بعد ما يقارب السبعين سنة على قيام الجمهورية، وبعد أن جربنا حكم الملكية الوراثية، ومن بعد حكم الرئاسة الوراثية، وتأمَّر علينا الباشا، والخديوي، والسلطان، والملك، والرئيس، وقبلهم حكمنا المماليك، والولاة التابعين للخليفة، سواء في الشام أم في العراق أم من المغرب، أم من تركيا، بعد كل هذه الرحلة الطويلة مع حكام من شتى البقاع، ومن مختلف الخلفيات، ما زالت أزمة مصر قائمة، وما تزال مشاكلها المستعصية على الحل بدون وصفة تخرجنا مما (انغرزنا) فيه منذ قرون طويلة.

تاريخنا الحديث كله يحكي قصة مسارٍ طويلٍ على مدار قرنين من الزمان بقيت خلالهما أشواق المصريين إلى «إخراج مصر من جعبة الحاكم» تزداد يوما بعد يوم، حاولنا مرارًا، نجحنا مرات، وأخفقنا كثيرًا، واكتشفنا أخيرًا أن العيب لم يكن في نوعية الصيغة الحاكمة فقط، ولا في النصوص التي نتحاكم إليها وحدها، بل ظل العيب الأساسي طول الوقت يتجسد في نوعية الحكام الذين تحكموا فينا، وتمثلت أكثر في هذا الإصرار العجيب الذي تواصوا به حاكمًا من بعد حاكم، على أن يُبعدوا الشعب عن المشاركة في القرار، واعتباره الرقم الأضعف في معادلة الحكم.

**

حكايتنا مع مشاركة الشعب في حكم نفسه حكاية طويلة، وجدارتنا لممارسة الديمقراطية تشهد عليها تجاربنا المتعددة والمتنوعة، تبدأ الحكاية من قبل الحملة الفرنسية بثلاث سنوات، حيث استطاعت ثورة الفلاحين التي انضم إليها وناصرها علماء الأزهر، وكانت واحدة من أنضج صفحات التلاحم بين الشعب والعلماء، وانتهت بانتصار الإرادة الشعبية، وإرغام الوالي العثماني والمماليك على وضع أول وثيقة مكتوبة في تاريخ مصر الحديث تنظم بعضًا من أسس العلاقة بين الحاكم والمحكومين.

تخبرنا وقائع التاريخ أن زعماء المصريين صمموا على توثيق التعهد في صورة «حجة شرعية» موقعة من أصحاب السلطة والسلطان في مصر وقتها: وهم الباشا الوالي (التابع للخليفة العثماني في إسطنبول)، وشيخي البلد المماليك «مراد بك» و«إبراهيم بك»، وهي الوثيقة التي اعتبرها بعض المؤرخين بمثابة «ماجنا كارتا» مصرية تشبيهًا لها بالعهد الأعظم الذي انتهت إليه ثورة النبلاء الانجليز ضد الملك جون الثاني، ولكن سرعان ما نكص عنها أمراء المماليك، وزادت مظالمهم واشتدت قبضتهم على الناس حتى جاءت الحملة الفرنسية.

**

تستمر حكايتنا مع الحكام وقد شهدت إحدى تجلياتها في أواخر القرن الثامن عشر، كانت مصر حينئذٍ على موعد مع الانعتاق من حكم المماليك الجائر، وقد خرجت لتوها من معركة كبرى استمرت ثلاث سنوات تخلصت فيها من الحملة الفرنسية، وقد اشتعلت القاهرة خلالها بثورتين، وقويت شوكة قوى المقاومة، وهرب «نابليون بونابرت»، واغتيل نائبه الجنرال «كليبر»، ولم تلبث الحملة التي أرادت إخضاع مصر لعقود طويلة أن حملت عصاها ورحلت، لتترك القاهرة وراءها في سنة 1801 كأنها باريس في سنة 1789، سنة الثورة الفرنسية الكبرى، على حد وصف القنصل الفرنسي الذي قال: «كل مصري، مهما كان فقيرًا، يبيع الآن ما يملك، ليشتري سلاحًا».

كانت المعركة مزدوجة، ضد الاحتلال أولًا، وضد عودة المماليك تاليًا، وكانت مصر تتنازعها آنذاك رغبتان دوليتان، رغبة بريطانية طامعة في الاستيلاء على مصر، ورغبة عثمانية طامحة لاسترداد السلطة التي فقدتها في مصر، وتحرك الشعب تحت قيادة علمائه لتجري أول عملية اختيار للحاكم تتم بإرادة شعبية خالصة، ففرضت «محمد علي» واليًا على مصر.

**

اكتسب المصريون خبرة جديدة أثناء مواجهتهم للحملة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، وكانت تلك الثورات الشعبية هي أول صفحة في كتاب دخول الشعب المصري كقوى مؤثرة في معادلة الحكم في مصر، وحسب قول المستشار طارق البشري في كتابه «محمد علي ونظام حكمه» فقد (صار عامة المصريين قوة سياسية حلَّت محل قوة المماليك، أو نمت على حسابها)، وهو الأمر الذي عادةً ما يتكرر مع كل ثورة يحضر فيها الشعب ويسقط فيها الحكام.

وهو بالضبط ما جرى في السنوات الخمس الأولي من القرن التاسع عشر التي شهدت حالة من الثورة المستمرة ضد الباشوات العثمانيين والأمراء من المماليك، وانتهت هذه الحالة بانتزاع المصريين حقهم في اختيار حاكمهم، وفرضوا علي السلطان العثماني اختيارَهم «محمد علي» حاكما لولاية مصر، وفي نفس الوقت ألزموا «الباشا الجديد» الذي اختاروه لأول مرة، بشروط كان عليه أن يلتزم بها في إدارة أمور البلاد.

المدهش في هذا المشهد التاريخي الفريد أنه يقارب في بعض ملامحه ما حدث خلال ثورة 25 يناير سنة 2011، فقد انتصرت الإرادة الشعبية المصرية الرافضة لعودة شكل ونمط الحكم الذي كان قائمًا قبل الحملة الفرنسية، وفرضت الحركة الشعبية -بتحالفها مع الجيش- خلع الوالي العثماني، وفرضت على السلطان تعيين حاكم جديد اختارته بإرادتها الحرة.

**

واللافت أن القوى الشعبية المصرية لم تبايع «محمد علي» واليًا على مصر إلا بعدما أبرمت معه اتفاقًا يمكن أن نعتبره تعبيرًا جنينيًا عن فكرة «الدستور» المنظم للعلاقة بين الشعب وحاكمه، وكان من أهم ما جاء في هذا الاتفاق أنه «يحق لشعب مصر تعيين الولاة، وعزلهم، إذا انحرفوا عن الطريق القويم، ولم يقيموا العدل».

من هنا فنحن لا نبالغ حين نقول: إن الشعب المصري يخوض منذ قرنين من الزمان حربًا متعددة المعارك من أجل الديمقراطية، وقد وعت النخب المصرية عبر العقود المتتابعة منذ اختارت الإرادة الشعبية «محمد علي» واليًا على مصر ضرورة وأهمية وجود قواعد حاكمة تنظم العلاقة بين الشعب والحاكم.

حقًا إن هذه التجربة المبكرة في فرض الشعب لشروطه على حكامه، وتدوين هذه الشروط في وثائق مكتوبة، لم يقدر لها النجاح، إلا أنها كانت تجربة مبكرة، وخطوة أولية في طريق طويل خاض فيه الشعب المصري نضالات متتابعة من أجل أن يأتي اليوم الذي يستطيع فيه أن يكون هو مصدر السلطات وصاحب الكلمة العليا في القرار الوطني.

**

راهن أجدادنا في بدايات القرن التاسع عشر (1805) على مركز جديد للسلطة في مصر، ارتأوا أن الضابط الألباني «محمد علي» هو المنقذ الذي سوف يخلصنا من سطوة المماليك، ومن جشعهم للتسلط على رقاب العباد، فحكم مصر حكما فرديا قرابة نصف قرن، حقق الكثير من الانجازات، وصار هو القطب المهيمن، قائد العسكر، والتاجر الأول، وصاحب الأرض، وصارت مصر في جعبته، ومن بعده في جعبة ورثته، فتوارثونا كالمتاع جيلا من بعد جيل.

في أواسط القرن، بالتحديد مع اعتلاء «الخديوي إسماعيل» عرش جده وأبيه، شهدت الحكاية تطورًا كبيرًا وملموسًا، حين دخلت «الحياة البرلمانية» ضمن قاموس الممارسة الوطنية بعد تشكيل «مجلس شورى النواب»، في عام 1866، واستمر ثلاثة عشر سنة حتى يوليو 1879، وكانت دورة انعقاده الأخيرة نقطة تحول وبداية اشتعال «الثورة العرابية».

ومع اشتعال جذوة النضال الوطني من أجل الانعتاق من جعبة الحكام، استطاعت الحركة الوطنية المصرية أن تحقق تقدما ملحوظا على هذا المسار الطويل أدى إلى رفض التدخل الأجنبي في الشئون المصرية، وفي نفس الوقت رفض الهيمنة الخديوية على القرار من دون الرجوع إلى ممثلي الشعب وقادته، وانفجرت في النهاية الثورة، واستعان الخديوي «محمد توفيق» عليها بالاحتلال الإنجليزي لمصر الذي دام سبعين سنة، فقط من أجل أن يستمر جلوس الحاكم على عرش البلاد، حتى ولو بقي حكمه صوريًا، بعد أن صار الأمر كله بيد المعتمد البريطاني بالقاهرة.

**

خلال أربعين سنة بعد احتلال الإنجليز لمصر تواصل النضال الوطني بأشكال مختلفة، بزعامات جديدة، تحت رايات وطنية، حتى اندلعت الثورة الشعبية الأكبر في تاريخنا الحديث، ثورة مارس 1919، والتي مكنت مصر من أن تضع ثاني دستور لها، وربما هو الدستور الأول على الحقيقة:

أولا: لأنه جاء على منوال الدساتير الحديثة وقتها (الدستور البلجيكي).

وثانيا: لأنه تضمن أول محاولة جادة للحد من سلطة الحاكم الفرد ممثلا وقتها في السلطان فؤاد الأول، وتحويل سُلطته إلى ملكية دستورية نيابية (مصر دولة ذات سيادة، وحكومتها ملكية وراثية، وشكلها نيابي) حسب نص المادة الأولى من دستور سنة 1923.

والأهم من ذلك كله أن دستور 1923 ألزم الملك بأن «يتولى سلطته بواسطة وزرائه» (المادة 48)، وأصبح «مجلس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة» (المادة 57)، ولم تعد توقيعات الملك في شئون الدولة نافذة إلا «بعد أن يوقع عليها رئيس مجلس الوزراء» (المادة 60).

وكانت تلك خطوات واسعة في مسيرة الخروج من جعبة الحاكم المتحكم، والملك المستبد.

**

دارت الحياة السياسية في مصر -خلال النصف الأول من القرن العشرين- حول محورين: الاستقلال والدستور، كان الاستقلال وقتها يعني التخلص من استعمار الأرض واحتلال الإرادة والقرار، وكان الدستور يعني إعلاء الإرادة الشعبية، واعتبار الأمة مصدر السلطات، والخروج من عباءة الحكام المستبدين.

والذي ينظر بتمعن في حاضرنا يجدنا في حاجة إلى خوض غمار نفس المعركتين، لكن في ظروف جديدة، وأوضاع مستجدة، مع الإضافة التي أدخلتها «ثورة يوليو» على أهداف النضال الوطني ممثلة في تحقيق العدل الاجتماعي، وهي الإضافة التي جاءت «ثورة يناير» لتؤكد عليها وتضعها في صدارة أهدافها.

«الاستقلال» اليوم يعني قدرتنا على تخليص القرار الوطني من التحكم فيه، أو استتباعه إلى المتنفذين على ساحة الصراعات الإقليمية والدولية، صحيح أنه لا يمكن أن نتخلص من التأثيرات التي صارت كبيرة ومتنامية على صناعة القرار الوطني، ولكن المهمة الجديدة تتعلق بالكيفية التي نجعل بها هذه التأثيرات في حدودها الدنيا، ويستلزم تحصين استقلالنا العمل على الخروج من إسار التبعية والاعتماد على التنمية المستقلة.

أما «الدستور» فهو معركتنا التي بدأت منذ قرن وما تزال قائمة حتى اليوم.

**

عاشت مصر تجربة دستورية طويلة منذ أول القرن التاسع عشر وحتى دستور 2014، وهي تجربة ثرية، ولكنها مريرة، الثابت الوحيد فيها أن جميع الحكام الذين تتابعوا على دكة الحكم في مصر لم يكن «الدستور» في نظرهم إلا عائقا، سرعان ما يتخلص الحاكم من عوائقه، أو يركنه –إهمالًا- في أدراج مغلقة لا تفتح إلا ساعة يرحل عن سدة الحكم

بعد تمعن لهذه التجربة الطويلة أجدني من أنصار العودة إلى «النظام البرلماني»، ومن دعاة تحقيق التوازن –أولًا- بين السلطات، ما يعني الحيلولة دون تغليب سلطة على أخرى، وضمان التعاون –ثانيًا- بين كل السلطات، وأرى أننا نملك تجربة سابقة مع النظام البرلماني الذي أقرَّه دستور 1923، وهي -رغم كل مآخذنا عليها- تبقى تجربة برلمانية ثرية.

**

أزعم أن مشكلتنا لم تكن في النظام البرلماني، بل جاءت كل المشاكل بسبب الخروج الفظ عن الدستور، والعصف بروحه، ومخالفة نصوصه، بالعدوان عليه، أو إلغائه، أو تعديله ليوافق مقاس الحاكم الساعي إلى الانفراد بالحكم والاستبداد بالرأي.

تنصب مآخذنا على التجربة البرلمانية الأولى بالأساس على مسألتين رئيسيتين، أولهما تتعلق بالتلاعب بالدستور، وثانيهما تختص بنوعية الأحزاب التي جرى تصنيعها على أيدي القصر من ناحية، وتلك التي استظلت تحت رعاية سفارة الاحتلال من ناحية ثانية، ما ساعد القصر على أن يتلاعب بالدستور وبالصيغة الحزبية كلها، وكانت سفارة الاحتلال ترعى التلاعب الذي يمارسه الجميع.

كانت مشكلة تجربتنا البرلمانية طوال العقود الثلاثة التي أعقبت ثورة 9 مارس 1919 تتمثل في العلاقة بين القصر والسفارة، التي تدور بين التحالف والتشاكس، وطوال 30 سنة لم يستطع حزب الوفد صاحب الأغلبية الكاسحة في الأوساط الشعبية أن ينفذ إلى السلطة إلا في الأحوال التي يتحول فيها هذا التحالف إلى مشاكسات، أو تتباعد مصالح كل طرف من أطرافه عن الأخرى في لحظة معينة، وحين تعود الأمور إلى نصابها لم يكن لهذا التحالف هدف غير إبعاد الوفد عن السلطة.

**

خلال هذه المسيرة الطويلة جرَّبنا النظامين، ولنا فيهما تجارب متعددة، وبالضرورة خبرات كثيرة، «نظام برلماني» ولد إثر ثورة شعبية كبرى، وكانت الحشود الشعبية تزحف إلى الانتخابات حين تواتيها الفرصة لاختيار مرشحي حزب الثورة (الوفد)، لكنه ظل طول الوقت تحت سقف الملك، وتحت نفوذ الانجليز، وظل قائمًا طوال المدة من سنة 1923 إلى سنة 1952، ثم «نظام رئاسي» حُكمنا به طوال سبعة عقود حتى اليوم، وجلب على البلاد الكثير من الويلات، وعانينا الكثير من نوعية الحكام الذين يتنافسون على الدخول في قائمة الأسوأ على مر تاريخنا الحديث.

لست أرى أن دستور 1923 هو أفضل الدساتير لـ«النظم البرلمانية»، هناك مشروع دستور لم يتسنَ له أن يرى النور، هو مشروع دستور 1954، وهو أيضًا تبنى النظام البرلماني، ولكن ثورة يوليو كانت قد تبنت النظام الرئاسي، الذي كرَّسته كل الدساتير التي ظهرت منذ أول إعلان دستوري، مرورًا بدستور 1956 وكل الدساتير المتعاقبة إلى الدستور الحالي، وكلها تكاد تدمج كل السلطات في السلطة التنفيذية، ثم تضعها جميعًا في قبضة الرئيس.

**

أعرف أن النظام البرلماني سوف يواجه عقبات كثيرة عند تطبيقه، وهي عقبات يمكن تجاوزها حسب ما أرى وأقدر، لكني أتعجب من إصرار البعض منا على استمرار الحكم الرئاسي، رغم أنها الصيغة التي بدأت وانتهت بدمج السلطات كلها ووضعها في يد حاكم فرد متحكم، يقرر بها ما يشاء، ويتحكم من خلالها في حاضر المصريين، ولا يكتفي بذلك بل تمتد سطوته إلى التأثير السلبي على مستقبل البلاد.

السؤال الأهم اليوم يدور حول الكيفية التي نحقق عبرها مبدأ أن يكون الشعب حقًا هو مصدر السلطات، وأن تكون له الكلمة العليا في صياغة حياته وصناعة مستقبله.

كيف يتم اختراق تركيبة السلطة التي كرست طوال العقود الماضية وحدانية الحياة السياسية؟.

في ظني أن الجمهورية البرلمانية هي الحل.

الأحد المقبل نواصل الحديث.