لو تخيلت التطور الطبيعي لأبناء عادل إمام الصغار في فيلم “الإرهاب والكباب” لأوصلك خيالك إلى أنهم سيكونون من خريجي كلية الآداب! تلك الكلية التي يدخلها أبناء البسطاء والشرائح الدنيا من الطبقة المتوسطة. هؤلاء الأطفال الذين كان يحاول عادل إمام في الفيلم نقلهم من مدرسة لأخرى، توفيرًا للانتقالات والجهد والمصاريف!

الآداب والتجارة والحقوق والتربية هي كليات أبناء الطبقة المتوسطة بامتياز. وهي كليات عظيمة تخرج فيها الكثير من المشاهير والناجحين في مجالات التدريس والإعلام والقانون!

بين الكليات النظرية وفيلم الإرهاب والكباب رابط لا يخفى على أحد.

كلاهما يمثل الطبقة المتوسطة ويرمز إليها!

عادل إمام المواطن البسيط ابن الطبقة المتوسطة التائه وسط بيروقراطية دولة لا ترحم قد تحيله في لحظة من شخص عادي إلى إرهابي متهم بالقتل والتفجير.

والكليات النظرية ينتمي إليها أبناء الطبقة الوسطى؛ لأن الغالبية العظمى منهم لا يملكون مصاريف الكليات الخاصة. ولم يحصل أبنائهم على مجاميع كبيرة في الثانوية العامة تؤهلهم للالتحاق بكليات القمة.

فالمجموع الكبير يعني ببساطة: دروس خصوصية أكثر وأغلى.. تلك التي لا يملكها أبناء البسطاء ولا الشرائح الدنيا من الطبقات المتوسطة!

في مجتمعات لا تحترم الفن ولا الفكر، ولا تؤمن بالعقل والكتابة تتحول الكليات النظرية إلى رقم زائد وعبء على سوق العمل.

فلا مجال في وسط الدول الجامدة للفن والفلسفة والتاريخ والجغرافيا وعلم الاجتماع!

مجرد “كمالة عدد” لا تسمن ولا تغني من جوع!

المؤكد أن سوق العمل في أي دولة ناجحة ليس عشوائيا، ولا هو متروك للصدفة والارتجال، بل هو جزء من تخطيط الدول التي لا يمكن أن تستغني عن الطب والهندسة والتكنولوجيا بنفس القدر الذي تحترم وتشجع الآداب والفلسفة والتاريخ والجغرافيا!

سوق العمل في الدولة الجادة ليس متروكا للتجار ورجال الأعمال، وليس مرهونا بفكرة البناء والطوب والأسمنت، ولا يمكن أن تسمح الدول بترتيب ينفي الأدب والفكر والتاريخ وإلا اختل توازن المجتمع وفقد جزءا مهما من علوم تشكل وجدان الإنسان وتحمي ذاكرته وتراثه وقضاياه الكبرى!

في تقديري فإن فيلم الإرهاب والكباب لم يقل رسالته فقط في مجمع التحرير رمز الدولة البيروقراطية التي تفتقد للعدالة، بل قالها في “الاتوبيس” وهو مكان له معنى ويحمل رمزية خاصة لأنه وسيلة النقل الأساسية للطبقات الفقيرة والمتوسطة!

حوار في منتهى البساطة يمهد لما هو قادم وسيراه البطل في مجمع التحرير!

رسالة الفنان عبد العظيم عبد الحق في “الاتوبيس” كاشفة للإنسان وأزماته، رسالة على بساطتها تحمل معاني وطن لا يفارقه الجمود ولا “الكذب”.

هو حضرتك بقالك كام سنة بتقرا الكلام ده؟ في إشارة إلى الجورنال الذي يحمله!

– والله سنين كتيرة يا أبني قريته وأنا تلميذ.. وقريته وأنا موظف وقريته وأنا عازب .. وقريته وأنا متجوز وعندي عيال.. قريته وأنا بكامل صحتي.. وقريته وأنا بعيد عنك وعن السامعين عندي المرارة.. كله كلام يا ابني كلام

– طب هو مفيش حاجة هترخص؟

– حاجات كتير هترخص وهتبقي بسعر التراب أنا وانت والاستاذ وحضراتهم أجمعين.

ويضيف قبل أن بغادر الاتوبيس الرسالة الخالدة!

– وسع يا سيدي، وسعوا يا بتوع معلش، يابتوع مسيرها تفرج، وسع يا سيدي، وسعوا ديه ازايز القازوزة واقفه ومترصصة في صناديقها ومستريحة عنكم ولو حد ضغط عليها تفرقع  يا جبناء يا اللي صوتكم مايعلاش إﻻ في الفارغة،

خليكم في اللي أنتم فيه ربوا العيال، وروقوانفسكم ليلة الخميس، ويوم الجمعة أتوضوا وروحوا صلوا، وكفايه عليكم الدعا ورا الإمام، جاتكم ستين نيلة.

بحوار بسيط وجميل يضع وحيد حامد الناس في مواجهة أنفسهم وفي مواجهة معاناتهم وصمتهم على ما معاناة لا تنتهي!

قضايا ومآسي أبناء الطبقة المتوسطة تتشابه إلى درجة التطابق!

لا تبدأ في الأتوبيس ولا تنتهي في مجمع التحرير ومؤسسات الدولة البيروقراطية التي قد تحيل الإنسان إلى إرهابي في لحظة!

ثم إنها لا تنفصل أبدا عن اختيار كليات الآداب والتجارة والحقوق والتربية لأبناء يدفعون الثمن مرتين: مرة عندما يتحملون فاتورة تعليم فاشل لم تفلح حكومة واحدة في إصلاحه منذ عشرات السنين، ثم سوق عمل هجرته الحكومات وتركته للصدفة والعشوائية والارتجال والعبث!

ليست كليات الآداب هي المشكلة، بل الفشل في التخطيط!

وليس فيلم الإرهاب والكباب هو الأزمة بل افتقاد المواطن للعدالة المساواة والكرامة!

فتشوا في أوراق الدولة القديمة إذا كنتم تبشرون الناس بجمهورية جديدة، وابنوا هذه الجمهورية على نقيض القديم بأكمله، افتحوا الباب للمساواة والكرامة والعدالة، واغلقوا أبواب الفساد والاستبداد.

واحترموا خريجي كليات الآداب والتربية وأنتم تضعون أياديكم لترتيب سوق العمل.

ستظل الطبقات المتوسطة تحترم كليات الآداب لأنها تناسب أمكانياتها المادية ولأنها تحب الفكر والفن والأدب!

وسيظل المصريون يحبون فيلم الإرهاب والكباب لأنه عبر عن واقعهم ولم يخلق واقعا جديدا مزيفا!

والكرة في ملعب السلطة إذا أرادت ان تصنع مجتمعا جديدا لا مكان فيه للظلم ولا الفساد ولا الإحساس بعدم المساواة!