تماما كما فاجئنا وباء فيروس كورونا من غير لا نحتسب، فانقلب العالم بين يوم وليلة، وتغير نمط الحياة وفُقدت ملايين الأرواح، ها هو وباء آخر كنا نظن أنه صار أيضا من آثار الماضي، وهو الحرب التقليدية، التي اندلعت بالغزو الروسي لأوكرانيا، وإذا كانت كل حرب في أي عصر تؤثر في كل العالم مهما كان موقعها، فإن الارتباط العولمي المتزايد قد زاد من قوة هذا التأثير، وصار  من البديهي أن تنطلق المدافع في قارة، فترتفع الأسعار بعد لحظات في قارة أخرى، ويتشرد مواطنون في قارة ثالثة. ويبكي أقارب وأبناء في قارة رابعة، وإذ يتغير الزمن وتتبدل أنواع الأسلحة تبقى الحرب هي نفسها، في دمويتها وعشوائية ضحاياها، كأنها التأثير المركز للموت كما وصفه زهير ابن أبي سلمى قبل 1500 عام “رأيت المنايا خبط عشواء..  من تصب تمتهُ ومن تخطيء يعمر فيهرم”.

ولا يهم إن كنت ترى أن لروسيا دوافع محقة في حماية محيط أمنها القومي المهدد بتوغل حلف الناتو، أو إن كنت تؤمن بأن غزو دولة لدولة أخرى هو أمر مرفوض من حيث المبدأ، وأداة للخراب والدم. ففي الحالتين، تقود الحرب بلا شك إلى عالم أسوأ، إلى مدن مدمرة وعائلات مشتتة وأطفال قتلى وجنود شبان يزفون إلى الموت بدلا من الحياة، وقبل كل ذلك وبعده، إلى أحقاد لا تنتهي قبل تعاقب أجيال عديدة قد تمتد إلى مئات السنين.

وعلى كل فلسنا هنا لنناقش ما هو معلوم عن الحرب بالضرورة، وإنما لنتسائل عن مسؤولية المجتمع الدولي عن استمرار اندلاع حروب بهذا الحجم، وكأننا في عالم ليس به “أمم متحدة” ولا “مجلس أمن” ولا “قانون دولي” ولا “ميثاق عالمي لحقوق الإنسان”. لقد طالب مسؤولون أوكرانيون بـ”طرد روسيا من مجلس الأمن”، وناقش آخرون منح المقعد الروسي الدائم لجمهورية أخرى من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، ولا شك أن هذا الحديث هو الهزل نفسه، فالمقاعد الأممية الدائمة محجوزة بقوة الجيوش والأساطيل والسلاح النووي، وطرد دولة نووية عظمى من مجلس الأمن لن يغير من واقعها النووي لكنه سيحوّل مجلس الأمن إلى حلف من الأحلاف.

وبالطبع فإن الاجتياح الروسي لأوكرانيا هو الضربة الثانية لمجلس أمن ما بعد الحرب الباردة، بعد الضربة الأولى التي وجهتها أميركا وبريطانيا باحتلال العراق، وإذا كانت تلك الضربات قد أضرت بالدور القانوني – والأخلاقي –  للمنظمة الأممية، فإن عالم القطب الأميركي الواحد، الذي تحلل فيه الأمريكيون من عبء “قيم العالم الحر” التي كانت ضرورية لمواجهة الدعاية الاشتراكية، واكتفوا فيه بالبراجماتية الكاملة، التي كانت آخر  معالمها التخلي عن الأفغان لمصلحة طالبان، والتخلي عن الأكراد لصالح أردوغان، ما يمكّننا أن نرى تلك الصورة الكاملة، صورة عالم يتعطل فيه الدور القانوني لمجلس الأمن، والدور الأخلاقي للضمير الديمقراطي، ليس غريبا أن يصبح مثل ذلك العالم ساحة فسيحة لمغامرات الطغاة من كل الأنواع.

في تاريخ قريب جدا، اكتشف الغرب أن عدم توفير اللقاحات لسكان العالم الثالث سيسمح للفيروس الوبائي بخلق تحورات لا تنتهي سرعان ما ترتد على “العالم الأول”، الأمر الذي ساهم في تزويد فقراء العالم بلقاحات كانت تٌلقى في القمامة لفوات صلاحياتها، وكذلك فإن نفاق وانكفاء “العالم الحر”؛ الاكتفاء بالبترول مع طرد اللاجئين من السواحل، لن يجعل هذا الكوكب آمنا.