يمثل الفقر والحرمان خطرًا على السلام والاستقرار السياسي والاجتماعي والأمني. حيث ينتج الفقر بيئة خصبة لنمو العديد من أشكال الانحراف والتطرف.

يعرف الفقر بـ”عدم القدرة على تدبير الغذاء اللازم -الجوع”. أو “عدم توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للفرد أو الأسرة. وتتمثل هذه الاحتياجات في الطعام والمسكن والملبس وخدمات التعلم والصحة والمواصلات. ويعرف خط الفقر القومي بأنه “تكلفة الحصول على السلع والخدمات الأساسية سواء للفرد أو الأسرة”.

وتتباين أسباب الفقر. ففي الوقت الذي تلقي المؤسسات الرسمية ذلك على الزيادة السكانية التي تلتهم معدلات التنمية في الموقف الرسمي للدولة. يرجعها بعض خبراء الاقتصاد إلى حزمة الإجراءات التقشفية التي اتخذتها الحكومة ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي. ومنها رفع الدعم وتخفيض الإنفاق الحكومي في قطاع الخدمات الصحة والتعليم والنقل. ما أسهم في الفقر بنسبة كبيرة وتراجع أبناء الطبقة الوسطى عن الشراء والوفاء باحتياجاتهم.

الزيادة السكانية وأثرها على ارتفاع الفقر

الفقر نوعان: فقر مدقع وهو نسبة السكان الذين يقل استهلاكهم الكلي عن خط الفقر الغذائي. بما يعني أن الواقعين تحت هذا الخط يعانون الجوع. وقد ارتفعت نسبة هؤلاء وفقا لـ”المركزي للإحصاء” من 5.9 في 2018 و2019 إلى 6.6 في 2020.

وربط الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في أكتوبر الماضي نسبة الفقر بحجم الأسرة وزيادة عدد أفرادها. وإن 80.6% من الأفراد الذين يعيشون في أسر بها 10 أفراد أو أكثر هم من الفقراء. و48.1% للأفراد الذين يقيمون في أسر بها 6-7 أفراد فقراء. مقارنة بـ7.5% بالأسر التي بها أقل من 4 أفراد.

وأشار الجهاز إلى تزايد نسبة الفقراء مع زيادة حجم الأسرة. لأن تلك الأسر الفقيرة ليس لديها الحماية الاجتماعية الكافية. وبالتالي تلجأ إلى زيادة عدد الأطفال كنوع من الحماية الاجتماعية عند التقدم في السن أو الإصابة بالمرض باعتبارهم مصدر دخل.

الفقر والتعليم

وحول نسبة الفقراء وفقاً للحالة التعليمية أشار جهاز “الإحصاء” إلى أن مستوى التعليم هو أكثر العوامل ارتباطًا بمخاطر الفقر. حيث تتناقص مؤشرات الفقر كلما ارتفع مستوى التعليم.

ويقول الجهاز إن هذه الأسر اضطرت إلى التغاضي عن جزء من الإنفاق على الغذاء حتى تتمكن من تغطية نفقات غير غذائية ضرورية. ولا تستطيع الاستغناء عنها مثل الإنفاق على المسكن والمواصلات.

آليات تعامل فقراء الريف مع الفقر

وفي دراسة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية رصد الآليات التي يتبعها فقراء الريف لتلبية احتياجاتهم.

وقد أجريت الدراسة على عينة من 1000 أسرة فقيرة في محافظات دمياط والشرقية والمنوفية وبني سويف وسوهاج.

وذكرت الدراسة أن الفقراء يلجؤون إلى التكيف مع أنماط استهلاكية معينة تتماشى مع اللحد الأدنى من دخولهم. وتتمثل في أولا: تخفيض الإنفاق على الحاجات الأساسية. والاعتماد على الخدمات الحكومية المجانية أو شبه المجانية.

شراء السلع الضرورية فقط بالتقسيط أو اللجوء إلى التكافل الاجتماعي عن طريق الاستدانة من الأقارب والاقتراض والاعتماد على المساعدات المالية العينية لتحقيق الاكتفاء الذاتي.

وأشارت الدراسة إلى لجوء هذه الأسر إلى الاعتماد على المساعدة من المؤسسات الدينية أو الاجتماعية التابعة لها.

تراجع الفقر.. مؤقت

أعلنت الحكومة في الربع الأخير من العام الماضي انخفاض نسبة الفقر في مصر من 32% في 2018 إلى 29.7% خلال العام المالي 2019-2020. وذلك بنسبة انخفاض قدرها 2.8%. ورجعت ذلك في أحدث تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والإصلاحات الاقتصادية التي نفذتها الدولة وركزت فيها على البعد الاجتماعي للتنمية. والتي تستهدف عبره تخفيض النسبة إلى النصف خلال 2024 والقضاء عليها بحلول 2030 وفقا لاستراتيجية التنمية المستدامة 2030.

تهدف الدولة إلى تحسين معيشة الأسر الفقيرة بوضع برامج حماية ورعاية اجتماعية ضمن المشروع القومي لتطوير قرى الريف المصري -“حياة كريمة”. وتحسين مستوى خدمات البنية الأساسية والعمرانية “صرف صحي- مياه شرب-رصف طرق-غاز-كهرباء-بريد”.

ويهدف المشروع إلى تحسين جودة خدمات التنمية البشرية “التعليم-الصحة- الخدمات الرياضية والثقافية”. وتحقيق التنمية الاقتصادية والتشغيل “الشمول المالي-قروض للمشروعات الصغيرة-تدريب وتأهيل مهني-مجمعات صناعية/تنمية زراعية وسمكية”.

وتستهدف مبادرة “حياة كريمة” تطوير وتحسين حياة جميع قرى الريف المصري البالغة 4600 قرية. بالإضافة إلى 30 ألف كفر ونجع وعزبة تابعة. ويبلغ إجمالي المستفيدين 58 مليونا بتكلفة إجمالية 700 مليار جنيه.

الدكتور خالد عبد الفتاح -رئيس قسم الاجتماع بجامعة حلوان- يعتبر البرامج الحمائية التي تضعها الحكومة. مثل “تكافل وكرامة وحياة كريمة وإنشاء مرافق ومراكز شباب وبريد وغيرها” هي نوع من تسهيل الحصول على الخدمات وإتاحتها. وإن كانت ضرورية في رأيه فهي لا علاقة لها بتحسين معدلات الفقر.

ماذا وراء انخفاض مؤشرات الفقر؟

وقال “عبد الفتاح” لـ”مصر 360″ إن انخفاض مؤشرات الفقر لا يعني تخطي الأزمة أو تحسين الأوضاع المعيشية للفقراء بشكل دائم. إنما هي وضع مؤقت في نظره. مشيرا إلى أن هذه الإحصائيات مبنية عللا رصد فرص عمل مؤقتة من التشغيل في قطاع المقاولات والطرق والبنية الأساسية التي تستوعب عمالة كثيفة تفرضها طبيعة المرحلة. لكنها ليست دائمة. “فبمجرد الانتهاء منها ستعود معدلات البطالة إلى أعلى مما هي حاليا بفعل نمو السكان.

ويرى “عبد الفتاح” أنه حتى الآن لم تشتبك الدولة مع قضايا حقيقية اقتصادية تسهم في زيادة فرص العمل وخفض معدلات البطالة بالريف. فلم تهتم بالاقتصاد الزراعي وما يرتبط به من قطاعات أخرى كالثروة الحيوانية وتربية الدواجن والأعمال القائم عليها نمط حياة الأفراد والأسر في الريف. فما زالت أوضاعها متدنية ومتدهورة ولا تحقق عائدا في الاقتصاد الوطني ولا يتم دعمها.

مشروعات إنتاجية

واعتبر هاني الحسيني -الخبير الاقتصادي وعضو اللجنة الاقتصادية بحزب التجمع- برامج الحماية الاجتماعية إحدى آليات مواجهة الفقر لكنها لا تحد منه. ووصفها بأنها “نوع من الدعم للشرائح الأكثر احتياجا”.

وعن أسباب انخفاض نسب الفقر ذكر “الحسيني” أنها قائمة مشروعات البنية الأساسية التي تعمل فيها الدولة حاليا واستوعبت نسبة كبيرة من البطالة. ما أدى إلى انخفاضها من 13.4 إلى 9.6. ما أسهم في تحسين أوضاع الأسر الفقيرة “بشكل مؤقت”.

وذكر أن معالجة الفقر وتخفيض معدلاته مرتبط بالسياسة الاقتصادية العامة للدولة وقدرتها على إنشاء مشروعات إنتاجية زراعية وصناعية تستوعب عددا كبيرا من العاطلين. منها رفع معدلات التصدير واستخدام القيمة المضافة العائدة منه في تحسين الاقتصاد. في مقابل الاقتصاد المالي القائم على المضاربة والاستثمار العقاري.

وأشار “الحسيني” أن “الاقتصاد المالي” لا يحقق عائدا يعود على القاعدة العريضة من الناس. لأن قيمته الاقتصادية تضاف لأصحاب العمل. حيث يعتمد على ارتفاع القيمة المالية تلقائيا من خلال فترة زمنية “التسقيع” لتحقيق مكاسب من فروق الأسعار ومثلها مضاربات البورصة.

العدالة الاجتماعية

الدكتور جودة عبد الخالق -أستاذ الاقتصاد ووزير التضامن الاجتماعي الأسبق- في تصريح له عن الفقر قال: إذا قسنا نسبة الفقراء على عدد السكان بالمقارنة مع معدل نمو الاقتصاد نجد غيابا للمساواة والعدالة في توزيع الدخل بين فئات المجتمع. واعتبر برنامج الإصلاح الاقتصادي “لا يصب في مصلحة القاعدة العريضة من المواطنين والمهمّشين”.

وأوضح أن حزمة الإجراءات التقشفية ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي -منها تقليل الدعم- لم تحقق تحسنا في معيشة المواطنين. ما عرضهم لموجة تدهور نتيجة الغلاء والتخلي عن الاستثمار في المشاريع الإنتاجية والاتجاه نحو المشاريع العقارية الأكثر ربحية.

ولفت إلى أن حجم الإنفاق في مظلة الحماية الاجتماعية 700 مليار جنيه. ولو تم وضعه أمام الرقم الموجه لخدمة الدين العام والتي تبتلع ثلث الموازنة سيكون نسبة زهيدة جدا ما يذهب للفقراء.

وقال: علينا العمل بإجراءات مدروسة نحو الإصلاح الاقتصادي لأن مدن الجيل الرابع بعد توقف الإنشاء بها والانتهاء من المشروعات القومية الكبرى تنتهي فرص العمل ونعود للبطالة. فلا بد من تحسين حياة الفلاح والعامل وتحقيق العدالة الاجتماعية المنقوصة في مصر. وهذا يحتاج إلى تغيير جذري.

أرقام

وصف عبد الخالق فاروق -المحلل الاقتصادي- الأرقام المتعلقة بإحصائيات تخفيض الفقر بأنها “مبالغة ومغلوطة وتقلل من الأثر السلبي لهذه السياسات وإظهارها بصورة غير صحيحة”. مستندا إلى تقرير البنك الدولي الصادر في يونيو 2020. والذي أشار إلى أن نسبة المهددين بالوقوع في براثن الفقر في مصر تبلغ 60%. وتكشف حجم المغالطات في الرقم وتحسين وضع الفقراء.

وذكر “فاروق” أن هذا يمكن اكتشافه بسهولة للاقتصاديين في المؤشرات السلبية لمعدلات الفقر. إذ جرى التلاعب فيها مرات عدة. مستشهدا بواقعة اللواء أبو بكر الجندي سنة 2018 عندما أصدر تقريرا عن ارتفاع نسبة الفقر عن السنوات السابقة لها في 2015 بنسبة 5% وذكر التقرير أنها بلغت  32% فتمت إحالته إلى المعاش.

وقال “فاروق” لـ”مصر 360″ إن هناك وسائل رياضية عديدة يمكن من خلالها تحليل الأرقام وربطها بالوضع الاقتصادي ومعدل التضخم والبطالة. إذا كان أعلى أو اقل لتوضيح معدلات الفقر. منها المعادلتان الشهيرتان لقياس نسبة التضخم “باش” و”لابرس”. مبينا أن الأول يظهر النتائج أقل من الحقيقة والثاني يعطي معدلات أعلى. وبالتالي لا يمكن الاعتماد على أن الأرقام صادقة في المطلق. إنما يمكن إظهارها حسب الأساليب الرياضية بما يتماشى مع النظام السياسي.

وأكد أن الإحصائيات يمكن قراءتها عند تطبيق هذه المؤشرات على الواقع ومدى تحسن الأوضاع الاقتصادية للمواطنين الفقراء والطبقة الوسطى وقدرتها على الشراء وتلبية احتياجاتها الأساسية وانخفاض قيمة الدخل أمام هذه المتطلبات.

ووصف “عبد الخالق” السياسات الاقتصادية الحالية بأنها “سياسات إفقار مطلق”. بمعنى أنها تسعى لتحسين مستوى المعيشة لكن نمط الأولويات والتوجهات المتبعة في الإنفاق الحكومي تقف عند حدود نجاح شبكات التضامن الاجتماعي الموجودة. رغم كونها “ضعيفة”. فقد كانت هذه الآليات كانت متبعة منذ عهد الرئيس الأسبق مبارك لكنها لم تحسن مستوى معيشة المصريين. لأنها نظم حمائية جزئية جدا تقل قيمتها وكفاءتها الشرائية في تحسين مستوى الفقر. ما دام هناك معدلات تضخم مرتفعة وبصورة مستمرة ارتفاع أسعار وزيادة معدلات البطالة في المجتمع وتدني أجور.

انعدام الاستفادة

وعن دور بعض المؤسسات الحكومية في الحد من الفقر ذكرت الدراسة أن نصف العينة الدراسية لم تستفد من الخدمات التي تقدمها الوحدات الاجتماعية بالقرى. وذلك لتواضع معرفة تلك الأسر بالوحدات الاجتماعية وأنشطتها. وأن نسبة كبيرة منهم تستفيد من الوحدات الصحية.

وأشارت الدراسة إلى أن نسبة 12.5% فقط هم من يستفيدون من هذه المؤسسات. وقالت إن عددا محدودا للغاية هو المستفيد من البرامج الحمائية التي تقدمها الحكومة بالقرى لمساعدة الفقراء. وتعتمد النسبة الأكبر على مساعدات “أهل الخير”.

وقالت الدراسة إن المعالجة الرسمية لقضايا الفقر في الريف يغلب عليها توجه الرعاية والخدمة وتفتقد إلى التنسيق والتكامل. وأن فقراء الريف يلجؤون لتنوع مصادر الدخل من عمل زراعي وغير زراعي. كما لا يرى غالبية الفقراء في أنفسهم قدرة على مواجهة الفقر لذلك يتعايشون معه.

دور المؤسسات الحكومية

وأكد “القومي للبحوث” ضرورة مزج طرق مجابهة الفقر بين تقديم الدعم والمساعدة وتوقع فرص العمل وتمويل المشروعات الصغيرة. كذلك العمل على تمكين الفقراء من خلال الاستثمار في رأس المال البشري. وتحسين الوضع الصحي عبر زيادة الإنفاق على شبكات الأمان الاجتماعي التي تزود الفقراء بالدعم المادي. وإرساء مبدأ المساواة خاصة في إتاحة فرص التعليم والعمل والإنصاف في الحصول على الدخل والخدمات.

وقال “الحسيني”: “لتخفيض نسب الفقر بشكل صحي وحقيقي يجب تطور الاقتصاد في أحدث قيمة مضافة في قطاعات التعدين. زاستغلال الموارد الطبيعية والصناعات التحويلية مثل “البتروكيماويات” والحديد والصلب وتصنيع الأدوية واللقاحات. لا الصناعة التجميعية التي تعتمد على مكونات مستوردة تلتهم جزءا كبيرا من الميزانية.

وتتوقع وزارة التخطيط “انخفاضا ملحوظا في معدل الفقر نتيجة لتنفيذ المشروع القومي لتنمية الريف المصري -مبادرة حياة كريمة. إلى جانب خفض نسبة الأمية إلى نحو 17.5% في نهاية العام المالي الحالي. مقارنة بـ25.8% وفقًا لتعداد 2017. و18.9% عام 2019 وفقا لنتائج النشرة السنوية لمسح القوى العاملة.

وتستهدف خفض معدل البطالة خلال العام المالي الحالي إلى نحو 7.3%. مقارنة بـ9.6% عام 19-2020. وخفض معدل النمو السكاني إلى نحو 2% بنهاية العام المالي الحالي 2021-2022. مقابل 2.56% عام 2017. بالإضافة إلى تراجع معدل التضخم السنوي إلى 6% في عام الخطة مقارنة بـ13.3% عام 2018-2019”.