كلما توالت الإخفاقات وتراكمت الأزمات وعجزت الأنظمة الحاكمة في بلادنا عن تحقيق ما وعدت به من تنمية ورخاء وتقدم. أو على الأقل توفير الحد الأدنى من احتياجات الناس المعيشية. ألقت الحكومات بالكرة في ملعب الشعب. محملة إياه نتائج سوء إدارتها ملفات الاقتصاد والصحة والتعليم وغيرها. وكأن هذا الشعب الذي لم يُتح له حرية اختيار حُكامه هو المسؤول عن إدارة مؤسسات الدولة وتعيين القائمين عليها ووضع الرؤى والخطط والميزانيات لها.

على مدار أكثر من 6 عقود ظلت “الزيادة السكانية” هي الشماعة التي تعلق عليها أنظمة الحكم المتعاقبة في مصر مسؤولية الإشكاليات الاقتصادية الكبرى. فتنامي عدد السكان بشكل هائل “يؤثر سلبيا على عائدت التنمية وعلى نصيب الفرد من الإنفاق على التعليم والصحة والإسكان وغيرها من الخدمات”.

قد تكون تلك المعادلة صحيحة نظريا. فالزيادة السكانية تلتهم بالفعل عائدات النمو وتؤثر على خطط التنمية وفرص العمل ومعدلات الفقر واستهلاك الموارد الطبيعية. لا سيما الطاقة والمياه.  ومن ثم على حالة الاستقرار الاجتماعي والسياسي للبلاد. لكن من الناحية العملية يجب أن نسأل: من هو المسؤول الأول عن تنظيم الحالة السكانية في مصر؟. هل هو الشعب المغلوب على أمره أم السلطة ومؤسساتها الصحية والتعليمية والإعلامية؟

في كلمته أمام المؤتمر القومي للسكان طالب الرئيس الراحل حسني مبارك بتحقيق “توافق مجتمعي حول الأهداف القومية للسياسة السكانية وأسلوب ترشيد معدلات النمو السكاني”. التي رأى أنها تؤثر بشكل سلبي على عائدات التنمية في مصر التي كان نحو 20 في المئة من سكانها يقعون تحت خط الفقر.

وشدد مبارك خلال المؤتمر الذي عقد في يونيو 2008 على أن الزيادة السكانية تلتهم النمو الاقتصادي والتنمية. وتسهم في ازدحام الطرق ومشكلات المرور والمواصلات والعشوائيات وتؤثر تأثيرا سلبيا على نصيب الفرد من الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية والإسكان ونصيبه من المياه والأراضي الزراعية.

رسائل مبارك في هذا الصدد لم تختلف عن رسائل سلفيه السادات وعبد الناصر. فالأول الذي وعد المصريين بعد انتصار أكتوبر بتحقيق الرخاء والتنمية عاد وأعلن أن مصر تحتاج إلى سنوات من الجهد والعرق لتحسين اقتصادها. وطالب المصريين بتنظيم النسل لتخفيف الضغوط عن الاقتصاد المتأزم.

أما عبد الناصر فأشار خلال خطابه في الذكرى العاشرة لثورة يوليو إلى أن الزيادة السكانية تتعارض مع خطط الدولة للتنمية. مؤكدا أن الزيادة السكانية أصبحت قضية ملحة “إذا كنا وصلنا في زيادة السكان إلى أكبر نسبة في العالم -باكستان أكبر نسبة وإحنا نمرة ٢- والزيادة 2.7 والإحصاء الأخير قال إن مصر زاد تعدادها وصل 30 مليونا. ومعنى هذا أن إحنا كل سنة حنزيد مليون. طب حنوكل المليون دول منين إذا لم نعمل؟ يعني لازم نعتمد على نفسنا”.

أما الرئيس عبد الفتاح السيسي فخلال تدشينه المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية قبل أيام فأشار إلى أن معدلات النمو السكاني تؤثر على الاستقرار الحقيقي للدولة المصرية. مؤكدا أن السبب الحقيقي لاستقرار الدولة هو الرضا المجتمعي.

وقال السيسي: “مشروع تنمية الأسرة خطوة وبعد كده نشوف كل شهرين تلاتة معدلات النمو السكاني ونتكلم ونيجي نقعد كده”. لافتا إلى أن الزيادة السكانية ليست مسؤولية أجهزة الدولة فقط: “كلنا محتاجين نتحرك. عشان نقول للناس خلوا بالكم أن العدد ده الزراعة والطريق والتعليم مايكفوش. ملوش شغل. انتوا جايبينهم ليه؟ علشان تعذبوهم؟”.

وأشار الرئيس إلى ما أعلنته الدكتورة هالة السعيد -وزيرة التخطيط- خلال افتتاح المشروع بأن معدل النمو 6%. وقال: “إحنا عاوزين معدل النمو في مصر 60% عشان نوفر 5 تريليون دولار ناتج محلي. وعشان نوفر الخدمات اللي بتتقدم في أوروبا. والتعليم اللي في أوروبا. وأخلي فيه وعي وتوعية زي اللي في أوروبا. أنا مش بقدر أعمل ده”.

وتحدث الرئيس عن غلاء السلع. مشيرا إلى أن معدلات النمو لا تتناسب مع معدل النمو السكاني: “عندنا عجز متراكم على مدار 50 سنة. القضية مشتركة وليست قضية سلطة. مفيش نظام في مصر.. أنا زيكم ومعاكم ومنكم.. ولو مش قادر والله والله والله هديكم التحية وأمشي”.

وأكد الرئيس أن ارتفاع معدلات الزيادة السكانية من الأسباب الرئيسية لتردي الدولة: “في 2014 قولت الكلام ده. السبع السنين دول زدنا 14 مليون. جالي أرقام دخل تكفي هذ النمو؟. طبعا لا. ده عجز من الدولة؟ لا. قدرة الدولة مش متمشية مع قدرة نمو الدولة”. مذكرا بأن سبب خروج الناس في 2011 هو عدم وجود رضا مجتمعي: “مفيش حاجة مكفية. ومفيش تعليم كويس. وبدل ما نقول إن أداء المواطن بقينا في مواجهة الدولة. ومش باخدكم بعيد عن الهدف اللي بنتكلم فيه. بنغير أسباب التردي”.

اللافت أن رؤساء مصر خلال السنوات السبعين الماضية كما اتفقوا على أن الزيادة السكانية أحد أبرز أسباب أزماتنا الاقتصادية اتفقوا أيضا على تحميل المواطن المصري المسؤولية عن ارتفاع أعداد السكان. وتناسوا جميعا أن هذا المواطن لا يضع خططا ولا يدير مؤسسات ولا يُمكَّن حتى من اختيار الحكومات المنوط بها تنفيذ تلك الأمور ومتابعتها، ولا من يراقب أعمالها ويسائلها ويحاسبها.

شهدت مرحلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي تجربة ناجحة نسبيا للحد من الزيادة السكانية. حيث تمكنت حكومات نظام مبارك في هذا الوقت من تطبيق سياسات لتنظيم الأسرة وصلت بمعدل الخصوبة إلى 2.8 طفل لكل امرأة في عام 2011. بعدما كانت 5.3 عام 1980. ثم عاد الرقم ليقفز إلى 3.5 طفل في 2014 ثم تراجع إلى 3.33 في 2020.

وأرجع خبراء ارتفاع هذا المعدل بعد 2011 كنتيجة مباشرة لحالة الفوضى التي سادت البلاد عقب أحداث ثورة 25 يناير. فالدولة ومؤسساتها كانت شبه غائبة في تلك الفترة.

الشاهد أن مواطن الثمانينيات والتسيعينيات تجاوب مع حملات الحكومة لتنظيم النسل. بالرغم من محدودية منصات الإعلام من حيث العدد والانتشار مقارنة بالآن. وبالرغم أيضا من تزايد الطلب على التعليم وارتفاع مستوى المعيشة في القرى والمدن مقابل تفشي الأمية والفقر خلال العقدين المشار إليهما.

شرح مقال نشرته صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” الأمريكية كيف شهدت إيران أكبر وأسرع انخفاض تم تسجيله على الإطلاق فيما يتعلق بمعدلات الخصوبة. من نحو سبعة ولادات لكل امرأة إلى أقل من ولادتين حاليا في غضون نحو 30 عاماً.

صدرت الفتاوى الشرعية التي تتيح استخدام وسائل منع الحمل التي وفرتها الحكومة مجانا في العيادات العامة. بما في ذلك الآلاف من المراكز الصحية في المناطق الريفية. وروج العاملون الصحيون لوسائل منع الحمل كوسيلة للمباعدة بين الولادات والمساعدة على الحد من وفيات الأمهات والأطفال. وتم إلزام الأزواج الراغبين في الزواج بتلقي المشورة بشأن تنظيم الأسرة، وهي إجراءات مماثلة للتجربة المصرية التي بدأت في ذات الوقت تقريبا وحققت نتائج إيجابية للغاية.

وتقول هولي داجريس -محللة أمريكية من أصل إيراني- في مقال على موقع البنك الدولي إن مصر بحاجة إلى استراتيجية جديدة لنزع فتيل قنبلتها السكانية الموقوتة. مذكرة بما جرى في بلدها الأصلي من تغيير جذري في نهج الحكومة للتعامل مع الأزمة السكانية.

وأشارت إلى أنه نتيجة لانخفاض معدل الخصوبة في إيران بشكل كبير جدا قررت حكومة أحمدي نجاد عام 2011 إلغاء نظام تنظيم الأسرة في البلاد وتقديم حوافز مالية لتشجيع الأسر هناك على إنجاب مزيد من الأطفال.

ولفتت النظر إلى عامل كان له تأثير بالغ على الحد من ظاهرة الانفجار السكاني. وهو الاستثمار في التعليم. “من عام 1976 إلى عام 2011 تضاعف معدل الإلمام بالقراءة والكتابة بين الشباب في البلاد إلى 98 في المائة”.

عدد من المنظمات الدولية -ومنها مجموعة البنك الدولي- أكدت أن العلاقة بين التعليم وتنظيم الأسرة علاقة مباشرة. “عادة ما تكون لدى النساء المتعلمات أسر أصغر حجماً وأكثر صحة. وبالمثل فإن معدلات الخصوبة تنخفض عندما يكون النساء لديهن ما لا يقل عن سبع سنوات أو أكثر من التعليم. وفي حين أن تنظيم الأسرة يمثل عاملاً حاسماً في الوقاية من المخاطر الصحية لدى النساء الحوامل. فإن التعليم هو الذي يمكن السكان من اتخاذ قرارات حكيمة”. تضيف داجريس مؤكدة أنه حتى تتمكن مصر من مواجهة مشكلة النمو السكاني السريع فعليها أن تركز أولا على تحسين جودة التعليم.

مركز بصيرة لبحوث الرأي العام أكد في دراسة نشرها عام 2016 عن تحليل الوضع السكاني لمصر ضرورة تزويد المصريين بالكفاءة والمهارة والمعرفة وتشجيعهم على تبني العادات والقيم التي تتوافق مع التنمية. حتى لا نحيد عن مسار التنمية المنشود.

من المؤكد أن زيادة معدلات النمو السكاني يشكل ضغطا هائلا على الموارد الطبيعية. مثل الطاقة والمياه. وبالطبع هناك علاقة طردية بين ارتفاع عدد السكان ومستوى معيشة المواطنين في ظل محدودية الموارد. لكن حل الأزمة بدءا من وضع الخطط ومتابعة تنفيذها هو مسؤولية الحكومة. وكما استجاب المواطن في مصر خلال فترات سابقة وفي دول أخرى بالمنطقة تشابهت ظروفها مع ظروفنا فمن المتوقع أن يتفاعل هذا المواطن مع خطط في الدولة في هذا الصدد.

لو وضعت الدولة ملفي التعليم والصحة على رأس أجندة أولوياتها وعملت على تقديم مستوى خدمة تعليمية وصحية جيدة فستحقق أهدافها في هذا الملف. وكفانا تحميل الشعب مسؤولية إخفاق حكامه. فهذا الشعب الذي حُرم من حقوقه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تحمل أكثر مما يحتمل.

شرعية الأنظمة الحاكمة مرهونة برضا الشعوب. والوصول إلى حالة الرضا أو القبول الشعبي مشروط بتنفيذ الحكومات للحد الأدنى من وعودها بتحسين حياة المواطنين. دون هذا القبول والإصرار على تحميل الشعب مسؤولية أي إخفاق أو فشل وكأنه هو المسؤول يضرب جدار شرعية الأنظمة بشروخ يصعب جبرها.