في الوقت الذي كانت تسعى فيه كافة دول العالم للسيطرة على تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، بينما تواصلت الإدانات الدولية والعقوبات القاسية على موسكو، كانت هناك أفكار أخرى تدور في أذهان قادة الخليج، وعلى رأسهم حكام الإمارات، بحثًا عن مكاسب يمكن انتزاعها على وقع الضربات التي طالت الأراضي الأوكرانية.

المواقف الخليجية وكان أوضحها الموقف الإماراتي، جاءت بمثابة غصة في حلق الحلفاء الغربيين. خاصة بعد موقف السعودية من أزمة النفط. فقد رفضت زيادة الإنتاج لمواجهة ارتفاع الأسعار الذي ضرب سوق الطاقة على وقع الأزمة. وذلك بخلاف ما وصف بالحياد السلبي لباقي دول مجلس التعاون الخليجي منذ بداية الأزمة.

الحرب الروسية على أوكرانيا.. صفقة أبوظبي-موسكو

فتحت أزمة الغزو الروسي لأوكرانيا الباب واسعًا أمام عقد صفقات سياسية آنية. بينما مهدت لأخرى ذات مدى زمني أبعد. وقد وجدت الإمارات تحديدًا في هذه الأزمة فرصة مهمة، لتحقيق مكسب كان عصيًا على التحقق، دون دفع ثمن باهظ. ذلك عندما انتزعت موافقة مجلس الأمن الدولي على قرار يوسّع الحظر على إيصال الأسلحة إلى اليمن، ليشمل جميع المسلحين الحوثيين. وكان مقتصرًا على أفراد وشركات محدّدة.

كما أن القرار الذي حظى بموافقة روسيا -المقربة من إيران الداعمة للحوثيين- اعتبر “أنصار الله” جماعة إرهابية، وذلك للمرة الأولى.

عدم استخدام موسكو حق النقض (الفيتو) على مشروع القرار الإماراتي أثار تساؤلات لم تستغرق الإجابة عليها أكثر من 48 ساعة فقط. فقد ردت أبوظبي بالامتناع مرتين عن التصويت لصالح قرار أممي يطالب روسيا بوقف عملياتها العسكرية في أوكرانيا. فيما بدا أنه اتفاق وصفه دبلوماسيون غربيون بـ”الصفقة القذرة”.

الحديث عن صفقة إماراتية روسية في هذا الصدد، ردت عليه روسيا عبر مندوبها لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا. سخر الرجل عندما سُئل عما إذا كانت بلاده قد دعمت إدراج الحوثيين على القائمة السوداء مقابل امتناع الإمارات عن التصويت. قال: “نحن لا نفعل شيئًا بالمقايضة مثل بعض زملائنا في مجلس الأمن، الذين يعمدون إلى جانب المقايضة دون أي خجل. بل ويدعون أعضاء مجلس الأمن وأعضاء الجمعية العامة ليفعلوا أو يصوتوا بالطريقة التي يريدون، من خلال وسائل منها طرق غير دبلوماسية”.

خيبة الأمل.. أبوظبي تخالف الغرب بموقفها من الحرب الروسية

لقد جاء الموقف الإماراتي من الغزو الروسي غير متناغم مع التحركات الأمريكية والغربية. وهو يعبر بشكل واضح عن طبيعة العلاقات بين أبوظبي من جهة، وواشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى من جهة أخرى في الفترة الراهنة. ووفقًا لتقارير صحفية غربية، فإن الأوروبيين ومن ورائهم الإدارة الأمريكية “أصيبوا بخيبة أمل كبيرة إزاء امتناع الإمارات عن التصويت مرتين، خلال التصويت على قرارات في مجلس الأمن تتعلق بالحرب في أوكرانيا”.

في المقابل، طلبت إدارة بايدن من إسرائيل التوسط عند الإمارات لإقناعها بتأييد مشروع القرار الأميركي للتنديد بالغزو الروسي لأوكرانيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة. ذلك بعد امتناعها عن التصويت في مجلس الأمن.

ووفقًا لما نلقته مصادر إسرائيلية مخولة بالتواصل مع الإمارات، عبر وسائل الإعلام العبرية، فإن موقف أبوظبي جاء على خلفية “خيبة أمل بالغة” من جانب محمد بن زايد، من رد الفعل الأميركي، على الهجوم الصاروخي الذي نفذه الحوثيون ضد الإمارات.

تزامن الموقفين الروسي الإماراتي، سواء تم بتنسيق مسبق أم جاء كتعبير عن تقارب في المواقف تجاه القضايا المعروضة في مجلس الأمن، هو بمثابة جرس إنذار ورسالة لوشنطن. لأنه يكشف أن العلاقة بين روسيا والإمارات خرجت من دائرة العلاقات الثنائية التقليدية إلى مستو أكبر. وهو يقوم على إكساب التعاون الاقتصادي والعسكري بعدًا سياسيًا ودبلوماسيًا. الأمر الذي لم يتحقق مع الولايات المتحدة، فقاد إلى شرخ بينها وبين دول الخليج، لكونها تضع مصالحها والتزاماتها قبل مصالح شركائها.

اقرأ أيضًا: كيف تفاعلت دول الشرق الأوسط مع أزمة أوكرانيا؟

اختبار ورسائل مشفرة

في اعتراف نادر بالضغوط التي تشهدها الشراكة الاستراتيجية بين واشنطن وأبوظبي منذ وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن للبيت الأبيض نهاية 2021، قال يوسف العتيبة سفير الإمارات لدى واشنطن، وأحد أبرز المقربين من الشيخ محمد بن زايد، إن العلاقات بين بلاده والولايات المتحدة تمر باختبار جاد. وهو يعبر عن عدم ارتياح بلاده في السنوات الماضية بشأن ما تعتبره تراجعًا في التزام واشنطن بأمن شركائها في المنطقة.

حديث العتيبة عن العلاقات بين بلاده والإدارة الأمريكية لم يخل من الرسائل المشفرة، التي يعول على التقاطها من جانب الفاعلين في إدارة بايدن لتصحيح المواقف الأمريكية إزاء قضايا المنطقة. قال: “مثل أي علاقة فيها أيام قوية، العلاقة فيها صحية جدًا، وأيام العلاقة فيها موضع تساؤل.. اليوم، نمرّ بمرحلة اختبار جهد، لكنني واثق من أننا سنخرج منها وسنكون في موقع أفضل”.

الهدف من تصريحات العتيبة، الذي يعرف جيدًا طريقة التفكير الرسمي الأميركية وهي لا تعتمد توجيه الرسائل عبر القنوات الرسمية وتترك المهمة للتسريبات والتأويلات الإعلامية، هو لفت نظر إدارة بايدن للتغييرات في العلاقة الثنائية مع واشنطن. هنا، لسان حال أبوظبي أنه ليست الإمارات هي من تغيّرت أو فضلت تحالفات جديدة. بل ما حصل يرتبط بالموقف الأميركي السلبي تجاه الإمارات والخليج ككل. خاصة بعد موقف الولايات المتحدة بنقل جزء كبير من قواتها وعتادها إلى شرق آسيا، دون قراءة حساب لأمن الخليج ودوله.

قال يوسف العتيبة سفير الإمارات لدى واشنطن، وأحد أبرز المقربين من الشيخ محمد بن زايد، إن العلاقات بين بلاده والولايات المتحدة تمر باختبار جاد.
قال يوسف العتيبة سفير الإمارات لدى واشنطن، وأحد أبرز المقربين من الشيخ محمد بن زايد، إن العلاقات بين بلاده والولايات المتحدة تمر باختبار جاد.

لفت نظر الإدارة الأمريكية.. السعودية أيضًا

بشكل متزامن، قررت السعودية التعبير عن عدم رضاها عن العلاقات مع الولايات المتحدة. ذلك بعدما ظل التوتر مكتومًا منذ وصول بايدن إلى البيت الأبيض.

وقد ظهر الغضب السعودي في تصريحات ولي العهد محمد بن سلمان، عندما وجه انتقادات لإدارة بايدن تتعلق بالضغوط الأميركية ومحاولات التدخل في الشؤون الداخلية للمملكة. لوّح الأمير بخفض الاستثمارات في أمريكا.

وقال بن سلمان، في حوار مع مجلة “أتلانتك” الأمريكية”، إن بلاده لن تقبل الضغوط الأميركية بشأن مسائل داخلية في المملكة أو لتحديد شكل علاقاتها الخارجية.

وفي رسالة واضحة لإدارة بايدن، أكد بن سلمان أن هناك فرص كبيرة لخفض المصالح الأميركية مع بلاده. معتبرًا أن الأمر يرجع إلى بايدن. في وقت لفت إلى أن تخلّي واشنطن عن التزاماتها يعفي الرياض من أيّ التزام ويجعلها تتجه إلى شراكات جديدة.

وتختلف السعودية اليوم عما كانت فيما مضى. ففي 2018 على سبيل المثال، استجابت المملكة لطلب الرئيس الأمريكي -دونالد ترامب وقتها- لزيادة إنتاج النفط اليومي، للسيطرة على الأسعار العالمية. وكان ذلك في وقت تتحرك الرياض تحت وطأة المطالبة بمحاسبة ولي العهد على خلفية اتهامات متعلقة بمقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. في المقابل رفضت السعودية أخيرًا نداءات واشنطن لضخ مزيد من النفط لخفض أسعار الوقود العالمية في ظل الأزمة الأوكرانية.

ملفات التوتر بين الخليج وإدارة بايدن

التوتر في العلاقات بين الولايات المتحدة ودولتي النفط الثريتين السعودية والإمارات، ومن خلفهما بدرجة أقل باقي دول مجلس التعاون الخليجي، له أسباب عدة.

في مقدمة هذه الأسباب موقف واشنطن من الحوثيين وتعاملها بشيء من الفتور مع مطالبات اعتبار الحركة  المدعومة إيرانيًا منظمة إرهابية. وقد بدا ذلك في أكثر صوره مع الموقف الأميركي من الهجمات على الإمارات. والذي اعتبرته أبوظبي “متواضعًا”.

تشعر الإمارات أيضًا بالإحباط من بطء وتيرة تنفيذ صفقة شراء المقاتلات الأمريكية من طراز “إف-35″، والشروط المرتبطة بها. ما دفعها إلى الإعلان في ديسمبر الماضي عن نيتها تعليق المباحثات حول الصفقة. وهي تمثل جزءًا من صفقة أكبر قيمتها 23 مليار دولار. وتتضمن طائرات مسيرة وذخائر متطورة أخرى.

بمحازاة ذلك، جمدت إدارة جو بايدن فور وصولها البيت الأبيض نهاية العام الماضي، بشكل مؤقت، مبيعات الأسلحة للسعودية. وبحسب ما نقلته صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين أمريكيين، فإن عملية المراجعة تشمل بيع ذخائر دقيقة التوجيه إلى الرياض.

وجاء التجميد الأمريكي المؤقت، في وقت تواجه فيه الرياض أزمة متصاعدة. إذ بدأ مخزون المملكة من الصواريخ، وخصوصًا الدفاعية، يتراجع في ظل ارتفاع وتيرة الهجمات الحوثية على أراضي المملكة.

الملف الثالث للتوتر الخليجي الأمريكي برتبط بالملاحظات الأمريكية فيما يتعلق بسجل حقوق الإنسان. ذلك بعدما أصبحت قيود حقوق الإنسان الأمريكية المرتبطة بالدعم الذي تقدّمه واشنطن مسألة شائكة أكثر من أي وقت مضى.

كذلك تراقب كل من الإمارات والسعودية عن كثب جهود إحياء الاتفاق النووي بين إيران والقوى العالمية، والتي قد تثمر في الأيام القليلة المقبلة عما يؤدي لرفع العقوبات عن طهران، وإعطاء اقتصادها دفعة، ويرسخ من موقفها الإقليمي في مواجهة دول الخليج. وهو مادفع الرياض وأبوظبي إلى التأسيس لعلاقات قوية مع دول مثل الصين وروسيا لتعزيز قدراتها على الدفاع والمناورة.

كذلك من النقاط العالقة ولكن بشكل خاص بين أبوظبي وواشنطن، تأتي مخاوف من علاقة الإمارات بالصين. بما يشمل استخدام تكنولوجيا الجيل الخامس من إنتاج شركة هواوي الصينية في الإمارات.

مكاسب اقتصادية على أنقاض الحرب الروسية

في القراءة السريعة للتداعيات التي ترتبت على الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن الدول العربية النفطية وفي المقدمة منها دول الخليج، مرشحة لتحقيق مكاسب كبيرة من وراء الحرب. ولكن في الوقت ذاته ستصطدم تلك المكاسب بارتفاع معدلات التضخم المستورد، الناتج عن ارتفاع تكاليف الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار الطاقة، كون معظم الدول النفطية العربية تعتمد بشكل كبير على استيراد احتياجاتها من السلع والخدمات. وهو ما سيجعلها تدفع جزءًا كبيرًا مما حصلت عليه من ارتفاع أسعار النفط، ثمنًا للسلع والخدمات التي تستوردها.

وبالعودة للمكاسب التي ستجنيها دول الخليج خاصة بعدما وصل سعر برميل النفط لـ117 دولارًا، فإن تقديرات صندوق النقد الدولي، على مدار سنوات الأزمة الماضية في سوق النفط جراء جائحة كورونا، كانت تذهب إلى أن سعر تعادل الميزانيات العامة للدول النفطية العربية يراوح بين 45 دولارًا للبرميل في قطر، و100 دولار للبرميل في البحرين، وبينهما الإمارات عند سعر 60 دولارًا للبرميل، وفي السعودية 75 دولارًا للبرميل، وفي الكويت 65 دولارًا للبرميل.

ومن ثم، وفق الأسعار المعلنة أخيرًا للنفط في السوق العالمية، فإن دول الخليج قد تودع العجز الذي ضرب ميزانياتها، وربما تتجه لتحقيق فائض مالي من عوائد النفط، وقد يكون بإمكانها الاستغناء عن الديون الخارجية والمحلية، كما يمكنها استعادة ما فقدته من أرصدة احتياطيات النقد الأجنبي.

ختامًا، يمكن القول إن الأزمة الأخيرة كشفت عن فجوة في العلاقات الخليجية الأمريكية، اتسعت بعد وصول بايدن للحكم، وإن هذه الفجوة حال استمرت مسبباتها قد تدفع نحو مزيد من العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي والشرق. وهذا التوسع في العلاقات سيتبعه بالضرورة تراجع في مستوى العلاقات الخليجية بالدول الغربية والإدارة الأمريكية.