كان انهيار جدار برلين الدرامي في 1989 إيذانًا بانتهاء حالة من الاستقرار الاستراتيجي الذي فرضته الحرب الباردة. حيث كان للردع الناتج عن سباق التسلح النووي أثره المباشر في توفير قدرٍ مقبولٍ من الطمأنينة أن حربَ مواجهةٍ حقيقيةٍ لن تندلع. وإلا فهو الفناء المحتوم للجنس البشري، لتبدأ بعدها مرحلة جديدة -في طبيعتها- من المواجهات العسكرية في أنحاء متفرقة من العالم بدفعٍ من فوضى ما بعد تحلل حلف وارسو بما كان يمثله من تجمع سياسي وما كان يمتلكه -بهذه الصفة- من سلاح نووي لا يُستخدم وسلاح تقليدي يستخدم بشكل غير مباشر في أضيق الحدود وبحسابات في غاية التعقيد والتركيب وبصيغٍ كان لها ملمح أخلاقي إن اعتبرنا أن ذلك وارد من الأساس وإن كنت -شخصيًا- لا أعُدُه كذلك.
انفلت العقال تمامًا وراحت عصابات السلاح وغسل الأموال تمرح في أرجاء الكون خلال تسعينات القرن الماضي، فاشتعلت حروب عرقية وأخرى مذهبية بخلاف مناوشاتٍ اختلف عمقها وإن ظلت دامية. انفرط العقد برسم الفوضى ودفعت الدول التي كانت تستظل تحت جناح حلف وارسو بشكلٍ أو بآخر ثمنًا باهظًا في الوقت الذي عمل فيه الناتو على تدعيم مكانته كقائد واحد ووحيد للكون. حيث لم يستطع الاتحاد الأوروبي لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية أن يشغل -ولو سياسيًا فقط- الفراغ الذي ترتب على تحلل حلف وارسو الذي أضعف -بغروب شمسه- تجارب دولية مؤسسية أخرى كمجموعة دول عدم الانحياز فشَوَهَ تركيبتها وفرغَها من القدرة على التأثير حين أهدر مقومات قوةٍ نسبية كانت تتمتع بموجبها بمؤهلاتِ لَعِب دور ما في عالم تغيرت ركائزه وأدوات صراعاته لتبدأ فترة التيه الإنساني الطويلة التي أُريقت فيها دماءٌ غزيرة.
والمسألة في عالمنا غير الملائكي تتمحور في القدرة على التأثير بما يُنتِج أو -على أقل تقدير- يُبَشِرُ بتغييرٍ من نوعٍ ما من خلال فرض إرادة ترتكز على أسَاسَين هما: القوة العسكرية والقوة الاقتصادية وهما يؤثران في بعضهما البعض حيث لا قدرة فاعلة بإيجابيةٍ لأساسٍ في غياب الآخر حيث لا يمكن للقوة العسكرية منفردة أن تُملي إرادة ما بمعزل عن قوة اقتصادية تدعمها، ومن زاوية أخرى لا يمكن للقوة الاقتصادية وحدها أن تُثَبِتَ أركانها دون قوة عسكرية تردع منافسيها.
بالإضافة إلى ذلك، فهناك ضرورة قصوى -كي تكتمل القدرة على التأثير- لأن يتواكب هذا المزج الحذر والمتوازن بين أساسي القوة العسكرية والقوة الاقتصادية مع توافر آلة إعلامية فعالة وديناميكية ذات أهداف دعائية تروج لها في سياقٍ ثقافي بل وفي بعض الأحيان أخلاقي! في فترة التِيه الإنساني الطويلة بعد انهيار جدار برلين، كانت هناك محاولات لبعض التجمعات البشرية لإنشاء تحالفات اعتمدت فحسب على أساس واحد جرى الترويج له -قصدًا- باعتباره الأساس الوحيد وهو القوة الاقتصادية، فلم تشهد هذه التجمعات استمرارًا في النجاح بسبب غياب الأساس الآخر وما يتواكب معه من ضرورات، ولنا في البريكس مثال ينبغي دراسة أسباب ضموره بأعلى درجات الدقة.
كان بمقدورِ المتابع المُدقق لتوصيات مؤتمر المناخ COP26 أن يُدرك أن حدثًا جللًا غير مُعتادٍ يوشك أن يقع، فقد تعهدت أغلب دول العالم بالوصول إلى الحياد الكربوني (أي “صفر” انبعاثات كربونية) بحلول منتصف هذا القرن وهو أمر بالغ الأهمية لأثره العظيم في تغيير “شكل” الطاقة التي قام عليها أساس القوة الاقتصادية منذ مطلع القرن الماضي. إنه “النفط” الذي اندلعت بسببه خلال القرن الماضي حروب كثيرة، بل وخُطت حُدود دُوَلٍ بعينها لأجل ترتيب توفيره بأرخص الأثمان. كان هذا يعنى أن النفط باعتباره “شكل” الطاقة التي تسير بها الصناعات التي تنبني عليها القوة الاقتصادية الحالية هو إلى زوال بعد ربع قرن ربما تزيد أو تنقص قليلًا ليحل محله “شكل” جديد بَشَرت ببزوغ عصره توصيات COP26 ليكون مناطًا جديدًا لنزاعات القوة.
استبق الرئيس بوتين الجميع بالحدث الجلل حيث الغاز الطبيعي هو “شكل” الطاقة الجديد وكنزها الموعود مدفوعًا بقوة عسكرية تقليدية حرص الرجل على تنمية تفوقها “الأقليمي” بتؤدة ناظرًا بعينِ الغزل العفيف أحيانًا والصريح أحيانًا أخرى إلى الصين كحليفٍ مُحتملٍ واعد وعَفِي يتواجد في كل البؤر الملتهبة من العالم منافسًا للقائد الواحد والوحيد.
وأظن وليس كل الظن إثم، أن الرئيس بوتين -رغم غطرسته الظاهرة وأحلامه التي تبدو جامحة- هو رجل براجماتي يدرك قدراته جيدًا ويجيد قراءة الواقع ويعرف متى يتوقف للتفاوض وحصد ثمار ما فعله، تلك الثمار التي ربما تبدأ بالحصول على ضمان لحياد أوكرانيا شأن فنلندا -التي أشار إليها في معرض تهديداته- ولا تنتهي بضمانات تتعلق باتفاقات تمكنه من التحكم في حصصٍ من “شكل” الطاقة الجديد (الغاز الطبيعي) و”أساس” غذاء العالم (القمح) على نحو ما في توقيت حرج للغاية تكاد فيه أوروبا أن تنفجر اجتماعيًا واقتصاديًا بسبب أزمة المهاجرين بينما تنشغل أمريكا بتنفيذ برنامج الرئيس بايدن باهظ التكلفة (Build Back Better) BBB وقد وصل حجم دينها العام إلى 1.6 تريليون دولار بما يمثل 125% من ناجها العام، وإن كان للأمر جانب آخر -لا أظنه قد أغفله- يتعلق بإمكانية أن تتحرك دول الحياد كالسويد وفنلندا للانحياز رسميًا بدخول الناتو طلبًا للحماية أو أن تطلب دولة كألمانيا -وقد فَعَلَتْ- زيادة إنفاقها العسكري.
تحمل الأيام القادمة حلولًا لمعضلات سيترتب عليها دون شك -وأيًا كانت النتائج/الثمار- إعادة ترتيب الأوراق والاختيارات بما سيسفر عن هيكلة جديدة لتموضع القوى الدولية القائمة لكن دون تغيير جوهري يمس موازينها الاستراتيجية حيث يقتضي ذلك الأمر تركيبًا نوعيًا وكميًا جديدًا في أسَاسَي القوة لا أظنه مطروحًا الآن.. والله أعلم.