أو ثقافي- لا يمكنه أن يُلقى دون تعليق أو نقد أو مراجعة من قبل المتلقي، ففي الوقت الذي يتحدث فيه ممثل النخبة السياسية تجد– هنا أو هناك- من يفكك خطابه، ويحلل لغة جسده، وكذلك ممثل النخبة الدينية، لا يهم هنا إن كان التفكيك يرضيك أو لا يرضيك، وإنما المهم أنه يحدث أو أنه واقع لا سبيل إلى إنكاره..!

كل هذا يفرض علينا إعادة التفكير في هذا المفهوم، وفي تحولاته التي فرضتها عليه ثورة التواصل، لا يمكننا إنكار دور النخبة اجتماعيًّا وسياسيًّا أو الزعم بأفوله وعدم الحاجة إليه؛ فالحقيقة أننا يجب أن نتعامل مع الواقع الجديد كما هو، يجب أن نتقبل هذا الاتساع في المفهوم، وألا ننشغل بفكرة الإجماع وسلطة التوجيه، لقد صار هذا كله من الماضي، بل لعلي أقول: إنّ ما يجري لا يخلو من فوائد، منها مثلا أن على السلطة (وهي النخبة المركزية في مجتمعاتنا) أن تقدم خطابًا مقنعًا، أن تقدم خطابًا لا يستمد قوته الحجاجية والإقناعية من السلطة بقدر ما يستمده من صدقه وقوة منطقه، وقل الأمر ذاته عن الخطاب الديني والثقافي..الخ..

وإذا عجزت هذه النُّخب عن تقديم خطاب حيّ تشترك فيه مع الجماهير ويلتقي عليه الجميع أو إذا أصرّت على ممارسة دورها على نحو ما كان يحدث سابقًا فسوف تجد نفسها معزولة، تقدم خطابًا خارج السياق لمتلقٍ لم يعد موجودًا بعد أن امتلك القدرة على البحث عن الخطابات التي تمثّله وتُحدّثه عن مشاكله وهمومه كما يراها ويفهمها..!