*أراد الرئيس پوتن تحقيق هدفين رئيسيين من تهديده بغزو أوكرانيا. الأول منع حلف شمال الأطلنطي من التمدد شرقاً؛ والثانى الأكثر أهمية، تفادى حدوث ثورة ملونة فى روسيا، وردع الغرب عن التدخل فى شئونه الداخلية. لكنه عندما اتخذ قراره بشن الحرب غير المبررة على أوكرانيا لم يحقق إلا عكس ذلك تماماً. فقد قام حلف شمال الأطلنطي بنقل قوات إضافية وعتاد عسكرى إلى أعضائه المُحاذين لحدود روسيا؛ وبدأت فنلندا والسويد المحايدتان تدرسان الانضمام للحلف؛ وتقدمت أوكرانيا رسمياً بطلب الانضمام للاتحاد الأوروبى؛ وأصبحت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبى تتحدث الآن عن تغيير النظام فى روسيا.

لقد كتبْتُ الشهر الماضى عن المَخْرَجِ المُشَرِّفِ من الأزمة قبل اندلاع الحرب. وقد تضمن عدداً من التنازلات البسيطة والمهمة فى نفس الوقت من جميع الأطراف، لا سيَّما الاعتراف بالواقع وتجميد طلب انضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلنطي، خصوصاً وأن الأخير ليس مستعداً لقبول عضويتها. لكن من الواضح أنى كنت مخطئاً عندما ظننْتُ ألَّا أحد يريد الحرب.

 

فقد اختار كل طرف اختبار تهديدات الطرف الآخر. وقررت روسيا الدخول فى مباراة صفرية النتائج، فإما النصر أو الهزيمة. فلدى روسيا نظرياً إمكانية تحقيق انتصار كامل على أوكرانيا فى المدى القريب؛ ومهما كانت بسالة المقاومة الأوكرانية، فمن المتوقع أن تتمكن روسيا من التغلب عليها خلال الأسابيع، إن لم يكن الأيام، القادمة. لكن المشكلة بالنسبة لروسيا أن المباراة لا تقتصر على أوكرانيا وحدها؛ بل تتضمن أطرافاً أخرى مهمة، مثل حلف شمال الأطلنطي، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وهم يملكون -نظرياً كذلك- قدرات عسكرية جماعية تتفوق على إمكانيات روسيا الجبَّارة. هذا، فضلاً عن أن كثيراً من الدول الأخرى سوف تتأثر بالتبعات الاقتصادية للحرب مما يجعلها تتردد فى مساندة روسيا، مهما كانت تكره الغرب، كما ظهر فى تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأمس على قرار إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا؛ إذ لم يصوت مثل روسيا ضد القرار سوى بلاروس، وسوريا، وكوريا الشمالية، وإريتريا؛ حتى إيران، وبوليڤيا، وكوبا، وڤنزويلا، وكازاخستان التى تدخلت القوات الروسية لمساندة حكومتها ضد ثورة محتملة منذ أقل من شهرين، لم تستطع التصويت مثل روسيا بل امتنعت أو تَغَيَّبَتْ عن التصويت.

 

يتمتع الرئيس پوتن بنظامٍ سياسيٍّ مَرِنٍ مقارنةً بخصومه. فهو يستطيع اتِّخاذَ قراراتٍ مصيرية دون الحاجة إلى إذنٍ مسبق، ودون ضغوطٍ تُذْكَرُ من الرأى العام فى الداخل. ثَبُتَ ذلك عملياً من طريقة إخراجه لقرار الاعتراف بالجمهوريتين الإنفصاليتين فى أوكرانيا، ومن ثَمَّ شَنِّ “العملية العسكرية الخاصة” هناك. هذا، بينما يتواجد بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى رأىٌ عامٌّ قوىٌّ ضد الحروب وما يستتبعها من معاناة إقتصادية. لكن قرار پوتن بغزو أوكرانيا كاملةً أدَّى إلى تقليص هذه الميزة بشكلٍ ما. فقد حَرَصَت كل دولة عضو فى حلف شمال الأطلنطي الآن على إعادة تأكيد التزامها بالدفاع المشترك عن أىِّ شِبْرٍ من أراضى الحلف بجميع الوسائل، بما فى ذلك الوسائل العسكرية. كما احتشد الرأىُ العام فى معظم دول الحلف، وغيرها، للحثِّ على اتخاذ رد فعلٍ حازم لمحاسبة روسيا على غزو أوكرانيا ومنعها من التوسع غرباً. وقد انعكست تلك المعطيات الجديدة فيما اتَّخَذَتْهُ الولايات المتحدة، واليابان، وأستراليا، والمملكة المتحدة، والاتحاد الأوروبى -بما فى ذلك ألمانيا، وإيطاليا، وفرنسا-، ودول أوروبية أخرى -بما فى ذلك دول محايدة مثل السويد، وفنلندا، وسويسرا- من إجراءات لإمداد أوكرانيا بالعتاد العسكرى و/أو فرض عقوبات إقتصادية صارمة على روسيا، رغم تهديدات الأخيرة بعواقب مدمرة غير مسبوقة لمن يتدخل ضد عمليتها العسكرية فى أوكرانيا.**

 

تزداد الأمور تعقيداً أمام پوتن كذلك بالنظر إلى أن لخصومه اليد العليا من الناحية الإقتصادية. إذ يواجه الاقتصاد الروسي تحديات هامة بصرف النظر عن أزمة أوكرانيا، فهو يعتمد بصفة أساسية على صادرات النفط والغاز والموارد الطبيعية، بينما يتحمل أعباء إنفاق عسكرى ضخم للحفاظ على تنافسية القدرات العسكرية الروسية بصفة عامة، إلى جانب تمويل التدخلات الروسية فى سوريا، وليبيا، وعدد من الدول الأفريقية. ولا شك أن الحرب فى أوكرانيا سوف تُشَكِّل عبئاً إضافياً لتمويل إدارة الدولة بعد احتلالها و/أو تنصيب ودعم نظام عميل هناك. هذا، فضلاً عن تكلفة الحملة العسكرية ذاتِها، وأثرِ العقوبات الاقتصادية الصارمة التى فرضها الغرب على روسيا. فالمسألة لا تتعلق بما إذا كان الاقتصاد الروسي الضعيف يستطيع تحمُّل تلك التحديات الجسيمة، بل بالفترة التى سيصمد فيها قبل أن ينهار إذا استمرت وتوسعت العقوبات.

 

لقد أقام پوتن حساباته على الأرجح بناءً على رد الفعل الواهن تجاه غزوه ثم ضمه لشبه جزيرة القرم عام ٢٠١٤، وحملاته العسكرية فى الشيشان، وجورجيا، وأبخازيا من قبل. فقرر احتلال أوكرانيا كاملةً، وتغيير النظام السياسى هناك، ولم يهتم برسالة الولايات المتحدة عندما أشار الرئيس بايدن فى يناير إلى أن الأمر إذا اقتصر على تدخل عسكرى محدود النطاق فإن رد الفعل سيكون محدوداً كذلك. لدى الرئيس بايدن أفضلية وجود مستشارين أكفاء، ومعارضة قوية، ورأى عام نشط دفعوه للتراجع عن تلك التصريحات بسرعة؛ بينما يفتقر الرئيس پوتن لمزايا النظام السياسي المنفتح. وقد بات تحركه المنفرد ضد أوكرانيا، الذى لم يواجه مراجعةً داخليةً تُذْكر، يشكِّلُ تهديداً لمستقبله السياسي ذاتِه. فقد أصبحت الولايات المتحدة والدول الأوروبية تتحدث صراحة عن تغيير النظام فى روسيا. ويُعْتَبَرُ ذلك تطوراً مهماً مقارنةً بما قبل الأزمة فى أوكرانيا عندما كانت تلك الدول تكتفى بتشجيع المعارضة الروسية الليبرالية على استحياء.

 

لقد ظن الرئيس پوتن أن احتلالَه لأوكرانيا وتنصيبَ نظام موالٍ له هناك، سَيَحْرِمُ حِلْفَ شمال الأطلنطي من التمدد شرقاً، ويرْدَعُ الغربَ عن التدخل فى شئونه الداخلية، ويُعَزِّزُ قدرتَه على البقاء فى السلطة. لكن فاته أن المباراة لن تتوقف عند ذلك؛ فقد تغيرت قواعد اللعبة. لقد نجح فى تحقيق المستحيل: نجح فى توحيد المعسكر الغربى ضده، بصرف النظر عن تعارض المصالح الاقتصادية لأعضائه فى كثير من الأحيان.

التاريخ لا يعيد نفسه بالضرورة، لكنه يقدم دائماً دروساً وسُنُناً وعِبَراً تنطبق على مواقف مختلفة. ومن يفشل فى استيعاب تلك الدروس يخاطِرُ بأن يصبح هو نفسه عبرةً من عبر التاريخ. ولن تجد لسنة الله تبديلاً.

 

———

هذا المقال ترجمة من كاتبه بتصرُّف لمقاله الأصلى بنفس العنوان المنشور فى مجلة آميركا تايمز بنيويورك باللغة الإنجليزية يوم 3 مارس الجارى، مع إضافة التحديث الخاص بتصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة فى المَتْن؛ والهامش التالى (*) بشأن مقاطعة الفرق الرياضية الروسية.

**كما انعكس كذلك فى قرارات تلك الدول والهيئات الرياضية الدولية بمقاطعة الفرق الرياضية الروسية؛ رغم حرصها على عدم خلط الرياضة بالسياسة، وعلى معاقبة أو تغريم أى لاعب عربى شجاع يرفض اللعب أمام منافس من إسرائيل مثل لاعب الجودو الجزائري فتحى نورين، أو يُبْرِزُ مساندته لفلسطين مثل لاعب الكرة المصرى محمد أبى تريكة. وأرى أن مبدأ عدم الخلط هو الخطأ، وأن قرار المقاطعة هو الصواب بصرف النظر عن التفاوت فى تطبيقه، إذ لا تزر وازرةٌ وزر أخرى.

 

السفير معتز أحمدين

هو سفير مصر السابق في الأمم المتحدة (25 مايو 2012 حتى نهاية سبتمبر 2014)