ظهر فيديو “أندرو” كصرخة اجتاحت مواقع التواصل الاجتماعي لا سيما حسابات الأقباط المصريين. شاب في مقتبل العمر يعاني صعوبات نفسية ويبدو من طريقة كلامه أنه من ذوي الإعاقة أيضًا. ولكنه يفارق الحياة منتحرًا بعد ترك فيديو يشكو فيه من خدام الكنيسة ومناخ عام في الجيتو القبطي الاختياري الذي يتهمه أندرو بأنه السبب في شعوره بعدم القبول اجتماعيًا. وهو ما نفته الكنيسة على لسان الأنبا مارتيروس أسقف إيبراشية كنائس شرق السكة الحديد الذي كان الفقيد يتلقى الخدمة الكنسية فيها.
الكنيسة “جيتو الأقباط” الاختياري
مارك فلبس الباحث في اللاهوت الأرثوذكسي يرد القضية إلى أصلها الاجتماعي فيؤكد “توجد الكنيسة لتخلص العالم، وترعاه، لتكون له مسيحًا، هذا هو الغرض الأول والنهائي لها”. ولكنه في الوقت نفسه يؤمن أن هناك انحصار كامل للوجود الاجتماعي القبطي داخل الكنيسة التي تحولت إلى “حارة للنصارى”. تتجلى فيها كافة تشكلات هذا الوجود بما فيها الرعائية والنفسية على حد تعبيره.
وفي الوقت الذي أنتج فيه تكتل الأقباط داخل الكنيسة رعاة قديسين وعظماء على كافة مستويات الخدمة الأسقفية والكهنوتية والتربية الكنسية. وفقا لما يطرحه مارك، إلا أنه أفرز في المقابل ما يُمكن أن نسميه “أزمة الرعاية الكنسية” نتيجة اختلاط الروحي بالاجتماعي، واشتباك اللاهوتي مع النفساني.
كيف تغير مصطلح الكرازة داخل أسوار الكنيسة القبطية؟
الجيتو القبطي كما يراه مارك أسهم في تفريغ مصطلح “الكرازة” أي بشارة المسيح لجميع الأمم من معناها اللغوي. وصارت مثلا مع الوقت اسمًا لمهرجان شبابي فيه دراسة الكتاب المقدس جنبًا إلى جنب مع الأنشطة الترفيهية والرياضية.
يضيف مارك: “وعلى قدر ما أفرزته فعاليات المهرجان طوال سنوات كثيرة من تنمية المعرفة اللاهوتية وتفريغ للطاقات. بل واكتشاف حقيقي لمواهب يستخدمها الله لنمو الكنيسة، على قدر ما طحنت البُعد الروحي في رحى التنافسية”. موضحا: “على القدر نفسه، أسهم مهرجان الكرازة في تكريس حركة أدلجة الكنيسة لتتحول من اجتماع بين الله والإنسان بغرض العبادة. إلى بديل شامل عن كل ما هو موجود في الحياة الاجتماعية خارجها، وكما غاب التعليم الأرثوذكسي الأصيل عن الإنسان. يغيب هذا الإنسان ذاته ليتحول إلى “فتى المسابقات” الذي لا قيمة له إلا بالقدر الذي يساهم فيه في نجاح المجموع”.
عبارات دالة قالها أندرو تنكأ جراح الكنيسة
يحلل مارك الكلمات الأخيرة في حياة أندرو الذي كشف انتحاره عما يمكن تسميته أزمة الرعاية الكنسية. فيقول: “كرر أندرو كلمة (مافيش) ومرادفاتها حوالي 9 مرات “أندرو مابيجيش الكنيسة ليه؟.. مابيجيش الكنيسة بسببكوا، انتوا السبب.. عشان مافيش..”، وعدد الأسباب قائلا : “كل هذا المافيش يقع في قلب فعل الرعاية والخدمة المسيحي وفي صلبه!. معتبرا أن أزمة الرعاية الكنسية هي الانعكاس الطبيعي لتجلي أزمات أكثر عمقًا وجذرية داخل الكنيسة.
أزمة الرعاية الكنسية المعاصرة
طرح مارك عدة تصورات عما يسميه أزمة الرعاية الكنسية فهي من ناحية أزمة الهوية: مَن نحن؟ وماذا نفعل هنا؟ هل الكنيسة هى مسرى الإنسان إلى ذاته ومعراجه إلى الله. أم سوقًا كبيرًا للفاعليات وعالمًا موازيًا بديلًا نعيش فيه ويعيش فينا؟!. بينما أشار إلى ثاني الأزمات وهي ذات أسباب لاهوتية عميقة داخل الكنيسة القبطية، قائلا “القبطي في ظل هذه المؤسسة هو فرد يوجد من أجل الكل. لا شخص يوجد من أجل ذاته ومن أجل دعوته ذلك الكُل الذي يغيبه، يشيئه، ويوجده في حالة ضبابية من الاغتراب والاستلاب عن وجوده الحقيقي وغرض حياته”.
يظن مارك أن السبب الثاني هو الأصل العميق لكل الحراك اللاهوتي المعاصر بين شباب الكنيسة القبطية، داخل وخارج أسوارها. مضيفا: “ثم تأتي أكثر الأزمات فجاجةً، وهي أزمة المؤسسة، بسلطتها وسلطة رجالها، التي تمنح وتمنع بإرادتها المنفردة. تمول مشروعات الرخام وحمامات السباحة، وتنسى الإنسان، وتنسى فقره وجهله واحتياجه النفسي للشركة الإنسانية العميقة بين أخوته في الكنيسة”.
ماذا قالت الكنيسة ردا على الانتقادات؟
وعلى الرغم من انتقاده للكنيسة التي يرى إنها تعيش أزمة في رعايتها للشباب لكن الباحث الأرثوذكسي يؤمن في الوقت نفسه. أن حادث وفاة أندرو هو الموسم الرائج لبضاعة انتقاد الكنيسة الرديئة من قبل عدد كبير من الذين لم ولن يخدموا في تلك الكنيسة التي ينتقدونها. فيقول: “يغيب عن هؤلاء أن هناك عضوًا في جسد المسيح مذبوحًا لم نستوثق أبدًا أنه ذُبِحَ بسكين كنيسته. ليأخذوا هم بدورهم أيضًا سكينًا ليذبحوا بها تلك الكنيسة التي قالت وبوضوح بعد نشر الفيديو إنها لم تُقصِّر هي ولا خدامها: أبدًا في محبة أولادهم وخصوصًا ذوي الاحتياجات الخاصة”،
بينما ذكرت الكنيسة في بيانها أنها لم تُشهِّر بولدها أبدًا، ولم تدافع عن ذاتها بل عن جسد المسيح المذبوح. وكم من حالات نفسية داخل الكنيسة وخارجها لم تستجب للعلاج رغم كافة المحاولات، وهذا ما أوضحته الكنيسة بهدوء في بيانها: “كان يُعاني من أمراض جسدية ونفسية وعصبية كثيرة، وكان يؤذي نفسه كثيرًا، ولم تقصر معه أسرته الصغيرة أو الكبيرة متمثلة في الكنيسة وخدامها، الكل يحبه، وكطفل يتعلق بالجميع ويغضب لأي سبب”
ينتفض مارك في الدفاع عن الكنيسة قائلا: لدى هؤلاء البعض تصور مشوه عن الكنيسة كجماعة منفصلة عنهم ومنفصلين عنها، وهي تتولى الخدمة ومآسيها، بينما هم يتولون انتقادها على الفيسبوك، كل هذا السعار المحموم بدون دراسة لحالة “أندرو” على أرض الواقع والجهود التي بذلها الخدام أو لم يبذلوها، خاصة أن كلام الشاب رحم الله روحه كان مشحونًا بالتعبيرات الغاضبة مثل: “تتبلوا عليا”، “تصدقوا عني كلام”، “حرام عليكوا تطلعوا عليا إشاعة مش صحيحة عني”.. ما تلك الاشاعات؟!! ماذا جرى بالضبط؟!.. لا أحد يعلم.
فيما يؤكد الأنبا مارتيروس: معرفة أي أخبار صحيحة عن هذا الموضوع يكون مصدرها الكنيسة وخدمة الحالات الخاصة لا تحتاج إلى بوق وإعلانات ولكن الشاب كان يعاني وبذلنا جهدا كبيرا لاحتوائه.